وقف طبيب العناية المركزَّة الشَّاب شارداً يتأمل الهرم المنتصب أمامه على منضدة العلاج، وحجارته عبارة عن 30 زجاجة من المضاد الحيوي باهظ الثَّمن والمسمَّى بـ«الايميبينيم – imipenem»، والتي تمثل حصة اليوم لمرضى العناية الإثنا عشر في هذا المستشفى المدعوم من إحدى مؤسَّسات الدَّولة التي تنفق بسخاء.

كان بداخله إحساس ملحوظ بعدم الارتياح. نعم من الجيد أن تكون طبيباً في مكان لا حدود لإمكانياته ولإنفاقه، لكنه لا يحبُّ أبداً سلوك بعض الاستشاريين الكبار في استغلال هذا وكتابة أغلى المضادَّات الحيويَّة لمعظم الحالات بحاجةٍ وبدون حاجة. ولم يقتنع أبداً بحِجَجِهِم التي تدور حول الاطمئنان على الحالات بإعطاء العلاج الأقوى ما دام متوفراً. ولكن لامفر له وهو الحلقة الأضعف من تنفيذ العلاج كما اقترحه الاستشاري.

كان يقلقه ما يلاحظه مع تراكم خبراته من التناقص في كفاءة المضادَّات الحيويَّة في العناية. فقد اضطُّر كثيراً لإعطاء بعض المرضي نوعين أو أكثر من المضادَّات الحيويَّة لكبح جماح إصاباتهم البكتيِريَّة. لم يُخرِجه من شُروده إلاَّ صوت إحدى الممرِّضات تَنَبَّهه أنَّ استشاري الجراحة على باب العناية.


وداوِها بالتي كانت هي الدَّاء

ليست المرَّة الأولى – ولن تكون الأخيرة – للإنسان أنْ يكتشف اكتشافاً مدوياً يُغَيِّر مسار الدُّنيا، ويفتَح الآمال العِراض لسعادة وهناء البشريَّة .. الخ .. الخ .. الخ، ثم لا يلبث شيطانه أن يُحَوِّل هذا الكشف إلى سلاحٍ ذي حدين، وغالبا ما يكون الحد المواجِه لصَدرِ الإنسان أحَدُّ وأقْطَعْ !

في هذا السِّياق كان اكتشاف المضادَّات الحيويَّة فتحاَ مبيناً للإنسانيَّة، لكنَّ الإنسان الجهول قرَّر أن يُحَوِّل هذا الفتحَ المبين إلى جحيم كَوْني يُهدِّد بإفناء نوعه !. وقد قطعنا بالفعل شوطاً كبيراً في هذا الاتجاه المأساوي.

المضادَّات الحيويَّة في أصلها تأتي تحت عنوان «وداوِها بالتي كانت هي الدَّاءُ». فهي أصلاً أسلحة بكتيرية كيميائية في الحرب الأهليَّة الأزلية بين البكتيريا نفسها، وبينها وبين منافسيها من الكائنات الدقيقة ناقلة الأمراض pathogens في صراعِها من أجل الوجود والنُّفوذ في سياق التوازن البيئي الفِطْري. إلاَّ أنَّ البكتيريا لا تكتفي بالتقاتُل فيما بينها. فقد أَعلَنت الحرْب على الإنسان، والذِّي ظلَّ قروناً يجهل وجودها، وبالتَّالي يجهل علاقتها بأمراضه. ثم ظلَّ بعد اكتشافها فترة ليست بالقليلة في موقع المُشَاهد قليل الحيلة في مواجهتها. حتى مَنَّت عليه الأقدار وقُلِب السِّحر على السَّاحر.

حاز العبقري الكسندر فِلِمِنج جائزة نوبل مستحقَّة في عام 1945 لمُجْمل اكتشافاته العلميَّة وفي القلب منها استخلاصه البِنْسِيللين الجدُّ الأكبر للمضادَّات الحيوية في عام 1928. نعم كانت هناك الكثير من المحاولات منذ الحضارات القديمة والحديثة قبل فِلِمِنج لمجابَهة العدوى، لكنها كانت في معظمها خطاً عشوائياً أو محاولات غير مكتملة. لكنَّ الآن، ملايين الأرواح يتم إنقاذها على بصيرة. ولم تَعُد المناعة البشرية بمفردها في المواجهة غير المتكافئة مع البكتيريا التي تزداد شراسة في كل لحظة.

لفِلِمِنج مقولة رائعة عبَّر بها عن اكتشافه «يوماً ما سيأتي شخصٌ ما لإكمال ما بدأهُ شخصٌ آخر» … وأضيف أنا إلى هذه المقولة : «وسيأتي آخرون وآخرون لإفساد ما فعله كلاهما !».


قصَّة سوء استخدام يوْميِّة

كان استشاري الجراحة يفحص حالة القدم السُّكَّري الموجودة بالعناية، وهنا استدار إلى طبيب الرعاية قائلا بلهجة استنكارية..« من الذي وصف لها هذا المضاد الحيوي ؟؟» كان يشير إلى «التازوسين» وهو مضاد حيوي فتاك واسع المجال يتكون من الببراسيللين وهو من آخر عناقيد تطور عائلة البنسيللين مضافا إلى التازوباكتام الذي يَزيد من شراسته ويطيل عمره في مواجهة البكتيريا الشَّرسة!

تعجَّب الطبيب الشاب من السؤال وجاهد لكي يُخفي استغرابه وارتباكه ورد قائلا «د/…. هو الذي أضافه بالأمس لقوته، ولأنه ليس شائع الاستخدام لدينا، وبالتالي تقل احتمالات وجود مقاومة له» … ظهر بعض التململ على وجه الاستشاري ولم يبدُ أنه اقتنع تماما بالكلام. وفكر لثوانٍ ثم أصدر أمره للطبيب الشاب .. «أضف معه الايميبينيم !، فأنا لم أستخدم هذا التازوسين من قبل ولا أثق فيه، ولا أريد أن ألغيه من قائمة العلاج حتى لا يغضب د/ …..».

وقف الطبيب الشاب مذهولا لدقيقة بعد انصراف الاستشاري، واستدار لتنفيذ التعليمات التي تقضي بإطلاق صاروخين مضادين للدبابات على صرصور على الحائط.

لم تدُم سعادة البشرية في نعيم البنسيللين كثيراً، فمع مطلع الأربعينيات، ومع الاستخدام التجاري الواسع للبنسيللين بدأ اكتشاف بعض سلالات البكتيريا التي تفرز إنزيمات تقوم بتكسير «البنسيللين – penicillinase». فالبكتيريا عالية المرونة وكثيفة التكاثر، نجحت سريعا في امتصاص صدمة السلاح الجديد، وأورثت أجيالها المتتابعة القدرة على المواجهة.

لم يقف الإنسان مكتوف اليد ليراقب حلمه في قهر العدوى وهو يتبدد، فأخذت المعامل والمراكز البحثيَّة تستخلص وتطور وتستنسخ عائلات جديدة من المضادات الحيوية، ومشتقات أقوى وأكثر تحملا لقسوة الصِدام مع البكتيريا. وبالفعل بدأ الإنتاج الواسع للعشرات من المضادات الحيوية الجديدة والتى أعادت التوازن مرة أخرى إلى ساحة المعركة. وتَنفَّست البشرية الصُّعَداء مؤقتاً.

في كل يوم يُفاجأ العلماء بتطور جديد في قدرات البكتيريا على مجابهة المضادات الحيوية. وأصبحت قضية «البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية» الشَّغل الشَّاغل المؤرِّق لآلاف العلماء والمهتمين بمستقبل الجنس البشري ووجوده حول العالم. فمع انتشار المضادات الحيوية ورِخَص ثمنها، أصبحت في متناول الملايين حول العالم، وبدأ الكثيرون في استخدامها من تلقاء أنفسهم دون استشارة الأطباء ودون استيفاء الجرعات الصَّحيحة.

وهكذا انكشفت الأسلحة الجديدة للعدو الذي تعرف جيداً عليها وأجاد استغلال نقاط ضعفها. وهكذا أصبح شبح وباء بكتيري واسع الانتشار ومُقاوم لكل ما أنتجت البشرية من مضادات حيوية، يخيَّم على عقول الكثيرين.


مشهد يَومي مُتَكرر

المشهد الأول: في إحدى الصيدليات:

الزبون – ويبدو عليه أعراض الزكام: أعطِني مجموعة البرد لو سمحت.

الطبيب: تفضل. ألف سلامة.

الزبون: وأين المضاد الحيوي؟!

الطبيب: لا داعي له، فأغلب أدوار البرد فيروسية ومؤقتة، وبالتالي لا داعي للمضاد.

الزبون: صَدِّقني أنا أدرى بجسمي. وكل دور لا أستطيع النزول للعمل إلا بعد أخد المضاد الحيوي.

الطبيب – مستسلمًا: تفضل هذين الشريطين، ولكن لا توقف تعاطيه قبل أسبوع على الأقل، حتى لا تخلق لنفسك مقاومة منه.

الزبون: إن شاء الله.

المشهد الثاني: في إحدى عيادات الأطفال:

أم الطفل المُلتاعة: الواد سُخُن أوي يا دكتور من امبارح، وطول اليوم تحت الدش عشان الحرارة تنزل. وما بياكلش خالص خالص.

الطبيب: ألف سلامة لبودي. التهاب حلق إن شاء الله يروح مع العلاج. خدي الروشتَّة ديه ياخد كل حاجة في ميعادها، والإعادة بعد 4 أيام.

أم الطفل: أهم حاجة يا دكتور كتبتله مضاد حيوي جامد، لحسن مش هستحمل أسيبه سخن كتير.

الطبيب (وعلى وجهه بعض ضيق يجاهد ليخفيه، وتكتسي عينه بنظرة الخبرة الطويلة في التعامل النفسي قبل الطبي مع هذه المواقف): طبعا طبعا، أول يومين حقنة مضاد كل 12 ساعة، وبعدها يكمل شراب.

أم الطفل (وقد بدأت تتنهد في ارتياح): شكرا يا دكتور، ربنا يخليك لينا.

الطبيب: تسلمي، وألف سلامة لبودي.


البكتيِريا أقوى من ابتكارات البشر

أعلن المركز الأمريكي للوقاية من الأمراض والتحكم بها CDC أنه يسجَّل في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها سنويا 2 مليون حالة إصابة ببكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية، ويتسبب هذا في وفاة أكثر من 23 ألفاً من هؤلاء، رغم أنَّ الولايات المتحدة تمتاز بأنها تمتلك نظاماً ممتازاً لتقنين تعاطي المضادات الحيوية ومكافحة سوء استخدامها دون داعٍ، فما بالنا بحال دول العالم المتأخرة – ومنها بالطبع مصر- والتي يمكن لكل من هبَّ ودبَّ فيها أن يذهب إلى أيَّة صيدلية دون روشتة طبيَّة ليبتاع آخر ما توصلت له البشرية من مضادات حيوية طالما أنه يقدر على ثمنها !. مثل هذه الفوضى هي مسامير تدق في نعش الوجود الإنساني.

لسوء حظنا فقد أصبح هناك اختلال في ميزاننا مع البكتيريا، فالبكتيريا تقطع أشواطاً كبيرة يوميا في مواجهة أسلحتنا، وتكتسب أراضٍ جديدة، آخرها في الأيام الفائتة ما أعلنته وكالة رويترز في 26-5-2016 عن اكتشاف بكتيريا – لدى سيَّدة من بنسيلفانيا عمرها 49 عاماً مصابة بالتهاب بمجرى البول – مقاومة لآخر خط دفاع بين المضادات الحيوية التي تعرفها الإنسانية، وهو الكوليستين شديد السمية والذي ظل يعد لسنوات الملاذ الأخير لمجابهة «البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية – Multi-drug resistant bacteria».

أما على الضِّفة المقابلة، فقد وَلَّى العصر الذَّهبي لإنتاج المضادات الحيوية، وأصبحنا ننتظر لسنوات قبل أن نسمع عن استحداث مضاد جديد يرفع حظوظنا في المعركة، ولم تعُد أبحاث المضادات الحيوية مطمعاً لشركات الأدوية العملاقة نظراً لارتفاع تكاليفها، ونقص المردود الاقتصادي مقارنة بأدوية العلاج الكيميائي للسرطان والتي تباع بآلاف الدولارات.


المضادَّات الحيويَّة والبكتيِريا: صراعٌ مستمرٌ

دون الاستغراق في تفاصيل علمية وطبية لا تهم سوى المختصين، سنطوف سريعاً على أمثلة من الميكانيزمات العلمية التي تقاوم بها البكتيريا المضادات الحيوية، لمحاولة استكشاف هذا العدو المتربص، وليتضح بجلاء أننا من درَّبنا وندرِّب في كل لحظة هذه الجيوش غير متناهية العدد والشراسة على كيفية استنزافنا والقضاء علينا.

إذا بدأنا بعائلة البنسيللينات الكبيرة جدا، ذات الأجيال المتتابعة، والتي تعد الأوسع استخداماً نظراً لمحدودية آثارها الجانبية عند معظم الناس، وكذلك رِخص سعرها مقارنة بقوة آدائها، حيث أنها تفتك بالجدار الخلوي للبكتيريا، مما يجعلها في مهبِّ الريح أمام كل ما يحيط بها في بيئتها، فتهلك. فإن البكتيريا طورت «إنزيمات – B-lactamases» والتي من أشهرها الـpenicillinases.

حاول العلماء التغلب على هذا بإضافة مواد مضادة لهذه الإنزيمات «B-lactamase inhibitors» على المضادات الحيوية، ومن أشهر أمثلتها مادة الـclavulinic acid والتي تضاف إلى المضاد الحيوي ذائع الصيت «الأموكسيسيللين – amoxycillin»، ليكوِّنا معاً الاسم التجاري الأشهر من نار على علَم؛ «الأوجمنتين – Augmentin»، والذي ينال حصة هامة من «سوء استخدام المضادات الحيوية – antibiotic abuse» حول العالم خاصة في مصر (بالأخص بدائله المحلية الأرخص سعراً). لكن لم تلبث أن ظهرت سلالات بكتيرية جديدة تنتج أنواعا من الـB-lactamase مقاومة للـclavulinic ونظائره، وعدنا إلى نفس المربع المخيف السابق.

إذا انتقلنا إلى مجموعة «الأمينوجليكوسيدات – aminoglycosides» وهي مجموعة قوية للغاية، خاصة على «البكتيريا سالبة الجرام – gram -ve bacteria» والتي تمثل بعض أنواعها أشرس فصائل البكتيريا المُمرِضة للإنسان، خاصة سيِّئة الذكر «السودوموناس – pseudomonas» الفتاكة.

فإن هذه المجموعة كانت إلى عهد قريب ملجأً اضطرارياً ضد البكتيريا المقاومة لمعظم الأنواع الأخرى، نظراً لقلة رواجها بسبب آثارها الجانبية الخطيرة على الكُلى وعلى الأُذن. ومع ذلك، فقد تعرضت كغيرها لسوء الاستخدام، مما أدى إلى زيادة السلالات المقاومة لها، لنفقد حِصْناً آخر في الحرب مع البكتيريا.

هذه المجموعة تعتمد على إفساد آليات تصنيع البروتين داخل البكتيريا، حيث تتَّحد بأماكن معينة على «الريبوسومات – ribosomes» والتي تُمثِّل مصانع البروتين الحيوي للغاية من أجل نشاط البكتيريا وتكاثرها، مما يؤدي إلى «تثبيطه – bacteriostatic action». فما كان من أجيال البكتيريا المقاومِة الجديدة إلاَّ أنْ بدأت تُحَوِّر في طريقة تركيب ريبوسوماتها لتكون خالية من الأماكن التي اعتادت على الالتحام بها الـ aminoglycosides وسواها من المضادات ذات الميكانيزمات الشبيهة.

وبالتالي لا تستطيع القيام بعملها. كما سجَّلت بعض الدراسات قيام بعض البكتيريا بإنتاج إنزيمات مقاومة لهذه المضادات شبيهة بالـ B-lactamases. ومن الثابت علميا أنَّ البكتيريا تتناقل جينات بقائها الجديدة التي تحمل مقاومة المضادات الحيوية فيما بينها.

وأقصُد هنا الانتقال الأفقي، وليس فقط الانتقال الرأسي من الأجيال الأم إلى أبنائها وأحفادها. حيث تمتلك البكتيريا نسخة خاصة من الحمض النووي تسمى «البلازميد – plasmid» سوى الحمض النووي الأساسي لها.


مَوْت

وقف استشاري العناية المركزة يتأمل في نتيجة مزرعة البُصاق التي وردت للتو للمريض الخمسيني الموضوع على جهاز التنفس الصناعي نظراً لإصابته بالتهاب رئوي شديد. كانت نظرة الاستشاري تجمع بين القلق والضيق والتعجُّب والألم والعجز والحيرة في نفس الأوان، فالنتيجة جَدُّ مرعبة!

كيف نضيف إلى علاجه الفانكوميسين بينما وظائف الكُلى لا تكُفَّ عن الارتفاع وقد نصل إلى الغسيل الكُلوي في أية لحظة؟

وجمَّ الأطباء الشَّباب المتواجدون، فهم لا يعرفون هل يوجه الاستشاري لهم الكلام، أم أنه يشكو الحال إلى نفسه!. كانت نتيجة المزرعة توضح بجلاء أنَّ المريض مصاب ببكتيريا شديدة المقاومة لكل المضادات الحيوية سوى الفانكوميسين Vancomycin صاحب الآثار الجانبية الشديدة على الكلى.

لا بأس … احسبوا الجرعة المناسبة له من الفانكوميسين قياسا إلى قدرة الكلى الحالية على الاستخلاص، ولندعو الله له أن يشفى مما هو فيه.

بعد 4 أيام، شُفِي المريض تماماً ممَّا هو فيه، ولكنه كان شفاء تاماً وراحة لا مرضَ بعدها!


غباؤنا عدوُّنا الأوَّل

شخصياً.. تؤرِّقُني هذه القضية للغاية، إذ لا تمر أيامٍ حتى أسمع عن اكتشاف أنواع مقاومة جديدة من بكتيريا كانت تعد حتى وقت قريب من الأهداف السهلة للمضادات الحيوية العادية. بكتيريا مثل «نياسيريا السِّيلان – N.gonorrhea» ظهرت منها سلالات تقاوم «الأزيثروميسين – azithromycin» الذي كان يُطيح بها بجرعة واحدة قاضية.

مرض خطير مثل «الدَّرن – TB»، تسببه بكتيريا الـmycobacterium tuberculosis، عاد للانتشار من جديدة مع انتشار الإيدز وغيره من الأمراض المدمِّرة للمناعة، وأصبح الشَّائع من سلالات البكتيريا المسببِّة له الأنواع المقاومة لمختلف المضادات، حتَّى أنَّ طُرُز العلاج الحالية التي تضم 3 أو 4 من المضادات لها وتُعطَى على مدى أشهر رغم آثارها الجانبية الخطيرة أحياناً، لم تعد مجدية !، وأصبح هناك حاجة للمزيد من المضادات الحيوية التي لم تعتدها هذه البكتيريا السَّمجة.

شاهدْت مؤخراً فيلماً وثائقياً عن سوء استخدام المضادات الحيوية، عرض حالة طِفلة أمريكية أصيبت بـ«التهاب بكتيري بعظام الساق – osteomyelitis»، لم تفلح معه المضادات الحيوية المعتادة، وصَدَمَت المزرعة الجميع بأنَّ البكتيريا الموجودة هي نوع من الـ pneumococci المقاومة لكل المضادَّات سوى الفانكوميسين! هذه الـ pneumococci كانت منذ أقل من 30 عاماً تخر راكعة وتنيب إذا مر أمامها جزئُ من البنسيللين المعتاد!

وما يرعبني أكثر وأكثر شخصيًا، هو ما رأيته وأراه يومياً – على قِصَر خبِرتي العمليَّة الطبيَّة – من فجائع سوء استخدام المضادات الحيوية. رأيت استشارياً كبيراً في طب الأطفال يكتب «السيفيبيم – cefipime» لطفلة مصابة بالتهاب اللوزتين!

السيفيبيم هو من الجيل الرابع للكيفالوسبورينات الأسرة المميزة واسعة المجال جدا أبناء عمومة البنسيللينات والتى تم تطوريها لتعويض العجز في كفاءتها ومجالها. إذاً .. فماذا نستخدم لمرضى التسمم البكتيري المنتشر بالدم septicemia، ومرضى الالتهابات الرئوية الشديدة …. إلخ.

ورأيت جرَّاحاً يكتب «الميروبينيم – meropenem» ذُروَة سِنام المضادات الحيويَّة والذي يُكلِّف يوميا مالاً يقل عن 240 جنيها، وذلك كمضاد حيوي «وقائي» ما بعد عملية استئصال للزائدة الدودية لطفلة!

وحتى الآن مرَّ عليَّ عددٌ ليس بالقليل من مزارع البكتيريا المقاومة لمعظم المضادات الحيوية. وأصبح من الشائع بين الأطباء على مواقع التواصل الاجتماعي التنافس في رفع صور مثل هذه المزارع، وعمل حفلات مفتوحة من النواح على مستقبل البشرية الأسود، رغم أنَّ لنا نصيب الأسد من المسئولية عن هذا.

الموضوع خطيرٌ خطيرٌ، والإحاطة بجوانبه يحتاج إلى الكثير من البحث والتقصِّي والشَّرح. ولذا فما سبق هو مجرد جرس إنذار أوَّلي لي ولغيري من المهتمِّين، وسيكون له ما بعده كتابة، والأهمُّ أن يكون له ما بعده تطبيقاً ووعياً ونشراً للفكرة.

المراجع
  1. Mechanisms of antibiotic resistance
  2. Brief History of the Antibiotic Era: Lessons Learned and Challenges for the Future
  3. The History of Antibiotics