أنتوني جيدنز: علم الاجتماع بحثًا عن سياسة جديدة
أنتوني جيدنز عالم اجتماع بريطاني ولد عام 1937، حافظ على موقعه في صدارة المشهد الفكري على مدار عقود متعاقبة، بفضل جهده التنظيري الذي بدأ في السبعينيات. تماثل تنظيرات جيدنز في أهميتها تنظيرات هابرماس وفوكو وبارسونز وغيرهم من كبار المفكرين، وقد ساهم بقوة في تطوير النظرية الاجتماعية.عمل غيدنز أستاذاً لعلم الاجتماع بجامعة كمبردج، ثم مديرًا لكلية لندن للاقتصاد ما بين عام 1997 وعام 2003، كما شغل منصب مستشار لرئيس الوزراء البريطاني توني بلير. ألف جيدنز نحو 35 كتابًا ومئات المقالات والأوراق العلمية، تناول فيها مساحة واسعة من الأفكار الاجتماعية والسياسية يمكن تحديد ثلاث مراحل رئيسية من بين إنتاج جيدنز النظري الهائل؛ بداية بوضعه «نظرية الهيكلة» (Theory of Structuration)، ثم تحليله المجتمع الحداثي المعاصر، وأخيرًا كتاباته السياسية التي كان لها تأثير واضح على السياسة العالمية.
نظرية الهيكلة
قدم جيدنز خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات إسهامًا مهمًا في إشكالية اجتماعية قديمة، هي إشكالية البنية-الفاعلية (Structure-Agency). لقد اختلف علماء الاجتماع قديمًا وحديثًا في تحديد مصدر التأثير الرئيسي في السلوك البشري، أهو البنى الاجتماعية من مؤسسات اجتماعية وعلاقات ممأسسة أم الفاعلية الفردية الهادفة.
آمن الفرنسي الرائد إميل دوركايم (1858-1917)بواقع جمعي مستقل يهيمن على الفرد ويتحكم في سلوكه، وشاركته تلك النظرة المدرسة البنيوية والوظيفية وغيرهما. تنكر عدة مدارس مثل الفردية المنهجية أي تأثير مستقل للبنى الاجتماعية، بل يرونها مجرد سلوك ثابت ومكرر، جاعلين من الفاعلية الفردية مؤثرًا وحيدًا في السلوك البشري.
يمكن القول، إن جيدنز لم يؤكد الدور المؤثر لكل من البنية والفاعلية فحسب، بل تجاوز الرؤية الثنائية التي تعتبرهما ضدان متعارضان إلى رؤية ازدواجية تؤمن بعلاقة تبادلية بين هذين المؤثرين، واستهدف فهم السلوك الاجتماعي البشري عبر دراسة العمليات الحادثة خلال تفاعلهما معًا.
طرح جيدنز مفهوم «ازدواجية البنية»، ومفاده أن البنية هي الوسيط الذي تؤثر من خلاله الفاعلية الفردية، وهي نتاج ذلك التأثير في الوقت نفسه. يرى جيدنز أن البنية تشكل وسيطًا للفاعلية بفضل الذاكرة التي يعتمد عليها الفاعلون في ممارسات اجتماعية، في حين تنتج البنى ذاتها عن تلك الممارسات سواء كانت واعية أو غير واعية، لتغدو البنية وسيطًا جديدًا لممارسات فاعلين آخرين، فيما يشكل دورة من الهيكلة.
رأى جيدنز أن علماء الاجتماع السابقين قد بالغو في تقدير قدرة البنية على التحكم في النشاط البشري، دون إنكار لتأثيرها على الفاعلين.أقر جيدنز بوجود ما يحد مجال الفعل الإنساني بالفعل، إلا أنه أكد وجود هامش غير ثابت يمكن تحليله كفعل قصدي.
عن الحداثة المتأخرة
تناول جيدنز في مطلع التسعينيات ظاهرة الحداثة بالدراسة والتحليل. يرى جيدنز أن سمات الحداثة الرئيسية هي أربعة تكتلات مؤسسية متداخلة التأثير: الرأسمالية، والتصنيع، والقدرة على المراقبة وجمع المعلومات، ومركزية وسائل العنف. يرفض جيدنز القول بتجاوزنا الحداثة إلى مرحلة جديدة من الحياة الاجتماعية (ما بعد الحداثة)، بل يرانا في حداثة متأخرة (حداثة عالية) غدت فيها عواقب الحداثة أكثر تطرفاً وعالمية من ذي قبل.
تعمل الحداثة المتأخرة على تفريغ المجتمعات في شتى بقاع العالم من تراثها وقيمها وتقاليدها الراسخة، ذلك عبر العولمة وأذرعها الإعلامية المتنوعة واسعة الانتشار. ليست مجتمعات الحداثة المتأخرة بمجتمعات قومية، بل هي المجتمعات الكوزموبوليتانية الحقيقية. تصب الحداثة كامل اهتمامها على المستقبل، مما يهدر وينهي كل ما هو طبيعي وتقليدي، وجعل الهوية الذاتية والعلاقات والبنى الاجتماعية في تغير لا نهائي.
تعد الطبيعة الانعكاسية سمة أساسية في الحداثة المتأخرة، حيث يزداد إدراك الأفراد وتفكرهم في اختياراتهم قبيل وعقب اتخاذها، وهي اختيارات تفصيلية وعامة غير مسبوقة. يتولى الفرد مسؤولية عظيمة اليوم إذ يختار كل ما يخصه تقريبًا، بداية من تفاصيل ملبسه مرورًا بانحيازاته الفكرية والثقافية وذوقه الفني وهواياته ونوعية غذائه وذوقه وحتى الزواج والطلاق وتربية الأطفال وغير ذلك.
لم تعد الذات أمرًا ثابتًا نولد به، أصبح الحفاظ على سردية متماسكة لهوية الفرد الذاتية أزمة كبرى، خاصة مع إدراكه الطبيعة المؤقتة لجميع المعارف، فأي شيء قد يدحض غدًا. تشكل الطبيعة المتغيرة للهوية الذاتية عند جيدنز مصدرًا للشعور بالعار، حيث ينتاب الفرد قلق من كونها أقل جودة مما يجب، مما يثير فيه أيضًا شعورًا بالذنب كونه المسؤول عن جميع تلك الاختيارات والتفاصيل.
يرى جيدنز أن حملات تحديد النسل قد أسهمت في إشعال الثورة الجنسية عبر فك ارتباط الجنس بالتناسل، مما سمح بظهور «العلاقات النقية»، وهي في الحالة الحميمية علاقات استمتاع مشترك، ذات طبيعة ديمقراطية، يجري التفاوض فيها على كل شيء، ولا تخضع لظروف اجتماعية أو اقتصادية خارجية تجبرها على الاستمرار. تعد العلاقات النقية فرصة لتنمية الثقة بين الشركاء نظرًا إلى طبيعتها الطوعية، لكنها تتضمن في الوقت نفسه مخاطرة، إذ يمكن لأي طرف إنهائها متى لم ترضه بالقدر الذي يطمع فيه.
يعيش الناس في الحداثة المتأخرة تحت وطأة الشعور بالإخفاق التاريخي بسبب الحروب والمآسي البشرية والدمار البيئي، لذا يأخذون في الإحجام عن الاهتمام بالقضايا السياسية والعامة لصالح الاهتمامات الفردية.
فيلسوف «الطريق الثالث»
يرى جيدنز أننا نعيش في عالم مدمر، يتطلب سياسات راديكالية تتجاوز التقسيمات الثنائية من اشتراكية تقليدية (سيطرة الدولة) ونيوليبرالية (السوق الحر)، وقد أطلق على تلك السياسات اسم «الطريق الثالث».«الطريق الثالث» مصطلح قديم، استقصى جيدنز أصوله إلى فرنسا في القرن التاسع عشر، لكنه طرح رؤيته الخاصة له في نهاية التسعينيات.
نادى جيدنز باشتراكية عصرية كجزء من الحركة الديمقراطية الاجتماعية، تدعم ريادة الأعمال وتنمية الثروات مع التزام الدولة بالتدخل لتحقيق العدالة الاجتماعية، كما تشتبك مع معضلات العصر من توابع العولمة والفردانية والمخاطر البيئية وموقع العنف في السياسة العالمية.يطمع «الطريق الثالث» في خلق أمة كوزموبوليتانية حقيقية تحتفي بالتنوع الثقافي والتعددية، وتسعى إلى نشر ذلك عبر دعم التحول الديمقراطي في الحكومات العالمية.
تدرك سياسات «الطريق الثالث» الطبيعة الانعكاسية لعصر الحداثة المتأخرة التي تتعدى المجال الفردي إلى المجال السياسي، حيث تجري إعادة تعريف النشاط السياسي بانتظام نتيجة الكم الهائل من الأخبار والبيانات عن الأوضاع المحلية والعالمية المعروضة إعلاميًا، تمامًا مثلما يعاد خلق الذات على المستوى الفردي. يعد تعزيز الاستقلالية فيما يتعلق بالمسؤوليات الشخصية والاجتماعية من أهداف «الطريق الثالث»، مثلما يهتم بشكل رئيسي على الاختلافات بين الجنسين بقدر اهتمامه بالحرمان الطبقي.
راجت سياسات «الطريق الثالث» في التسعينيات والعقد الأول من الألفينيات، مع تبنيها من قبل الرئيس الأمريكي بيل كلينتون وسياسيين أوروبيين مثل المستشار الألماني جيرهارد شرودر، لكن لعل أبرزهم رئيس الوزراء البريطاني توني بلير الذي أعلن عام 1998 تحمس أتباع «الطريق الثالث» للعدالة الاجتماعية لكن مع تجاوزهم لأفكار اليسار القديم حول سيطرة الدولة والضرائب الباهظة، وكذا أفكار اليمين الجديد المعادية للاستثمارات العامة وفكرة المجتمع ذاتها أحيانًا.
بمرور الوقت، فقدت سياسات «الطريق الثالث» ألقها الإعلامي، ومثلت أزمة 2008 المالية العالمية ضربة قوية لسياسات «الطريق الثالث» الاقتصادية، أسهمت مع صعود اليمين الشعبوي في أوروبا إلى إخماد جذوتها.