آنا ودوستويفسكي: هل تقبلين الزواج من عجوز مقامر؟
في أحد الأيام، استدعى أستاذ دورة فن الاختزال (الكتابة السريعة) تلميذته النجيبة آنا غريغوريفنا، وأشاد لها بمستواها الرائع في تعلم هذا الفن المعقّد الذي يتطلّب مجهودًا كبيرًا لملاحقة المتحدثين وتدوين كلماتهم على الورق.
من أصل 150 طالبًا بدأوا هذه الدورة لم يُكمل إلا 125 كانت منهم آنا، وهو ما دفعه لترشيحها لمهمة جليلة.
أخبرها أن الأديب الروسي ديستويفسكي (داستاييفسكي حسب النُطق الروسي) يبحث عن شخص يُملي عليه روايته الجديدة «المقامر»، مقابل أجر قدره 50 روبلاً، وأنه رشّحها له.
أثارت هذه الخطوة الحماسة في نفسها، لأنها ستضعها، لأول مرة، على طريق الاستقلال المادي، كما أنها فرصة للتعرف على أديب أبيها المفضل والذي لطالما أبكاها بعباراته خلال مطالعة روايته «مذكرات من بيت الأموات».
ذهبت آنا إلى موعد عمل، دون أن تدري أن هذا اللقاء سيُغيِّر حياتها للأبد.
أخيرًا، وجدت الجوهرة
في شقته المتواضعة التقيا لأول مرة، تخيلته عجوزًا كوالدها لكنها فوجئت به شابًا في أواخر الثلاثينيات، لكنه بدا لها في أسوأ حالاته؛ شاحب الوجه غريب العينين رث الثياب.
وعندما تحدّث لها، حكى لها عن حُكم الإعدام الذي أصدرته السُلطات بحقه بتهمة التآمر على النظام، وتحوّل إلى الأشغال الشاقة 4 سنوات، وهو فوق منصة الإعدام!
بسبب هذا التهور السياسي، عاش ديستويفسكي مُراقبًا من قِبَل السُلطات لفترة طويلة، حتى بعد زواجه واعتزاله العمل السياسي وتفرّغه للأدب ورعايه أطفاله.
شعرت آنا بالدهشة من ذلك الرجل الذي يخوض في حديثٍ كهذا مع فتاة يقابلها لأول مرة، إلا أنها فيما بعد أدركت أنه يبحث عن أُناس يثق فيهم بسبب حالة الوحدة القاتلة التي يعيشها بعد وفاة زوجته الأولى ماريا إيسايفا وشقيقه الأكبر ميخائيل.
في هذا التوقيت، أيضًا، كان فيودور يعيش أسوأ أوضاعه المالية بعدما حاصرته الديون عقب وفاة أخيه وتجاوزت الـ3 آلاف روبل، فاضطر ديستويفسكي لبيع حقوق مؤلفاته إلى أحد الناشرين، ومنحه حق طباعة رواية جديدة، مقابل سداده لديونه.
ولهذا كان على فيودور أن يُنهي الرواية خلال شهرٍ واحد وإلا سيُزج به إلى السجن.
تحكي آنا، أنها راحت تتردد عليه يوميًا، ليُملي عليها فصول «المقامر» من الثانية عشرة ظهرًا وحتى الرابعة عصرًا، وبعدها كان الحديث يتشعّب بينهما في شتّى المناحى، وبخاصة الشِق الأدبي منها.
وفيما بعد ستعرف آنا، أن هذه الرواية كانت مبنية على قصة حب فاشلة لديستويفسكي خاضها مع عشيقة تُدعى بولينا أحبّها على زوجته الأولى ماريا، لكنها رفضت الارتباط به عقب رحيلها.
على الرغم من محاولات آنا لإخراجه من شرنقة الكآبة التي كادت تبتلعه، ظلَّ مُحافظًا على يأسه من ضيق الأحوال حتى أنه ذات يوم أخبرها أنه أمام خيارين إما الهجرة إلى القدس أو الزواج لعلّه يجد السعادة المفقودة بين العائلة.
نصحته بالتخلّي عن الهجرة والتفكير في الزواج وإنشاء أسرة، فرد عليها بسؤال صعب: «هل تتصورين أن امرأة ستقبلني زوجًا؟».
انتهى هذا الفيلم البائس القصير بنهاية سعيدة، فرغ الثنائي من الرواية خلال 29 يومًا بدلاً من 30، سلّمها ديستويفسكي للناشر وتخلّص من وطأة الديون، ونجحت آنا في مهمتها الأولى ونالت أجرتها.
وهو الأمر الذي يبدو أنه فتح شهية فيودور على الحياة من جديد، فرفض أن تنقطع علاقتهما، وقام بزيارة عائلتها في المنزل، وبعدها عرض عليها أن تكتب له جزأه الأخير من روايته الشهيرة «الجريمة والعقاب».
وفي الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني، وحينما كانت تجلس معه في منزله تستعد لتكتب له روايته، أخبرها أنه ينوي أن يؤلِّف رواية جديدة تحكي عن رجلٍ مرَّ بطفولة قاسية وشهدت علاقته بزوجته وأقاربه تعقيدات جمّة. ثم أخبرها أنه ينوي أن تنتهي هذه القصة بأن البطل سيعود إلى الحياة من خلال حب يشفيه وينقذه من وحدته وشيخوخته المبكرة.
فوجئت آنا بعدها بديستويفسكي يقول لها: ما رأيك؟ هل تستطيع فتاة شابة أن تحب فنانًا عجوزًا مريضًا مثقلًا بالديون؟ لنفترض أن الفنان هو أنا، البطلة أنت، فما رأيك؟ فأجابته: لو كان الأمر كذلك فعلاً لأجبتك: أحبك وسأظل على حبي مدى العمر.
طار الأديب الكئيب من السعادة، وأخبرها أن أكثر ما حمّسه لحُبها هو رؤيا جيدة حلم في المنام رأى فيها «جوهرة براقة بين مخطوطاته»، فسّرها بأنه يجب أن يتزوّجها!
في هذا اليوم، وقبل أن تغادر منزلها، ودّعها قائلاً: «أخيرًا، وجدت الجوهرة».
فلنرحل بعيدًا عن أقاربك
بعد الزواج، عاش فيودور أجمل أيام حياته، تحسّن مزاجه وعاود كتابة واحدة من أفضل رواياته «الجريمة والعقاب»، كما تحسّنت صحته وتضاءل عدد نوبات الصرع التي كان يُعاني منها منذ كان في الـ9 من عُمره.
تحكي آنا، أن أقارب ديستويفسكي عاملوها ببرود، وتحديدًا بافل ابنه بالتبنّي، حتى أنها فكّرت في الطلاق، ولما صارحته بما تتعرّض له هوّن عليها، وأخبرها أنه يعتزم طلب سلفة مالية من ناشره كي يُسافر معها إلى الخارج.
حصل فيودور على السُلفة بالفعل، لكنه أنفقها على حاجيات أقاربه!
لم تيأس آنا وأصرّت على السفر، بعيدًا عن الأقارب المزعجين، لتوثيق أواصر الزواج، فرهنت أثاثها وحُليها وسافرا إلى خارج روسيا، وبدلاً من أن يقضيا 3 أشهر استمرَّا 4 سنوات.
راقبت زوجة ديستويفسكي زوجها وهو يعيش أعوام المتعة عواصم أوروبا مستعينًا بالحوالات المالية التي كانت تصله من ناشريه بالبريد لتدبير شؤون حياتهما، وبعد ما استقرَّ بهما المقام في مدينة بادن الألمانية، لم ينغّص عليها إلا إدمانه الشره لموائد القمار التي كان يُضيع عليها أمواله وهو الأمر الذي كان يُحزنه كثيرًا، لكنها رغم ذلك لم تتوقف عن التطييب عن خاطره؛ خوفًا من أن تتضرّر صحته بهذا الحزن.
لم يتوقف ديستويفسكي عن اللعب ولا عن الخسارة، حتى بدّد كل مالهما فاضطرت لرهن حاجياتها الشخصية، بما فيها هدية الزفاف، حتى تسدَّ ديونه.
تحكي: تأكد لي أن دستويفسكي لن يكسب شيئًا، وأن توسلاتي إليه بالكف عن اللعب لا جدوى منها، في البداية استغربت من هذا الرجل الذي تحمل بمنتهى البسالة آلام السجن والإعدام الوشيك و النفي، الأشغال الشاقة ووفاة أخيه وزوجته، لكنه عاجز عن التوقف والامتناع عن المجازفة بآخر فلس. وكنت أعتبر ذلك أمرًا لا يليق بمنزلته، لكنني سرعان ما أدركت أن ذلك ليس مجرد ضعف إرادة، بل هو مرض لا علاج سوى الفرار من هذا الجحيم.
هربت آنا بزوجها المقامر إلى جنيف، حيث استأجرا شقة متواضعة وعاد ديستويفسكي إلى «حياة النظام»، فعاد إلى القراءة والكتابة بِاستمرار، وترجم رواية بلزاك «أوجيلي غرانده» إلى الروسية.
عندما شرع في تأليف رواية «الأبله»، دخل في حالة عدم الرضا التي تصيبه دومًا كلما بدأ في عملٍ جديد، وانتشله من هذه الحالة قدوم ابنتهما الأولى صوفيا في 22 فبراير/ شباط 1898م بعد ولادة عسيرة أجبرت ديستويفسكي على الصلاة إلى الله باكيًا خوفًا على زوجته من الموت، وهو مشهد الولادة الصعب الذي كتب عنه لاحقًا في روايته «الشياطين».
للأسف توفت الطفلة، مبكرًا، وهي ابنة 3 شهور، ما جعل إقامة فيودور في المدينة التي شهدت وفاة ابنته أمر فوق طاقته فغادرها إلى ميلانو ومنها إلى فلورنسا.
بعدها بعام، عادت الفرحة لفيودور من جديد بعد ما علم بنبأ حمل زوجته مجددًا، فأبدى اهتمامًا جمًّا بصحتها حتى أنه أخفى عنها رواية الأديب ليو تولستوي «الحرب والسلام»، والتي وصف فيها الكاتب وفاة زوجة الأمير أندريه بولكونسكي أثناء الوضع، خشيةً على نفسيتها أن تتأثر بوصف تولستوي الفني البارع.
تحكي: أدرك دستويفسكي أنه ابتعد عن روسيا كثيرة، وصار الحنين بشده إليها. وشعر بحاجة ماسة إلى مادة من الواقع الروسي تمكنه من مواصلة الكتابة.
بعيدًا عن روسيا شعر فيودور أن موهبته الأدبية نضبت، وأنها ستذوي وتموت، فاقترحت عليه زوجته أن يعود للقمار مجددًا لعله يسري عن روحه الملكومة. لم يأتِ هذا الحل بالنتيجة المرجوة، فلقد عاد منه ديستويفسكي بعد ما خسر كل أمواله يقطّعه الندم، كالعادة، لأنه حرم زوجته وابنته من لقمة العيش، فتعهّد لزوجته بعدم ممارسته بقية حياته، وهو الوعد الذي لم يتخلَ عنه حتى مات.
وفي 5 يوليو/تموز عام 1871م، عاد ديستويفسكي بعائلته الصغيرة إلى موسكو بعد 4 أعوامٍ قضاها في منفاه الاختياري.
العودة
لم تكن العودة إلى الوطن بالرحابة المُتصوّرة؛ بعد ما اكتشف فيودور أن ابنه بالتبنّي باع مكتبته، وهي الخطوة التي مثّلت له ضربة قاسية، كما فوجئ بهجوم جيش من الديَّانة الذين أحاطوا بمنزله فور أن نشرت الصُحف نبأ عودته، كما تعرضت آنا لمرض خطير في حنجرتها كاد يقودها إلى حتفها.
انتهى ديستويفسكي من روايته «الشياطين» بعد أعوامٍ ثلاثة مُتعبة، وبعدها عُومِل الرجل بشكلٍ فج مع الناشرين فكان أفضل عرض مالي وصله هو شراء حقوق طباعة الرواية مقابل 500 روبل تُسدّد على أقساط.
ومن هنا فكّر ديستويفسكي في نشر مؤلفاته بنفسه، وهي الفكرة التي حقّقت نجاحًا كبيرًا وحصدت أرباحًا تجاوزت الـ4 آلاف روبل، ولعبت آنا دورًا كبيرًا في إنجاحها بعد ما درست سوق الكتب بمنتهى الدقة، ووضعت كافة خطط التوزيع وحوّلت دستويفسكي لعلامة تجارية أدبية روسية، لدرجة أن بعض المؤرخين وصفوها بأنها «أول سيدة أعمال روسية حقيقية».
وفيما بعد سيُكرِّس فيودور زوجته للإشراف عليها، وقبيل وفاته بأعوام أهداها حقوق طبع كافة مؤلفاته.
أصدر فيودور مجلته الشهيرة «يوميات كاتب»، التي زادته نجاحًا، وساعدت على إضفاء المزيد من التحسّن على أوضاعه المالية؛ اختفت الديون، وتحسنت صحته وكادت نوبات الصرع تتلاشى، وهو ما لم يدم طويلاً.
في عام 1877م، قابل عرّافة في موسكو أخبرته أنه سينال «شهرة عظيمة ومصيبة أليمة». وفي ذات العام تُوفي ابنه ألكسي بنوبة صرع ورثها من والده وهي الفجيعة التي أثّرت على نفس ديستويفسكي كثيرًا، ولم يعوّضه عنها إلا مهرجان أدبي أقيم في موسكو توّجه أميرًا للرواية ونال بموجبه شهرة أدبية غير مسبوقة.
تحكي آنا: تبدل حالي واختفت بشاشتي المعهودة واستولت على لامبالاة مطلقة. عشت على ذكريات السنوات الثلاث الأخيرة، ذکریات صغيري الفقيد، وتحمل ديستويفسكي المصيبة بصمت جعلني أخشى عليه هو أيضًا. وكان يحاول أن يخفف أحزاني. وفيما بعد عمد إلى وصف كثير من أفكاري وشكوكي وآلامي، بل أورد حتی کلماتي بالحرف الواحد، في «الأخوة كارامازوف».
كما تكشف آنا عن أن زوجها ما إن علم بنبأ اندلاع الحرب العالمية الأولى، ودخول بلاده الحرب ضد الدولة العثمانية، أسرع إلى الكاتدرائية وراح يبتهل إلى الله حتى خرج إليها متأثرًا ذاهلاً لدرجة أنهم لم يعرفها!
وفيما بعد ظلَّ يتابع نتائج هذه الحرب، ويؤيد بحماس دخول روسيا فيها لأنها ستعين القيصرية الروسية على «أداء رسالتها التاريخية في توحيد البشرية، على أساس المحبة والأخوة المسيحية».
لم يمنعه هذا عن مواصلة نشاطه الأدبي، فأنجز «الأخوة كرامازوف»، والتي حققت نجاحًا كبيرًا فور طرحها كالعادة، وعلى هامش ظهورها كثرت مشاركات فيودور الأدبية، فكان يظهر في الأمسيات الثقافية، يلقي فيها فصولًا من مؤلفاته، وخصوصًا الرواية الجديدة «الأخوة کارامازوف»، ويستقبله الجمهور بمنتهى الحفاوة والتكريم.
وبالطبع كانت رفيقته الدائمة في كافة هذه الأمسيات زوجته آنا؛ تحمل له كتبه وأدويته وبطانية تلفُّ بها عنقه وكتفيه كيلا يُصاب بالبرد في الطريق، وفي إحدى المرات ختم يومًا أدبيًا شاقًا، بقولٍ أطرب روحها: «أنت حامل سلاحي».
سأموت اليوم
في عام 1881م، كان ديستويفسكي يعيش أفضل أحواله، فالنجاح الساحق لروايته «الأخوة کارامازوف» دفعه للتفكير في كتابة جزء ثانٍ لها تدور أحداثه بعد 20 عامًا من نهاية الجزء الأول، وفي يوم 20 يناير/ كانون الثاني، كان يلعب مع طفليه عندما رأت آنا الدم يسيل من أنفه ويبلُّ لحيته، وعندما استدعت الطبيب طمأنها أن الإصابة هيّنة، وعلى مدار الأيام التالية تكررت هذه الفِعلة بشكلٍ بسيط حتى أتى يوم 29 يناير/كانون الثاني، لم يغمض لديستويفسكي جفن طوال الليل، وقال لزوجته «سأموت اليوم»!
تحكي: فتح لي الإنجيل على صفحات اختارها عشوائية وأعطاني إياه فقرأت فيه: «وإذا السماوات قد انفتحت له فرأى روح الله نازلًا مثل حمامة وأتيا عليه» (متى، الإصحاح 13، کرر دستويفسكي مما قرأت: «وإذا السماوات قد انفتحت له»، وأضاف: «ألم أقل لك يا حبيبتي إني سأموت اليوم؟».
وبالفعل، بدا أن أديب روسيا الخالد في طريقه إلى النهاية، راح جسده ينتفض ويشحب الدم من وجهه، وعندما حاولت زوجته أن تسعفه بمكعبات الثلج أسلم الروح بين يديها، وكان وداعهما مهيبًا وسريعًا، بعد ما خلّف لها وصية قال فيها: «عندما أموت، يا آنا، ادفنيني هنا أو أينما تشائين، ولكن تذكري جيدًا، لا تدفنيني في مقبرة فولكوفويه ضمن مدافن الأدباء، لا أريد الرقود بين أعدائي، يكفيني أنني عانيت منهم الأمرين في حياتي».