الرسوم المتحركة: رحلة بين الماضي والحاضر
سطعت شرارتُها منذ سحيق الزمن حين خط الإنسان الأول بيديه على حوائط الكهوف نقوشًا عبثية مُدشِّنًا بها أدق مكونات أشكال الترفيه البصري وأبسط صوره، بوقتٍ كان فيه ذروة التدوين بشتى ألوانه قاصرًا على النقوشات العشوائية على حوائط الكهوف، وهو ما تم رصده بالفعل من أوائل الرسومات المتحركة التي تعود للألفية الثالثة ما قبل الميلاد؛ مما يدل على قَدامة الأساس المبني عليه الرسوم المتحركة.
ما قبل نشأة السينما «Pre Cinematography»
أثرت تلك الفترة التي سبقت صناعة السينما بأدواتها من أجهزةٍ للرصدِ والتصوير على تطور الرسوم المُتحركة بصورةٍ بعيدة المدى، فحينما صدرت القصة القصيرة «Fantasmagorie» بعام 1908، عدَّها المؤرخون بمثابة أول شريحة كارتونية مرسومة يدويًا. لكن ما ميَّز تلك الفترة حقًا، هو بزوغ نجم تكنيكات بدائية بسيطة كالتلاعب الظلي Shadow play، والمصباح السحري Magic lantern، مما مكن من صناعة قصص بدائية بسيطة تُحاكي فكرة الرسوم المتحركة فيما بعد.
فترة نشوء السينما
ومع مولد السينما وأدوات الـ«Cinematography»، واستحداث أساسات التصوير والعرض السينمائي، شهدت تلك الفترة سن ما يسمى بـ«الأُسس الاثني عشر للرسوم المتحركة»، حيث قام رساما ديزني: فرانك توماس، وأولي جونستون، بإصدار كتابهما المُعنوَن بـ«وهم الحياة: أنيميشن ديزني» في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، والذي غطى مسار رحلتهما في صناعة الكارتون.
احتوى الكتاب على القوانين التي تصف فيزيائية الرسوم المتحركة وطابعها العام، حتى حاز الكتاب في تصويتٍ رقمي عام 1999 ميلاديًا على وسم «أفضل كتاب للأنيميشن حتى اللحظة»، وصار الكتاب مرجعًا أساسيًا للصناعة وللهواة من المتعلمين، ولا يكاد يخلو أي إنتاجٍ رسومي حتى يومنا هذا من أحد هذه القوانين إن لم تكن أغلبها، فتظهر جلية بإنتاجات ديزني بعصر الفترة الذهبية.
الفترة الذهبية للكرتون الأمريكي (1928- 1969)
فترة بدايات انتقال الكارتون من المرحلة الصامتة لمرحلة الكارتون الصوتي، والتي شهدت مولد «ميكي ماوس»، و«توم وجيري»، و«البطة دونالد»، و«النمر الوردي»، و«باجز باني».. إلخ من الشخصيات الكرتونية الشهيرة. كما تعتبر فترة البداية لأفلام الكارتون المطولة مثل فيلم ديزني الأول «بياض الثلج والأقزام السبعة».
شهدت هذه الفترة تطورًا ملحوظًا في المؤثرات البصرية ومعزوفات الأوركسترا الخاصة بالكارتون على يد الإستديوهات الرائدة بتلك الفترة كـ«ديزني»، و«وارنر بروس»، و«تيري تونز»، وتطول القائمة.
كما يعود الفضل أيضًا في تطور تقنيات الرسم والتحريك لاحقًا إلى ترسانة ديزني العتيقة المُترَعَة بالمهندسين والرسامين والموهوبين، حتى تلقفت آسيا الشرقية تلك الصنعة بعد ذلك وأجادوها فارتبط مفهوم الرسوم الكرتونية بها فيما بعد.
الأنيميشن الياباني «الأنمي»
تمتد أصول الأنمي إلى الألفية الأولى، فكان وقتها معتمدًا على قرينه الغربي أسلوبًا ومحاكاة، وأخذ بالنضج تدريجيًا عبر تعاقب السنين، حتى اشتد عوده لينحرف عن الكارتون الغربي ليتبع نهجًا مُغايرًا سواء من ناحية الرسم أو التوجه القصصي بشكلٍ عام وعلى يد إستديو «Toei Animation» الذي لعب دورًا هامًا في ترسيخ تلك النزعة المستحدثة، كما إستديو «جيبلي» أيضًا، فكان الفيلم المطول «The Prince of the Sun» الصادر عام 1968 بمثابة الفالق الذي نزح الأنمي عن أسلوب ديزني الرائج وقتها.
بدايات الأنمي لم تختلف كثيرًا عن الكرتون الغربي بمنتصف التسعينيات، فكان حيويًا ومُترهلًا متسارع الوتيرة؛ يُرسم بتتابع رسمة لكل إطار (1s)، إلى أن وصل لمُفترق مساره معه وأخذ يتبع أسلوبًا مُغايرًا.
كما شهد العقدان الأخيران من القرن الماضي ما يُعتبر بداية الشهرة الحقيقية للأنمي، واقتحامه السوق العالمي تبعًا لصدور أنميات كـ«دراجون بول» و«جاندام» والشهرة العالمية التي حازاهُما وقتها، ومنذ ذلك الوقت والأنمي ما يزال يشهد نموًا واسعًا وشهرةً تزداد يومًا بعد يوم في مختلف الأوساط.
أنواع أساليب الرسم والتحريك
على نقيض السينما الحية، فالرسوم المتحركة قد لا يظهر عليها ملامح الشيخوخة والتأخر الإنتاجي على مر العقود كما تظهر جلية بالأولى، كما تُعتبر عملية الرسم والتحريك قلبًا للرسوم المتحركة ومفتن العين وعامل الجذب والحكم الأول على الرسوم المتحركة؛ فإما أن تنفر المشاهد فيشُطّ عنها وإما أن يشتهيها فيأتيها، ومنه فتتعدد أساليبه ومشتقاته حتى ثلاثة أساليب رئيسية:
أولًا: الأنيميشن التقليدي «Traditional Animation»
وكما يُوحي مُسماه حرفيًا، فهو الأسلوب الأول المُتَّبع في الرسم والتحريك، حيث يتم برسم جميع مشاهد الفيلم رسمة تلو رسمة باليد دون تدخل الآلة عن طريق شرائح (cells) تمثل الإطارات المتحركة، والتي يصل عددها إلى 24 إطارًا بالثانية، يُمرر كل إطار على خلفية ثابتة (Background) تواليًا لينتج تتابع سلس من الإطارات المتعاقبة والتي تصيغ مفهوم التحريك الرسومي.
تطغى المرونة السلسة كطابع عام للأسلوب، ويتجلى ذلك من خلال الكلاسيكيات كـ«توم وجيري»، وأفلام ديزني كـ «ـسيندريلا».
ونتيجةً لكم الرسومات المهولة المتضمنة، فقد تعلق العديد من الأفلام في مرحلة الإنتاج لسنوات، ففيلم كـ «Steamboy» ياباني الأصل والصادر عام 2004 -وعلى الرغم من أنه غير يدوي الرسم بالكامل- استغرق مدة تصل إلى 10 أعوام حتى الانتهاء منه، بميزانية ضخمة مقارنةً بأفلام الأنمي وقتها، حاله كحال أغلب أفلام جيبلي الشهيرة، والتي غالبًا ما أُعدت في مدة متوسطها ثلاث سنوات.
كما تلعب ميزانية الإنتاج دورًا رئيسيًا في تأسيس مراحل وتبعات العملية، فتم ابتكار الأنيميشن المحدود (Limited Animation) لاختزال الجهد والوقت وتكثيف الإنتاجية، وسد فجوات نقص الموارد وشحوح الكوادر عبر اعتماد شرائح رسومات أقل، وتثبيتها بأكثر من إطار واستعمالها في أكثر من نطاق، ما ينتج عنه تعاقب أقرب بالوصف إلى الجمود والرزانة معًا؛ نقيضًا للأنيميشن مكتمل الرسومات.
تزامن استعماله مع بدايات نهوض التلفاز كوسيلة للترفيه ونزوح السينما للخلف قليلًا مُنتصف القرن الماضي، لذلك كان حتميًا اعتماده كأسلوب يتماشى مع العجز والطابع العام للعروض المُتلفزة، فكان الأنيميشن المحدود وسيلة للتغلُّب على هكذا عقبات، بل وصار فيما بعد كنُقطة فارقة لتمييز إنتاجات اليابان عن أقرانها.
ثانيًا: الأنيميشن الرقمي ثنائي الأبعاد «Digital 2D»
كما يوحي مسمّاه أيضًا، فهو الرسومات العائمة بفضاء ثنائي الأبعاد كما المتعارف عليه في ألعاب «سوبر ماريو» الكلاسيكية، وحين إدخال البعد الثالث عليها مع الحفاظ على الأول كواجهتها الأساسية يتشكل تحريك مهجن كما يبرز في الكارتون والأنمي.
تُرسم بالكامل رقميًا إما على أوراق تُحال رقمية عبر ماسح ضوئي، وإما على ألواح رسم رقمية (تابلت)، وإما أن يولّد ويحرَّك بالكامل حاسوبيًا وهو ما يُرمز له بالـ«CGI». وتمثل هذه التدرجات تطبيقًا تقديريًا لتتابعات مراحل تطور الرسومات المحوسبة المناظرة للأنيميشن التقليدي حديثًا، فقبل استخدام الحاسب، كانت عملية الرسم تمر تقديريًا بالآتي:
الرسم على الفيلم – 1944 (الرسام الكندي نورمان ماكلارين)
يمثل الـ«Lead Animator» رأس الهرم لشبكة الرسامين أسفله، فهو بدوره المشرف العام على بقية الرسامين والمرجع الأخير لتحقيق الرسمات.
تليه مجموعة أخرى صغيرة من الـ«key Animators» المختصين برسم أول وآخر إطار للحدث، فبذلك يشكلون ملامح المشهد ويعود الفضل الأكبر إليهم في إبراز قوة وضراوة الرسوم. وأما ما يتخلله من إطارات فيتعاقب عليه أفراد المجموعة الأخيرة من الرسامين المساعدين.
يلي ذلك مرحلة سد التخللات، أو ما تسمى بالـ«In-between»، حيث تتم فور اتساق عملية الرسومات المفتاحية السابقة، والتي من مسماها تعني رسم الإطارات البينية والمفقودة امتدادًا من الإطار الأول حتى الأخير.
يأتي بعد ذلك عملية إضافة المؤثرات البصرية لكل ما هو جامد، كالنار، والانفجارات، والمطر، والسيارات، والدخان.. إلخ. وتعقبه المراحل النهائية، كرسم الخلفيات وإلصاقها بجانب الرسومات الأساسية.
في حالة اعتماد الأنيميشن المحدود فيتم تقليص جميع المراحل السابقة لغرضِ الاقتصاد في الموارد، فغالبًا ما تكون تلك الأعمال موجهة للشاشة الصغيرة، فيتقلص عدد الرسومات نسبةً للإطارات، فتُرسم أحيانًا كـ2s أو3s. (وهي مصطلحات متداولة في وسط الرسامين، فيعني تتابع الـ1s أن تشغل الرسمة الواحدة إطارًا (Frame) وحيدًا ليكون مجموع الرسومات في الثانية 24، أو أن تشغل الرسمة إطارين كما في الـ2s فيكون مجموع الرسومات في الثانية 12 رسمة، والـ3s أن تشغل الرسمة ثلاثة إطارات، فيكون حاصل الرسومات في الثانية 8 رسومات).
أما منذ أن استُخدم الحاسوب، فتتم عملية الرسم بجميع مراحلها وصولًا للمونتاج من خلال مُحركات برمجية وحزم مكتبية مُتخصصة تغني عن أغلب المراحل السابقة.
ثالثًا: الأنيميشن الرقمي ثلاثي الأبعاد Digital 3D
نظريًا، فكل صورة مولَّدة حاسوبيًا تقع تحت نطاق الأنيميشن الحاسوبي، سواء أكانت ذات بعدين أو ثلاثة أبعاد. ومع تقدم الحاسوب عتاديًا وبرمجيًا وغزوه لمجالات عديدة، استمرت خوارزمياته وقدرته على المعالجة بفرض طغيانها والإتيان بأساليب أبسط وأدق لتنفيذ المهام.
في منتصف خمسينيات القرن المنصرم، شهدت تلك الفترة أول صورة مولدة حاسوبيًا عبر ماكينة حاسوبية بسيطة وهائلة، ومع منتصف ستينيات القرن الماضي، توسع استخدام الحاسوب وصار يغطي مجالات أوسع حتى سلك طريقه للمجالات الفنية، فقبلها بعشرة أعوامٍ مثلًا اقتصر استخدامه على الأبحاث والدراسات الحكومية، وبعدها بعقدين أُدخِل مفهوم الـ«3D» أنيميشن أول مرة للساحة، واستمر تطوره الملحوظ في الفترات الأخيرة حتى تمكن من فرض هيمنته على ساحات الإنتاج المرئي.
مع استهلال العام 1990 استُخدمت الصور المولدة حاسوبيًا (CGI) لأول مرة علنًا في فيلم المخرج جيمس كاميرون «Terminator 2: Judgment Day» في بعض مشاهده، ثم تلاه فيلم ديزني الكرتوني «Beauty And The Beast» والذي أُنتج كليًا عبر الدمج بين الرسم النصف يدوي والـ«CGI».
ومنذ صدور فيلم «Toy Story» بالعام 1995 في السينما ونجاحه على الصعيدين النقدي والجماهيري الذي شكل طفرة تقنية وبداية لمدرسة جديدة في صناعة الرسوم المتحركة، مدرسة تعتمد على صناعة المجسمات البرمجية أكثر منها للموهبة الفطرية للرسام؛ سرعان ما هرعت كبار الإستديوهات بتبنيه وعلى رأسهم عملاق الصناعة ديزني، إلى أن أصدرت «The Princess and the Frog» بعام 2008، مُعلنة ختام تاريخٍ عريق لرحلةٍ متألقة من صناعة الأنيميشن ثنائي الأبعاد.