الرسوم المتحركة وسياسات الهوية في عالم ما بعد العولمة
هناك أنماط كثيرة من السياسات الثقافية، والتي مثّلت طريقًا سارت عليه معظم القوى الناعمة، بهدف التأثير؛ بدايةً من الرغبة في تخطي الحدود القومية، ووصولًا إلى الأغراض التجارية الربحية.
تزداد هذه العملية تعقيدًا بسبب ديناميكيات تعبئة وتداول منتجات الرسوم المتحركة بين الجماهير على مستوى العالم، والذين يمنحون استهلاك الرسوم إمكانيات ثقافية متنوعة. ونتيجة لذلك، فإن ما يُسمى بالرسوم المتحركة أظهرت قدرة على الانخراط في سياسات ثقافية متعددة بشكل سلس وممهد على مدار السنين.
فلقد تركت الرسوم المتحركة التي أنتجتها الشركات الأجنبية مثل «والت ديزني»، بصمة لا يُستهان بها في حياة الأجيال، فقد تحولت بعض شخصيات أفلامها إلى أيقونات في حياة صغار السن، على مدار السنين.
إن الشباب الذي تمتلئ به الآن الشركات وجهات العمل، هو نفسه الذي جلس في السابق لتمتلئ أدمغته بمهرجان الرسوم المتحركة، خلال سنوات تكوين وعيه، كما لم يحدث لأي جيل قبله.
فقد أشار البحث المنشور في موقع Scientific Research بعنوان: «تأثير أفلام الكارتون على تغيير الاستجابة العقلية والسلوك للأطفال»، إلى أن أفلام الكرتون تُخلِّف بصمة على نمو الطفل من حيث المشاعر والإدراك والشخصية، ويظهر أثر ذلك مع التقدم في العمر وظهور ملامح شخصيته.
«باربي وفلة»: مفارقة الهوية
«باربي» التي أحبتها الفتيات والمراهقات، لم تهيمن فقط على سوق الألعاب العالمي، بل تغلغلت في الثقافة الشعبية العالمية عبر القصص والأفلام، مما أدى إلى تعالي أصوات المعارضة ضد هذه الدمية، باعتبار أنها غير متوافقة مع مبادئ وثقافات بعض الدول، وخوفًا من اتخاذ شخصية «باربي» نموذجًا تسعى الفتيات لتقليده في الحياة، حيث قامت المملكة العربية السعودية بمنع بيع «باربي» داخل أراضيها.
وكرد فعل تم صنع «فلة»، تلك الدمية التي بدأت في الأسواق السورية، ومن ثَمَّ قامت بتوزيعها شركة NewBoy في باقي البلاد العربية. فبدايةً من الاسم «فلة» الذي تم اختياره لأن الفل لا ينمو إلا في الأراضي العربية، إلى الملابس التي تم تصميمها لتناسب الثقافة والعادات، مرورًا بالملامح وأبرزها العيون البنية والبشرة خفيفة السمار. تم توزيع الدمية في غالبية البلاد العربية، بالإضافة إلى مجلة «فلة» موجهة للفتيات من سن ٨ إلى ١٦ عامًا والتي تصوِّر حياة تلك الدمية بقصص تناسب الهوية العربية، وكأنه تم صنع هذه الدمية لتكون سفيرة للثقافة العربية في وجدان فتيات المستقبل، ولأخذ مكانة الدمية «باربي».
بكار: المحارب الوحيد
طفل أسمر اللون، بجلباب أبيض، ويسكن في بلاد النوبة موطنه.
هذه الخلطة المصرية البسيطة التي حملها «أبو كف رقيق وصغير» إلى بيوت وقلوب المصريين كبارًا وصغارًا، في وسط مائدة مزدحمة بالشخصيات الكرتونية الأجنبية، التي تختلف في الثقافة والعادات والتقاليد، ليلعب دورًا هامًا في غرس العديد من القيم والتقاليد والأفكار المناسبة للهوية العربية والمصرية تحديدًا في نفوس الأطفال.
الأنمي: الساموراي الياباني
أثبتت تلك التجربة أن المنتج المحلي غير الأمريكي لديه القدرة على السفر إلى الخارج وخلق طرق جديدة، من خلال الصدامات الثقافية غير المتوقعة للتفكير في قضايا الهوية. لقد كان تصدير الأنمي الياباني إلى الخارج بهذا الشكل تجربة تستحق التأمل، فقد خضع الأنمي لمسار تطوير فريد يسمح بالاقتراض الإبداعي لعناصر ثقافية وسياسية مختلفة لبناء خصائصها الأسلوبية وإطارها السردي على طول الطريق.
فالمانجا التي تحوّلت لأفلام ومسلسلات أنمي مختلفة عن غيرها، ومتشبعة بالهوية اليابانية، جعلت العالم كله يرى اليابان بشكل مختلف.
ويدل انتشار الأنمي الياباني مؤخرًا في كل أنحاء الأرض، مرورًا بالدول العربية، على قدرة شيء بسيط كرسوم متحركة على تحريك المفاهيم وزرع الثقافة الشعبية؛ من معتقدات وملابس وأطعمة وتقاليد، حتى صارت من أبرز مظاهر القوة الناعمة اليابانية، حتى أنها واجهت نظيرتها الأمريكية في عقر موطنها، فوفقًا لموقع Epicdope، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تحتل المركز السادس من بين أكثر الدول التي يتمتع داخلها الأنمي بالشعبية.
هوية الأجيال القادمة
قدّمت عالمة الاجتماع السويدية، «تشارو أوبال»، تجربة امتدت بين عامي 2009 و2018، وتضمنت 140 فتاة، وكان هدف التجربة هو معرفة تأثير توجه ديزني في أن جميع أميراتها هن من ذوات البشرة البيضاء وينحدرن من دول الغرب، وأسفرت التجربة عن أن بعض الفتيات من بلدان غير غربية كالهند وفيجي والصين، ذكرن خلال أحاديثهن، بأنهن لا يمكن أن يصبحن أميرات لأنهن سمراوات البشرة ولسن جميلات كفاية.
ديزني والمثلية
شهدت الأعوام الأخيرة صدور فيلم Onward، والذي يعتبر تعاونًا مشتركًا بين ديزني وPixar، حيث تم تقديم أول شخصية مثلية في عالم بيكسار من خلال هذا الفيلم، وهو ضابط يُدعى «سبيكتور»، وقد تم منع عرض الفيلم في أربعة بلدان عربية. وأصدرت أيضًا ديزني فيلمًا قصيرًا بعنوان OUT، تقدم فيه بطل العمل كشخصية مثلية.
وتعتبر تلك الأفلام خطوات تدريجية لموجة من القصص التي ستتناول موضوع المثلية أمام عقول أطفال في الأعوام الأولى لتشكيل هويتهم. وبعيدًا عن الأحكام الأخلاقية ونظرية المؤامرة، ولكن من المهم أن نتفق على أنه من غير المنصف زرع أفكار كتلك في عقل جيل لم يُكوِّن هويته بعد، لأنه قد يتبناها فقط بدافع التأثر وليس الاختيار.
رد الفعل الغائب
صناعة محتوى الأطفال بحاجة إلى إعادة نظر منّا، ففي النهاية يمكننا القول إن الهوية العربية -للأسف- ليس لها سفير في عقول أطفال المستقبل، كما كانت تُطلِق عليهم القناة الأشهر Spacetoon، وهو فراغ سيمتلئ بسفراء الهويات الأجنبية، شئنا أم أبينا، ولكن كما قالوا قديمًا إن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، فبأي وسيلة سنمحو هذا النقش مستقبلًا إن لم يُعجبنا أثره؟!