المادة المضادة؛ بين الطب والحرب
نظريًّا، تستطيع حفنة من المادة المضادة توليد كمياتٍ كبيرة من الطاقة، مما جعلها أحد أكثر الطرق الخيالية تداولًا بين العلماء لتزويد المركبات الفضائية بالطاقة مستقبلًا في السفر بين المجرات.
الفكرة سليمةٌ من حيث المبدأ، تشغيل صاروخ بالدفع عن طريق المادة المضادة. المشكلة الأكبر فعلًا هي الحصول على كمية كافية من المادة المضادة لإطلاق هذا الصاروخ. فحتى الآن لا توجد تقنية تستطيع توليد أو جمع المادة المضادة بالكميات الكافية لهذا التطبيق. رغم ذلك، قام بعض الباحثين بدراسة محاكية لهذه الفكرة.
يُكلّف غرام واحد من المادة المضادة حوالي مليون مليار دولارٍ أمريكي فقط، وتُشكّل هذه التكلفة عقبة كبيرة في توليد كميات كافيّة والاحتفاظ بها. ولكي يصبح الأمر تجاريًا، لا بدّ لعامل السعر أن ينخفض بمقدار 10,000 ضعف، كذلك فإنّ مردود الطاقة الذي نحصل عليه أقل بكثير من المبذول في إنتاجها حتى الآن. لكن ناسا لم تتوقف عن تطوير التقنية لجعل هذه السفينة حقيقة. في الواقع، من الممكن حسب بعض الآراء، أن نستطيع استخدام المادة المضادة خلال الخمسين سنةً القادمة.
تصميم هذه السفينة سيتطلب استخدام الديوتيريوم والتريتيوم، وهما نظيران ثقيلان للهيدروجين، يختلفان بعدد النيترونات في النواة، بعكس الهيدروجين الذي لا يحوي إيّاها. يتمّ قذف شعاع من مضاد البروتون باتجاه هذه الذرات، فتبيد بعضها بعضًا منتجةً تفاعلًا نوويًا انشطاريًّا، عند التحكم به يمكننا توجيه المركبة الفضائية وتحريكها.
قد توجد المادة المضادة في جيوب فضائيّة في كوننا
إحدى الطرق التي يحاول بها العلماء حلّ لغز عدم تناظر المادة والمادة المضادة هي بالبحث عن بقايا المادة المضادة من الانفجار العظيم. يقوم كاشف الجزيئات، مطياف الكتلة المغناطيسي ألفا AMS، الموجود فوق محطة الفضاء الدولية، بالبحث عن هذه الجزيئات في الفضاء. يبثّ AMS حقولًا مغناطيسية تحني طريق الجزيئات الكونية للفصل بين المادة والمادة المضادة، لتقوم كواشفه بالتعرف على الجزيئات حال مرورها. تسبب اصطدامات الأشعة الكونيّة بإنتاج البوزيترونات ومضاداتها، لكن احتمال تكوّن مضاد الهيليوم نادرٌ جدًا بسبب كمية الطاقة الهائلة اللازمة لتشكيله؛ مما يعني أنّ ملاحظ نواة مضاد هيليوم واحدة ستكون دليلًا قويًا على وجود كميات كبيرة من المادة المضادة في مكان آخر في كوننا الفسيح.
للمادة المضادة استخدامات طبيّة
يستخدم التصوير المقطعي بإصدار البوزيترون، كما هو مبينٌ من اسمه، البوزيترونات، للحصول على صورةٍ عالية الدقة للجسم. تستخدم النظائر المشعّة للبوزيترونات بعد ارتباطها بمواد تُستهلك في الجسم بشكلٍ طبيعي، كالغلوكوز، ثم تُحقن في الجسم، حيث تتحطم مصدرةً البوزيترونات التي تلتقي بالإلكترونات في الجسم وتبيد بعضها الآخر. يؤدي هذا الاصطدام إلى إطلاق أشعة غاما تُستخدم في تشكيل الصور.
كما قام العلماء في مشروع ACE في سيرن بدراسة المادة المضادة كأحد المرشحين لعلاج السرطان. اكتشف الأطباء أنّ باستطاعتهم توجيه حزمةٍ من الجزيئات نحو الأورام، ولكنّ هذه الحزمة لن تطلق طاقتها إلا بعد اختراق النسيج الصحيّ بأمان. باستخدام مضادات البروتون، تزداد الطاقة المحملة لهذه الحزمة. كانت هذه التقنية فعالة على خلايا الهامستر، لكن ما زال على الباحثين تجريبها على البشر.
قد تكون جزيئات النيوترينو مضادات نفسها!
يحمل جزيء المادة ومضاده شحنات متساوية متعاكسة، مما يجعلها سهلة التمييز. ولا يحمل النيوترينو أيّة شحنة، وبالكاد يمتلك بعض الكتلة، ولا يتفاعل مع المادة إلا نادرًا. يعتقد بعض العلماء أنّها جزيئات ماريورانا، وهو نوع افتراضيّ من الجزيئات الذي يكون في نفس الوقت مضاد نفسه.
تبحث عدّة مشاريع عن هذه الجزيئات، وتحاول تحديد إذا ما كانت النيوترينو فعلًا مضادات نفسها، وذلك بالبحث فيما يُسمى تحلل إشعاع بيتا الثنائي عديم النيوترينو neutrinoless double beta decay. فعندما تضمحل بعض الأنوية الإشعاعية، تقوم بإطلاق إلكترونين وجزيئي نيوترينو. وإن كان النيوترينو مضاد نفسه، فهذا يعني أنّ جزيئي النيوترينو سيبيدان بعضهما، وبالتالي لن يلاحظ العلماء سوى الإلكترونين.
إذا كان النيوترينو هو فعلًا الماريورنا، فإنّ ذلك يشرح عدم اتساق كميات المادة/ المادة المضادة البدئيّة. يعتقد العلماء أن نيوترينوات الماجورنا نوعان؛ ثقيلة وخفيفة، الثقيلة تلاشت بعد الانفجار العظيم مباشرة، والخفيفة هي التي نلاحظها اليوم. بسبب نيوترينوات الماريورنا التي تلاشت في الماضي، ظهرت اختلافات وعدم اتسّاق في كميات المادة والمادة المضادة، مما أدى لزيادة ضئيلة في كمية المادة التي نراها اليوم في عالمنا!.
هل توجد أكوان مضادة؟
حاليًا لا يستطيع الفيزيائيون إنتاج شيء أكثر تعقيدًا من مضاد الهيدروجين والاحتفاظ به. هل يمكننا أن نصنع مضاد الهيليوم أو ربما، جزيئات عضويّة مضادة من مضاد الكربون؟، هل يوجد جدولٌ دوريّ للعناصر المضادة؟.
تكمن المشكلة هنا في بناء الأجزاء تحت الذريّة، فكي تحصل على مضاد الدويتريوم، لا تحتاج سوى مضاد الهيدروجين بالإضافة إلى مضاد النيترون، لكن عليك إذًا صنع مضاد النيترون أولًا. فمضادت النيترون -مثل مضاداتها- عديمة الشحنة الكهربائية، مما يجعل احتجازها في الحقول الكهربائية وتوجيهها مستحيلًا، لذلك عليك أن تقوم بإنتاج كميّة كبيرةٍ منها ثم تأمل أن يتحد واحدٌ من كل مليون مضاد نيترون مع مضاد بروتون وبوزيترون لتشكيل ذرة مضاد ديوتريوم واحدة. تخيل الجهد والطاقة المبذولين لتشكيل شيء أعقد من ذلك، الكثير الكثير من التكلفة.
رغم عدم استطاعة أحد حلّ تلك المعضلة بعد، تحاول إحدى تجارب سيرن استخدام اختصار لإنتاج شيء مختلف عن مضادات الهيدروجين. فقد تم في مشروع ASACUSA (مقياس الطيف الذري والاصطدامات باستخدام مضادات البروتونات البطيئة) توليد ذرات هيليوم {مضادة البروتونات}، أي أنّ واحدًا من الإلكترونات التي تدور حول نواة الهيليوم استبدل بمضاد بروتون. بدراسة طيف الضوء المصدر عن ذرة المادة/المادة المضادة، يمكننا قياس الخصائص الكهربائية والمغناطيسية لمضاد البروتون بدقة متناهية ومقارنتها بالبروتون العادي.
أمّا عن فرصتنا في إنتاج أي شيء أكثر تعقيدًا، يقول فرانك كلوز، فيزيائي الجزيئات في جامعة أوكسفورد، إنّه متشائم بعض الشيء، وإنّ الأمر قد يستغرق حوالي مليار سنة.
إذًا رهاننا الأفضل هو أن نجد هذه المواد والعناصر المضادة في الفضاء، في مجراتٍ مضادة ونجوم مضادة.
ماذا عن قنابل المادة المضادة؟
في رواية {شياطين وملائكة} يتعرض الفاتيكان لتهديد بقنبلة تحتوي ربع غرام من المادة المضادة. لا تقلق، فحسب رولف لاندوا Rolf Landua، الفيزيائي في سيرن، لن يحصل شيء كهذا قريبًا، ويضيف: {خلال 30 سنة قمنا خلالها بدراسة المادة المضادة وتصنيعها، ولكننا لم نستطع سوى أن نصنع القليل، ربما 10 أجزاء من المليار من الغرام. فإذا تفجّرت تلك الكمية على طرف إصبعك فإنّك لن تشعر سوى بالحرق الذي يحدثه عود الكبريت}. وأيضًا، يحوي جسد المرضى في اختبارات التصوير المقطعي بإصدار البوزيترون على ذرات مشعّة طبيعية، تقوم بإصدار عشرات الملايين من البوزيترونات دون أيّ تأثير مدمر.
حتى لو استطاع الفيزيائيون إنتاج مادة مضادة كافية لبناء قنبلة مضادة، ستكون التكلفة (فلكيّة) فعلًا. {يكلّف الغرام الواحد مليون مليار دولار، ربما يكون ذلك أكثر مما يريد أوباما توظيفه في هذه الأبحاث، وربما نحتاج لحوالي عشر مليارات سنة لإنتاج مضادات الأشياء لنصنع قنبلة دان براون} يضيف فرانك كلوز.
رغم أنّ ذاك الأمر يقلل قلقنا تجاه القوة التدميريّة للمادة المضادة، إلا أن التفكير نفسه يجعلنا متشائمين تجاه استخدام المادة المضادة كطاقة نظيفة. ويعتقد كلوز أنّ الحل الوحيد هو أن تتواجد جيوب في الكون تحوي ما عمره 15 مليار سنة من المادة المضادة، بدلًا من أن نضطر لصنعها ذرةً تلو الأخرى، وتصبح التكلفة أكبر بكثير من الربح، طاقةً وجهدًا ومالًا.
في 2007، قام الفيزيائي ديفيد كاسيدي David Casside وزميله Allen Mills آلين ميلز من جامعة كاليفورنيا بصناعة أول جزيء مصنوع من أكثر من ذرة بوزيترونيمية واحدة. تفني ذرات البوزترونيوم بعضها البعض بسرعةٍ هائلةٍ مطلقة كميات كبيرة من أشعة غاما المحملّة بالطاقة العالية، فعند جمع الكثير منها معًا وإبادتها ينطلق منها ضوء شديد الطاقة، يُسمى (ليزر أشعة غاما الناتج عن فناء المادة/المادة المضادة). يمكن استخدام هذا الليزر في تصوير الأجسام الصغيرة كأنوية الذرات أو لإطلاق تفاعل انشطار نووي في المفاعلات النووية.
وفي النهاية: المادة المضادة أقرب إليك، أقرب مما تعتقد!
تهطل كميات صغيرة من المادة المضادة بشكل مستمر على الأرض بشكل أشعة كونيّة، جزيئات مشحونة بالطاقة من الفضاء. تصل جزيئات المادة المضادة الغلاف الجوي بنسبة أقل من واحد لكل متر مربّع وأحيانًا 100 لكل متر مربع. وثّق العلماء أيضًا أدلة على تشكل المادة المضادة في العواصف الرعدية.
مصدر المادة المضادة الآخر قد يكون في بيتك الآن. على سبيل المثال، ينتج الموز المادة بمعدل بوزيترونٍ واحدٍ كلّ 75 دقيقة. يحصل هذا الأمر بسبب احتواء الموز على كميات من البوتاسيوم 40، أحد نظائر البوتاسيوم الذي يتشكّل بشكل عاديّ في الطبيعة، عند تحلل البوتاسيوم 40، يطلق بضعة بوزيترونات حوله.
يحتوي جسمنا على البوتاسيم 40 أيضًا، مما يعني أنّ البوزيترونات تنطلق من أجسامنا أيضًا. تبيد جزيئات المادة المضادة أي جزيئات مادة تصطدم بها، لتعيش فترة حياة قصيرةً جدًا بيننا.