قول آخر في تجديد خطاب الحرية
قدماء العلماء من الأصوليين والفقهاء والمتكلمين لم يضعوا للحرية تعريفًا اصطلاحيًا جامعًا مانعًا، غير أن كتب المتصوفة بها بعض التعريفات المستوعبة لأغلب مضامين الحرية من الناحية الفلسفية ومن الناحية الروحية، ومنها قولهم إن الحرية هي: «انقطاع الخاطر من تعلق ما سوى الله بالكلية. والحرية نهاية العبودية. فهي هداية العبد عند ابتداء خلقته». وقصدهم هو أن الحرية هي أصل وجود الإنسان، وجوهر نفسه، وأنها داخلة في صميم تكوينه الفطري، ونابعة من أعماقه وليست حصيلة علاقات القوة التي تربطه بمحيطه.
ولم يكن حال الحرية حسنًا من الناحية العملية التاريخية؛ فوقائع الممارسات الاجتماعية عمومًا والسياسية خصوصًا في تاريخ مجتمعات الأمة الإسلامية تشير إلى أنه لم تكن هناك ضمانات فاعلة لحماية حرية الأفراد أو صونها من اعتداءات ذوي السلطة الأبوية أو القبلية أو الحكام المستبدين في أوقات طويلة من عهود «الدولة السلطانية».
في تلك العهود، كانت للمستبد في الدولة السلطانية، قدرة واقعية وفعالة في حرمان الأفراد من حريتهم بأسباب واهية، أو دونما سبب على الإطلاق ولا يزال الحال كذلك في الدولة الحديثة. كما كان المستبد الاجتماعي أو السياسي أو الروحي، ولا يزال، يستطيع تهديد الأفراد وخاصة من أعوانه في أجهزته وأدوات سلطته بمصادرة حرياتهم، أو قتلهم وإزهاق أرواحهم، أو قطع أرزاقهم، إن لم يقوموا بارتكاب جرائم لمصلحته.
وبما أن هؤلاء كانوا يدفعون غالبًا بعدم المسئولية عندما تُوجه إليهم التُّهم بانتهاك الحقوق الشرعية للأفراد، فقد نُوقش موضوع الإجرام بالإكراه بشيء من التفصيل في المصادر الفقهية. وتباينت اجتهادات علماء المذاهب؛ فمنهم من ذهب إلى أن الإكراه حسب رأي أبي حنيفة يعتبر عاملًا مُخففًا فحسب عندما يأتي فعل الإكراه من السلطان. ومنهم من ذهب -مثل أبو يوسف ومحمد تلميذي «أبي حنيفة»- إلى أن الإكراه يعتبر عاملًا مُخففًا؛ إذا جاء من أي شخص يملك القدرة على تنفيذ وعيده. ولا ينحصر مثل هذا الشخص في السلطان وحده. والفرق بين الرأيين واضح ومؤثر.
ويذكر فرانتز روزنتال -المستشرق اليهودي المعروف- أن كل المعلومات التي قام بجمعها من مصادر التراث الإسلامي في موضوع الحرية، تشير بوضوحٍ إلى أن ما شهده الواقع كان مُخالفًا لما ذهبَ إليه العلماء المجتهدون، فقد ذهبوا -مثلًا- إلى أن عقوبة السجن ليست أساسية في النظام الإسلامي، وأن الشريعة لا تميل في الأساس إلى حرمان الأفراد من حريتهم عن طريق حبسهم وعزلهم عن الحياة العادية؛ لأن عقوبة الحبس فيها إذلال للروح لا يسهل علاجه، إلى جانب ضرر هذه العقوبة البالغ بالجسد الذي هو بنيان الله، والذي هو «أشرف الأجساد في هذا العالم» حسب قول «الفخر الرازي» صاحب تفسير «مفاتيح الغيب».
وقد أظهرت السلطات القضائية في أغلب فترات العصور الإسلامية الترددَ والحذرَ الملائمين عند مواجهة مشكلات تطلبت حبس المذنبين وحرمانهم من حريتهم المادية، مثل: حرية الحركة وحرية التنقل. ومع هذا فإن استخفاف السلطة السياسية الاستبدادية بحرية الأفراد لم يقلل منه إلا الحسُّ العام والاعتبارات الأخلاقية، وتوازن القوى الاجتماعية، بأكثر مما قلّلت منه أحكام القضاة واجتهادات العلماء.
وهذا كله يكشف لنا عن القيود الواقعية التي خفَّضت من الفاعلية التي كانت متوقعة عمليًا من فكرة الحرية في تاريخ مجتمعات الأمة الإسلامية؛ وتوسع الحكام في إنشاء السجون دون أن يكون لتوسعهم هذا مسوغ شرعي بالضرورة، حتى إن الجاحظ ضج من هذه الظاهرة في كتابه «البيان والتَّبَيُّن» (أو: «البيان والتبْيِين»، على اختلاف بين المحققين في ضبط كلمة التبيين).
وقد أورد في هذا الكتاب دعاء كان يُردَّد في زمنه ويُصوِّر جوانب مما كانت تضيق به الأنفس في الحياة العامة وفي السجون. وهذا الدعاء هو:
ولإدراك المغزى الكامل لهذا النص تتعيّن قراءته في نور المفهوم القرآني للكرامة الآدمية بمعناها الموسع الذي يعلي من شأن الإنسان، وينفي عنه كل أشكال الإهانة، وينبذ كل صور الحطِّ من الكرامة أو الازدراء أو التحقير.
إن التأملَ في قيمة الحرية -من حيث المبدأ- يكشف عن أنَّها تؤكد على النزوع الفردي الخاص، في مواجهة النزوع الجماعي العام. ومن هنا فإنها قد تعمل باتجاه مناقض لتكوين «المجال العام» الذي هو في الوقت عينه مجال ممارسة الحرية، وهو أيضًا مجال الجمع بين المختلفين في إطار مشترك عبر الشورى والتشاور المجتمعي تحت مظلة من القيم والمصالح والغايات الجماعية.
ولهذا -ولأسباب أخرى- لا تَرِدُ قيمةُ الحرية في المنظور الإسلامي منفردة بذاتها، وإنما ترِدُ دومًا مقرونة بمنظومة القيمِ العُليا التي تُشكل الوجدانَ العام، وترسمُ معالم الوجود الاجتماعي والسياسي، وفي مقدمتها العدالة؛ ومعناها إعطاءُ كل ذي حق حقه، والمساواة؛ ومعناها أن جميع بني آدم من أصلٍ واحد، وأن اتحادهم في الأصل كافٍ للتسوية بينهم في الفرص وفي الحقوق والواجبات وأمام القانون وأمام القضاء، دون أدنى تمييز بسبب اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو العرق، أو الدين، أو المذهب.
ولكن لا معنى للعدالةِ، ولا للمساوة بين ذوات إنسانية غير حرة، أو بين ذوات لا تشعر ولا تعي أنها حرة، أو لا تقدر على التعبير الحر ذاته، أو تُحرم من ممارسةِ الشورى والاستشارة في شئونها العامة والخاصة. وبدون الحرية بهذا المعنى الواسع لا يتشكل «مجال الحرية» ولا تظهر هي إلى الوجود الاجتماعي؛ ومن ثَمَّ فإن فكرة الحرية بما تعنيه من توسيع فرص الاختيار تظل غير قابلة للظهور على مسرح الحياة الاجتماعية؛ أي يتعذر ظهورها التاريخي، وينفتح المجال في الوقت عينه لظهور سلطة الاستبداد والإكراه والاستئثار والفساد.
ولهذا -ولأسباب أخرى- أنفق الرسول (صلى الله عليه وسلم) قرابةَ الثلاثة عشر عامًا، وهي الفترة التي قضاها في مكة، في إرساء العقيدة والتوحيد والإيمان في نفوس المسلمين كي يحررهم أولاً من العبودية لكل ما سوى الله سبحانه. وكانت تلك المرحلة هي مرحلة بناء الذات الحرة الواعية الواثقة من نفسها، والعزيزة بالله، وهي الذات القادرة على تحمل تبعاتِ القيام بأعباء تأسيس الأمة، وهي أيضًا الذات الحرة الجديرة بتحمل الواجبات والتمتع بالحقوق، وتكون لديها المقدرة على المطالبة بالعدالة وصون الحقوق والدفاع عنها، والتصرف وفق أعمق ما في الحس الإنساني من الرحمة والشفقة والتعاون والصفح والسماحة.
في مصادر التراث الإسلامي تنتشر الأقوال المؤيدة لمركزية «الحرية» في الوعي الجمعي للأمة، ومن ذلك مثلاً قولهم: «من خدم غير دابةٍ فليس بحر» (أبو داود السجستاني، صُوانُ الحكمةِ. مخطوطة خزانة إسطنبول/مراد ملا 1408هـ – ق35 ب).
وفي قول آخر مأثور: «الحرية هي الحياة الخيِّرة»، بحسب رشيد الدين بن خليفة، ونقلها عنه ابن أبي أصيبعة في كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء». وقالوا أيضًا: «منْ لم يتمسك بالخير فليس بحر».
وقد حذّر الإمامُ الغزالي من أخطار تعدي السلطة الحاكمة على حريات الأفراد. وفي رأيه أن السلطة التي تعتدي على حريات الأفراد تشكل خطرًا أفدح من خطر الرِّق، أو من العبودية المعروفة. فالعبودية تعني امتلاك يمين العبدِ، من قبل الجهات الأقوى اقتصاديًا، أما الطغيان السياسي الذي يسميه الغزالي «الجاه»، فهدفه الإخضاع الإرادي للأحرار من قبل أولئك الذين يمتلكون السلطة.
إن هذا الإخضاع لا يعني عبودية أجسامهم وحدها، بل عبودية العقول وأرواحهم أيضًا، أو هكذا هو مؤدى كلام الإمام الغزالي (أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، 3/241).
في نور هذا المعنى -المُشار إليه- تكون الحريةُ غير قابلة للنقصان، ويكون المجال العام الحر الذي يتأسس عليها قابلًا للوجود؛ ذلك لأن هناك حقوقًا إذا أصابها النقص فإنها لن تؤثر على إنسانية الإنسان؛ لأنها حقوق خارجية تعاقدية كحق الملكية مثلًا، أمّا الحرية وحق التعبير عن الرأي وممارسة الشورى؛ فأي مساس بها يزلزل إنسانية الإنسان؛ لأن الحرية نابعة من الداخل النفسي والعقلي للإنسان، وهي ليست محصلة علاقات القوة بين أطراف مختلفة؛ وإن أي إضرار بها يفسد تعبير الإنسان عن ذاته، ويصير كائنًا مشوهًا. إن الإنسان لا يكتملُ في ذاته إلا بالتعبير الحر عن فكره، وكذلك فإن التطور الروحي غير ممكن دون اتصال حر وتشاور مع الآخرين، وتبادل الفكر، فلا يجوز حذفه أبدًا بحجة تصحيحه. وهذا هو الجوهر الأصيل الذي جاءت به رسالة الإسلام. إنه بكلمة واحدة: الحرية.
وفي آراء واجتهادات علماء السلف الكبار من أمثال الإمام أبي حنيفة ما يدل على مركزية الحرية في بناء الذات المسئولة، وما يدل على إدراكهم للحرية باعتبارها جوهر الرسالة الإسلامية إلى الإنسانية كلِها؛ فمن غير الجائز -مثلًا- عند أبي حنيفة الحجرُ على السفيه. وهو يُعلِّل ذلك بأن الحَجْرَ إهدارٌ لآدمية هذا السفيه، لأنه يبطل أقواله وأفعاله، ويصادر حرياته جميعها. ويقول إن الحَجْرَ عليه «إلحاقٌ له بالبهائم»، والضرر الإنساني المترتب نتيجة الحجر عليه أكبر بكثير من الضرر الذي يترتب على سوء تصرفه في أمواله، ولا يجوز دفع الضرر الأقل بضرر أكبر منه (محمد أبو زهرة، أبو حنيفة: حياته وعصره وآراؤه الفقهية. القاهرة: دار الفكر العربي، 2008م. ص350-355).
وهذا ما ذهب إليه روّاد الإصلاح في العصر الحديث أيضًا، ومنهم الإمام محمد عبده، الذي يرى أن الإنسان تم له بالإسلام أمران عظيمان طالما حُرِم منهما، وهما: استقلالُ الإرادة، واستقلال الرأي والفكر، وبهما كملت له إنسانيته، واستعد لأن يبلغَ من السعادة ما هيأه الله له بحكم الفطرة التي فطره عليها سبحانه وتعالى.
ولم تنهض النفوس للعمل ولم تتحرك العقول للبحث والنظر إلا بعد أن عرف العدد الكثير أنفسهم، وأن لهم حقًا في تصريف اختيارهم، وفي طلب الحقائق بعقولهم. ولم يصل إليهم هذا النوع من العرفان إلا في الجيل السادس عشر من ميلاد المسيح، وكان ما وصلهم عبارة عن شعاع سطعَ عليهم من آداب الإسلام ومعارف المحققين من أهله في تلك الأزمان (الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، تحقيق محمد عمارة. القاهرة: دار الشروق، ط2، 2006، جـ3/ ص 443، 444).
عندما يفقد الإنسان حريته، أو عندما تنتقص قدرته على المشاركة والتشاور وإبداء الرأي، فإن أول ما يفعله هو أن ينسحب من المجال العام، وينكفئ على ذاته، أو قد يلتحق بجماعة السلطان المستبد، ويصبح أداة من أدواته في ممارسة البطش والتنكيل بالآخرين. وفي الحالين يفقد المجالُ العام جزءًا من حيّزه؛ لأن هذا المجال لا ينشأ ولا يتكون إلا بمجموع ذوات إنسانية حرة، تتشارك هموم الجماعة، وتتواصل فيما بينها بحرية، وتسعى لتحقيق مصالحها، والدفاع عنها عندما تتعرض للتهديد، وفي المقابل تكسب السلطة الطاغية ذلك الجزء المفقود من المجال العام؛ لأنه فقد حريته.
لا يطلب الإسلام الحريةَ لمن يعتنقه ويرضى به دينًا فحسب، وإنما يطلبها ويأمر بالسعي إليها لكل بني البشر؛ أيًا كانت مللهم التي ينتمون إليها، أو نحلهم التي يؤمنون بها. ولعل الحكمةَ في حث الإسلام على وجوب تحرير غير المسلم، هي أن حرية الإنسان شرط ضروري ولازم كي يعمل عقله، وإعمال العقل هو طريق الاستدلال الصادق للإيمان بالله، والإسلام يأمر بأن يستدل الإنسان قبل أن يعتقدَ، لا أن يعتقدَ ثم يستدل.
إن فقدَ الحرية هو أبرز علامة على فقدان الشورى، وهو أيضًا أوضح علامة على استبداد المجتمع، ومن ثَمَّ على استبداد الدولة؛ سلطانية كانت أو حديثة. وفقدان الحرية، هو أحد أهم أسباب انحطاط المجتمعات الإسلامية، وعلةٌ أساسية من علل انحسار المجال العام الحر، وسبب رئيسي لسيطرة قلة محتكرة للسلطة والثورة عليه. وقد عبَّر الكواكبي عن ذلك بدقة في كتابه «أم القرى». قال الكواكبي على لسان «المولى الرومي»: