يعتبر سرطان الأمعاء ثاني أكبر مسببات الوفاة بين «الحيتان البيضاء – Beluga whale» عند مصب نهر سانت لورانس في كندا، حيث تبين إصابة 27% من الحيتان الميتة بسرطان الأمعاء [1]. وعلى الرغم من الشائعة واسعة الانتشار بأن أسماك القرش لا تصاب بمرض السرطان[2]، تشير الأبحاث إلى أن أسماك القرش قد تصاب بسرطان الجلد (الميلانوما)[3].

تعتبر دراسة انتشار مرض السرطان بين الحيوانات من الدراسات المفيدة، حيث تظهر كيف يختلف نمط انتشار المرض بين الحيوانات المختلفة؛ مما يساعدنا على فهم أفضل لطبيعة المرض وكيفية تطوره، وكذلك كيف تقوم بعض الفصائل بمقاومة المرض مما يعتبر مدخلاً لمحاولات عديدة لتطوير علاج ناجح ضد المرض في الإنسان.


السرطان في المملكة الحيوانية

عفريت تسماني مصاب بورم في الوجه (المصدر: Menna Jones/ CC BY 2.5)

ما الذي يتسبب في إصابة الحيوانات بالسرطان؟

ينتشر مرض السرطان بشكل ملحوظ بين فصائل المملكة الحيوانية، وبالنسبة للعديد من أعضاء المملكة الحيوانية، فإن معدل الوفيات الناتج عن السرطان في تلك الفصائل مقارب لمعدلات الوفيات بسبب السرطان بين البشر. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تصاب القطط والكلاب التي نقوم بتربيتها في منازلنا بأنواع مختلفة من السرطان، وهناك العديد من الأسباب التي تؤدي لزيادة احتماليات الإصابة من بينها التعرض لدخان السجائر (أو التدخين السلبي)[4].

كما تصاب الحيوانات البرية أيضًا بالسرطان، فعلى سبيل المثال تصاب العديد من «عفاريت تسمانيا – TESMANIAN DEVILS» بنوع خاص من الأورام السرطانية التي تصيب الوجه، والذي يعد مميزًا حيث ينتقل عن طريق التلامس بين تلك الحيوانات[5]. يشكل تلوث المياه أيضًا أحد الأسباب التي تسبب زيادة انتشار السرطان بين الحيوانات البرية، حيث تعاني مجموعة معينة من أسود البحر في كاليفورنيا من سرطانات الجهاز البولي والتناسلي، وتشير الدراسات إلى أن الملوثات العضوية في المياه تلعب دورًا في انتشار تلك الأمراض، متسببة في إصابة الحيوانات المريضة بالشلل ثم الموت[6].

كيف يحدث مرض السرطان؟

كما ناقشنا في مقالاتنا السابقة عن مرض السرطان، فإن المرض يحدث عندما تخرج إحدى الخلايا عن النظام الطبيعي لتكاثر الخلايا، عادة ما يتم تدمير الخلايا القديمة أو التالفة، لكن في بعض الأحيان تتجنب إحدى تلك الخلايا التدمير وتستمر في التكاثر والانقسام متسببة في تكون المزيد والمزيد من الخلايا المتمردة مما يؤدي في النهاية لتكون الورم السرطاني.

من الناحية النظرية، يمكن أن نعزو الاختلاف في احتماليات إصابة الكائنات المختلفة بالسرطان للحسابات الرياضية البسيطة، فكلما زاد عدد خلايا الكائن، وكلما زاد متوسط عمر ذلك الكائن، فإن احتمالية إصابة إحدى الخلايا بطفرة تؤدي إلى تكون ورم سرطاني تزداد بشكل تلقائي. وتدعم نتائج بعض الأبحاث تلك النظرية على الرغم من بساطتها، حيث تشير الدراسة إلى أن الأشخاص الأكثر طولاً أكثر عرضة للأصابة بالسرطان من الأشخاص الأقل طولاً[7]. لكن هل جميع الخلايا متماثلة في إمكانية إصابتها بالسرطان؟


حيوانات تقاوم السرطان

فأر الخلد العاري

تشير الأدلة إلى أن النظرية البسيطة الخاصة بعدد الخلايا ومتوسط العمر وكيفية تأثيرها على احتماليات الإصابة بالسرطان ليست منطبقة في جميع الأحوال. فعلى سبيل المثال، تمتلك الأفيال تريليونات الخلايا أكثر من البشر، وتعيش لفترات طويلة، وعلى الرغم من ذلك نلاحظ أن معدلات إصابتها بالسرطان أقل من البشر

تعرف هذه الظاهرة بـ «مفارقة بيتو»، حيث لاحظ العالم «ريتشارد بيتو» أن معدل انتشار مرض السرطان بين الفصائل المختلفة ليس مرتبطًا بحجم الجسم، فنجد أن حوالي 5% فقط من الأفيال تموت بسبب مرض السرطان، فيما يبدو رقمًا قليلا للغاية حين تتم مقارنته بالتقديرات التي تقر بأن حوالي 20% من البشر سوف يفقدون حياتهم بسبب المرض.

كيف تقاوم الحيوانات السرطان؟

في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2015م، استطاع العلماء كشف جزء من غموض قدرة الأفيال على تجنب الإصابة بمرض السرطان، فبدراسة الجينوم الخاص بالأفيال، تبين أن ذلك الجينوم يحتوي على عدة نسخ من أحد الجينات الكابحة للأورام والمعروف باسم p53، يحتوي الجينوم الخاص بمعظم الثدييات على ذلك الجين، بما في ذلك الجينوم البشري، لكن الجينوم البشري يحتوي على نسخة واحدة من الجين، بينما يحتوي جينوم الأفيال على 20 نسخة من نفس الجين[8].

اقرأ أيضًا:السرطان؛ من النظرية إلى العلم المثبت

يقوم ذلك الجين بوظيفتين رئيسيتين؛ الأولى أنه يمنع الخلية من الانقسام مرة أخرى؛ مما يعطيها الوقت لإصلاح أي خلل تعرض له المحتوى الجيني أثناء الانقسام الأول، والثانية أنه في حالة عدم القدرة على إصلاح ذلك الخلل فإن الجين يحفز عملية الموت المبرمج للخلية ليقضي على الخلية المتطفرة قبل أن تتسبب في إنتاج المزيد من الخلايا المعيبة.

وبينما تحظى الأفيال بمعدل منخفض من الإصابة بالسرطان، فإن الحيتان مقوسة الرأس «Bowhead whale» نادرًا ما تصاب بمرض السرطان، فيما يعد مثالاً آخر لمفارقة بيتو، حيث أن تلك الحيتان تعتبر من أضخم الكائنات الحية على سطح الأرض، وكذلك من أطولها عمرًا (حيث قد يصل عمر الحوت الواحد منها إلى 200 سنة)، وحين قام العلماء بتمشيط الجينوم الخاص به، اكتشفوا وجود عدة طفرات تساعد على منع تعرض الحمض النووي للتلف وبالتالي حماية الحيتان من السرطان[9].

على الطرف الآخر من المعادلة، تعتبر العديد من الحيوانات صغيرة الحجم أمثلة رائعة لمفارقة بيتو. فعلى سبيل المثال، تعاني الفئران من معدلات كبيرة من الإصابة بالسرطان، على الرغم من أنها تعيش لمدة قصيرة، وتحتوي أجسادها على عدد أقل بكثير من الخلايا مقارنة بالإنسان. لكن ذلك لا ينطبق على جميع القوارض، ففأر الخلد العاري «Naked mole-rat» يتحدى كل الصعاب ويعطينا أملاً في الوصول لعلاج نهائي للسرطان.

تبدو فئران الخلد الصلعاء غريبة الشكل جدًا، فهي صلعاء ومجعدة ولها أسنان أمامية عملاقة مقارنة بحجمها، لكنها أيضًا تعيش لمدة تصل إلى 30 عامًا؛ مما يعد شيئًا غير معتاد بالنسبة للحيوانات صغيرة الحجم مثلها، والأهم من ذلك أن لديها آلية طبيعية لمكافحة مرض السرطان، فبعد عقود من المراقبة، تم رصد إصابتين فقط بالسرطان بين أبناء هذه الفصيلة[12]!.

وفي عام 2013، اكتشف فريق من العلماء أن تلك الفئران تقوم بإنتاج مادة معينة تعمل على منع تطور الأورام السرطانية، تلك المادة السكرية السميكة تسمى حمض الهيالورونيك، وتتواجد في المسافات البينية بين الخلايا، وتعمل على منع انقسام الخلايا المعيبة أو ذات الحمض النووي التالف[10].


لماذا لا نستعمل تلك الجينات؟

قد يبدو الأمر للوهلة الأولى بسيطًا ويدعو للتفاؤل، لكن الحقيقة أنه لا يمكننا استخدام تلك الجينات بهذه البساطة، فجميع تلك الكائنات مختلفة عنا بشكل كبير، ونحن لا نعلم حقيقة إذا كانت نفس طرقها في التعايش أو الحماية سوف تناسب البشر بشكل آمن. فعلى سبيل المثال، قد تكون تلك الكميات الكبيرة من حمض الهيالورونيك سامة للإنسان، أو يمكنها أن تعوق الوظائف الطبيعية للخلايا البشرية أو غيرها من التعقيدات الكثيرة.

ينطبق نفس الشيء على التلاعب بالجينات، فالطريقة التي تتم بها ترجمة الجينات في أجسادنا قد تطورت عبر مئات الآلاف من السنين لتصبح بعيدة ومختلفة بشكل كبير عن الكائنات الأخرى، فالجين الذي يساعد فأر الخلد العاري على تجنب الإصابة بالسرطان، قد يتسبب في مرض مختلف تمامًا في البشر، ولا يمكننا معرفة ناتج تلك المحاولات إلا بالتجربة، وأحيانًا يكون أحد الجينات الذي يبدو كحلّ سحري في أحد الكائنات، غير متوافق مع الحياة في كائن آخر؛ مما يجعل التجربة نفسها مخاطرة كبيرة.

تشير دراسة أجريت عام 2002 إلى أن التعديل الوراثي الذي أدخل على بعض الفئران لزيادة عدد نسخ الجين الكابح للأورام p53 أدى فعليًا إلى تقليل معدلات الإصابة بالسرطان، لكنه أيضًا تسبب في أن تشيخ تلك الفئران بشكل أسرع، وكذلك تسبب في كون بعض أعضائها الداخلية كانت أصغر من الطبيعي[11]. على الرغم من المخاطرة، فإن العلماء مستمرون في محاولاتهم لتعديل الجينات، ولفهم أفضل لدور تلك الجينات وتأثيرها وما إذا كان يمكننا الاستفادة منها في محاربة السرطان بين البشر.

يمكنك الاطلاع على هذا المقال أيضًا: كريسبر، آفاق جديدة لتقنيات التعديل الجيني

المراجع
  1. Cancer in wildlife, a case study: beluga from the St. Lawrence estuary, Québec, Canada.
  2. Ocean of Pseudoscience: Sharks DO get cancer!
  3. Melanoma in the Skin of a Nurse Shark (Ginglymostoma cirratum)
  4. Pet owners’ attitudes and behaviours related to smoking and second-hand smoke: a pilot study
  5. Tasmanian Devil Facial Tumour Disease – FAQs
  6. Evidence for a genetic basis of urogenital carcinoma in the wild California sea lion
  7. Height and cancer incidence in the Million Women Study: prospective cohort, and meta-analysis of prospective studies of height and total cancer risk
  8. TP53 copy number expansion correlates with the evolution of increased body size and an enhanced DNA damage response in elephants
  9. Insights into the Evolution of Longevity from the Bowhead Whale Genome
  10. High-molecular-mass hyaluronan mediates the cancer resistance of the naked mole rat
  11. p53 mutant mice that display early ageing-associated phenotypes
  12. Initial Case Reports of Cancer in Naked Mole-rats (Heterocephalus glaber)