رواية «مزرعة الحيوان»: من المساواة إلى إعادة إنتاج الطبقية
تعتبر رواية «مزرعة الحيوان» من الروايات الأكثر شهرة في تاريخ الأدب المعاصر، هذا بالإضافة إلى رواية «1984»، وهما من وحي قلم الكاتب نفسه، وهو المؤلف البريطاني «جورج أورويل»، الذي لم يعش طويلًا ولكنه ترك أثرًا دامغًا.
ناقشت روايته «مزرعة الحيوان» العديد من الإشكاليات، مثل الثورة والنخبة والتلاعب بالحقيقة إلى آخره. لكن ما لفتنى لكتابة هذا المقال هو ما ناقشته الرواية من موضوع المساواة، وكيف يمكن للوضع المثالي للمساواة أن يتحول لآية عجيبة من انعدام المساواة.
جورج أورويل (1903-1950)
اسمه الحقيقي هو «إريك آرثر بلاير»، و«جورج أورويل» ليس إلا اسمًا مستعارًا. وُلد في 25 يونيو/حزيران 1903، في الهند، وتوفي في 21 يناير/كانون الثاني 1950 عن عمر يناهز السابعة والأربعين عامًا. وقد كانَ مؤلفًا وصحفيًّا وناقدًا إنجليزيًّا، عُرِفَ بروايتيه «مزرعة الحيوان» الصادرة عام 1945، و«1984» الصادرة عام 1949.
وُلِدَ أورويل لضابط بريطاني صغير يعمل في الخدمة المدنية بالهند، ولوالدة سليلة تاجر غير ناجح في البورما. كانت أسرة تنتمي للجزء الأدنى من الطبقة المتوسطة. وفي سن الثامنة، التحق بمدرسة داخلية في بريطانيا حيث عُرِفَ عنه الفقر والذكاء والانعزال.
وقد حصل على منحتين لكبرى المدارس الإنجليزية، وفي إحداهما كان أدولس هاكسلي أستاذه، وهناك بدأ في نشر أولى كتاباته في مجلة الكلية. وبدلًا من أن يلتحق بالجامعة، اتبع تقاليد العائلة، وفي عام 1922 ذهب للبورما حيث عمل ضابطًا للقوات البريطانية الإمبريالية. لكنه لطالما أراد أن يكون مؤلفًا.
مع الوقت، شهد على المآسي التي قامت بها بريطانيا في حق الشعب البورمي، وصار يشعر بالخزي لانتمائه للشرطة الاستعمارية. وفي عام 1928 قطعَ عهدًا أن يستقيل من الشرطة الإمبريالية. ولأنه كان يحس بالذنب من أن حواجز العرق والقبيلة منعته من الاندماج مع البورميين، فكر في التكفير عن هذا الذنب في إغراق نفسه في حياة فقراء أوروبا، وعاش في الجانب الشرقي من لندن بين العمال والشحاذين، كما قضى وقتًا في عشوائيات باريس، وعمل كغاسل للأطباق في الفنادق والمطاعم الفرنسية. وهذه التجارب منحته المادة لتألف أولى رواياته التي استخدم فيها أحداثًا واقعية بصورة خيالية، مثل رواية «أيام في بورما» عام 1934، ورواية «ابنة القس» عام 1935.
والحق أن رفض أورويل للإمبريالية أدى به إلى رفض نمط الحياة البرجوازي، بالإضافة إلى تحوله سياسيًّا إلى فوضوي واستمر بذلك لعدة سنوات، ولكن في الثلاثينيات من القرن العشرين أصبح اشتراكيًّا، لولا أنه لم يعلن ذاته شيوعيًّا.
كان كتابه الاشتراكي الأول هو «الطريق إلى رصيف ويجان»، صدر عام 1937، والذي وصف فيه تجاربه أثناء العيش مع عاطلين في إنجلترا الشمالية؛ وقدم فيه انتقادات لاذعة للحركات الاشتراكية الموجودة. وحينما نُشر هذا الكتاب، كان أورويل في إسبانيا لكي يصنع تقريرًا حول الحرب الأهلية هناك، واشترك في الميليشيا الجمهورية، وأصيب إصابة بالغة دمَّرَتْ حلقه بصورة مستديمة، وأثرت على صوته، بحيث لم يكن يستطيع أن يتكلم إلا بخفوت شديد.
بعد محاربته ضد الشيوعيين الذين كانوا يسعون لقمع الخصوم السياسيين، نزح عن إسبانيا إنقاذًا لحياته. وقد تركته التجربة برهبة دائمة من الشيوعية، عبر عنها في كتاب له صدر عام 1938. وحينما عادَ إلى إنجلترا، صارَ يتلون بصبغة محافظة في كتاب له نُشر عام 1939 باسم «الخروج للهواء»، والذي عبر فيه عن مخاوفه من المستقبل القادم المهدد بالحرب والفاشية. وحينما اندلعت الحرب العالمية الثانية، لم يتم قبوله في الخدمة العسكرية، وبدلا من ذلك قادَ الخدمة الهندية لإذاعة BBC، والتي تركها عام 1943 ليصبح المُحرِّر الأدبي لصحيفة اشتراكية يسارية بالتعاون مع أحد قادة العمال البريطانيين.
في هذه الفترة صار أورويل صحفيًّا بارعًا، يكتب العديد من المقالات الصحفية والمراجعات مع انتقادات لاذعة، وعدد من الكتب حول إنجلترا، والتي جمعت بين المشاعر الوطنية والدعوة إلى الاشتراكية اللامركزية التحررية، على عكس تلك التي يمارسها حزب العمال البريطاني.
في عام 1944، أنهَى روايته «مزرعة الحيوان» التي تعتمد على قصة الثورة الروسية وخيانتها من قبل «جوزيف ستالين». وقد وجد صعوبة في العثور على ناشر لها حتى نجحَ في هذا الأمر وظهرت الرواية عام 1945 لتجعله مشهورًا للغاية.
إنها إحدَى أعماله الفُضلَى، والتي غطَّت على شهرتها روايته «1984» الصادرة عام 1949، والتي كتبها كتحذير بعد سنوات من تأمله للخطر المزدوج للنازية والستالينية. والحق أن هذا التحذير من المخاطر المحتملة للشمولية أثر تأثيرًا كبيرًا على معاصريه وعلى قرائه التالين، وأصبحَت بعض مصطلحاته شديدة الأهمية في علم السياسة.
كتب آخر صفحات هذه الرواية في منزل على جزيرة منعزلة ابتاعه من عوائد رواية «مزرعة الحيوان». وكان يعمل بين نوبات العلاج في المستشفى بسبب مرض السل الذي توفي على إثره في مستشفى بلندن عام 1950.
قيمة «المساواة» في رواية «مزرعة الحيوان»
في البدء ينبغي التأكيد على أن رواية «مزرعة الحيوان» هي انتقاد لاذع للفكر الشيوعي، وبالأخص تجسيده على أرض الواقع في النظام السوفيتي الروسي (1917-1991). يمكن القول إنها تناقش إشكالية المساواة، بحيث تؤكد أنه حتى مع الوصول إلى وضع يتساوى فيه الجميع في مراكزهم السياسية والاجتماعية، فهذا الوضع ينبغي أن يتدهور إلى حالة من انعدام المساواة، بحيث يمتلك البعض كل الامتيازات ويخسرها البعض الآخر، فهذه هي سُنة الحياة.
تبدأ الرواية بقيام الخنزير العجوز (ميجر) بتحريض حيوانات (مزرعة القصر) على الثورة على مالكهم، وهو السيد جونز، وذلك بدعوى أنه يظلمهم ويسيء معاملتهم. وقد أغراهم ميجر من خلال التأكيد على أنهم هم من يعملون والإنسان يستغل إنتاجهم دون أي وجه حق.
هنا، حدثهم عن حقهم في تملك قيمة عملهم وليس أن يضحوا به من أجل الإنسان. ثم قام بالتشديد على ضرورة التفكير في الثورة على الإنسان ونفيه بعيدًا عن المزرعة كي تتحقق المساواة الحقيقية للحيوانات. فبوجود الإنسان الذي يرى أن لديه الحق في استعباد الحيوانات والانتفاع بإنتاجهم، فسيظل هناك عدم مساواة تخلق ظلمًا شديدًا للحيوانات. وقد شدد على أنه في حالة انتصار ثورتهم على الجنس البشري، فلا ينبغي اتباع ما أسماه برذائل الإنسان، وهي سكنى البيوت، والنوم على فراش، وارتداء ثياب وشرب الخمر وتدخين التبغ ولمس النقود والعمل في التجارة والاستبداد بأي حيوان آخر، وذلك باعتبار أن جميع عادات الإنسان سيئة وتخلق عدم مساواة. وفي ذلك يقول:
وبالفعل وقعت الثورة وتم طرد الإنسان من المزرعة، وتم إعلان (مزرعة الحيوان) التي كان شعارها هو «نعم لذوات القوائم الأربع، لا لذوات القدمين الاثنتين»، في تأكيد على تأسيس مدينة فاضلة ينعم فيها الحيوانات -بحكم الطبيعة- بالمساواة المطلقة.
دُونت سبع وصايا للتأكيد على قيم الثورة، انطلاقًا من خطاب ميجر العجوز. إلا أنه مع بداية عهد ما بعد الثورة، بدأت تتأثر هذه المساواة، أولًا في تزعم الخنزيرين (سنوبول ونابليون) أمور المزرعة، وبدء الخنازير في الاستئثار باللبن والتفاح بدعوى أن طبيعتهم تحتم عليهم ذلك، مساواة نسبية بفعل الطبيعة. مع ذلك، ظلت هنالك مساواة من حيث تأكيد سنوبول على ضرورة اجتماع الحيوانات أجمعين يوم الأحد حيث يناقشون شئون المزرعة ويصوتون على القرارات لتكون منطلقة من مساواة بينهم.
لكن تم الإضرار بهذه المساواة بصورة فجة حينما اشتدت الخلافات بين الزعيمين، وقام نابليون بتجنيد الجراء الصغيرة لتصير أشبه بجيش خاص له، قام بمساعدته على نفي سنوبول عن الزعامة، بل عن المزرعة. من هنا بدأت يتجلى عدم المساواة في أبهى أشكالها.
استبد نابليون بالحكم، واستعان بالقوة الصلبة الممثلة في كلابه الشرسة، وبالقوة الناعمة الممثلة في وزيره (سكويلر)، من أجل توطيد حكمه الظالم وإقناع الحيوانات الأخرى أن هذه اللامساواة قانونية ومنصوص عليها في الوصايا السبعة.
قام نابليون وحاشيته من الخنازير بالتلاعب بالوصايا السبعة تباعاً، مع استخدام العنف والإقناع لإخماد أي احتجاجات للحيوانات الأخرى، كما خلق لهم أعداءً وهميين كي يجبرهم على تقبل عدم المساواة، سواء في الحقوق (الطعام والملبس والأوسمة والراحة) أو في الواجبات (ساعات العمل). هذان الخصمان الوهميان كانا (جونز، مالك المزرعة) و(سنوبول، القائد المخلوع)، وأقنعهم أن عدم طاعة قراراته -التي تتولد عنها لا مساواة- تعني عودة جونز، وكذلك توطيد أركان قوة سنوبول التخريبية.
مع الوقت انتهكت الخنازير جميع الوصايا السبعة منتهزة جهل الحيوانات بالقراءة، وكذلك سذاجتهم ومخاوفهم، وقامت بسكنى دار جونز، والنوم على أسرتهم، والتجارة مع البشر ولمس النقود بل امتلاكها، والاستبداد بالحيوانات الأخرى وقتلهم، بزعم أن ذلك كان لأسباب ضرورية.
لقد انتهكت الخنازير -بالأخص نابليون- كل القواعد التي كان من شأنها تحقيق المساواة بين الحيوانات. وبلغ الأمر إلى أنه ورفاقه من الخنازير ركنوا للدعة التامة -بزعم أن إدارة شئون المزرعة لهو عمل شاق بحد ذاته- وحصلوا على القدر الأكبر من الطعام والشراب والرفاهية والدفء على حساب الحيوانات الأخرى، بل أقنعوهم أن العمل الشاق هو ما يعطي لحيوات هؤلاء الحيوانات معناها. شربوا الخمر، بل قاموا باستغلال المراعي التي كانت مخصصة كمطرح للحيوانات المتقاعدة، وزرعوا فيها الشعير من أجل إرضاء ملذاتهم.
تغيرت الوصايا تباعًا حتى تم إلغاء نشيد (مزارع إنجلترا) الثورى -الذي كان يحض على المساواة بين جميع حيوانات المزرعة- وبدلًا منه تم التصديق على نشيد آخر يعظم وينزه نابليون (الذي بات يعطى نفسه الأوسمة تباعًا، ويفرض لنفسه ألقابًا ينبغي مناداته بها). والأدهى هو حينما أعطى لنفسه الحق في إعدام كل من يخالفه الرأي والقرار بزعم أنهم خونة للثورة.
وفي النهاية، تأتي الطامة الكبرى والتأكيد النهائي لعدم المساواة حينما تعلمت الخنازير السير على قائمتيها الخلفيتين على غرار البشر، بل قبلها لقنت الخراف شعارًا آخر وهو «الخير في الأقدام الأربعة والخير الأكثر في القدمين» (ص 137).
وفجأة، وجد الحيوانات أن جميع الوصايا التي تنص على المساواة الطبيعية قد مُحيت ولم يبقَ إلا وصية واحدة هي تأصيل لعدم المساواة، بادعاء أنها طبيعية:
توطدت العلاقات تمامًا بين الخنازير والبشر، وبذلك أكدوا للحيوانات أنهم -أي الخنازير- قد أصبحوا على قمة الهرم الطبقي كما كان البشر يعلون على الحيوانات فيما سبق. وتنتهي الرواية بأن صار عدم المساواة هو الشىء الطبيعي، بحيث أخيرًا خرجت الحيوانات عن وهم ثورة المساواة، وقد رأوا بأنفسهم التحالف الودي بين الخنازير الذين يمشون على قدمين، وبين الرجال البشر، مُلاك المزارع المحيطة، بحيث يشاركونهم شرب الخمر ولعب القمار، فكانت آخر عبارة في الرواية السوداوية:
في هذه النهاية دلالة رمزية عن أن الثورة التي بدأت من أجل تحقيق المساواة، قد أصبحت -بفعل مطامع الخنازير القادة وجشعهم- إعادة إنتاج للطبقية التي كانت تنهك الحيوانات من قبل، ولكن الفارق أن الزعماء لم يعودوا بشرًا، وإنما حيوانات مثلهم. وكأنه تأكيد من جورج أورويل، أن النوازع الشريرة في النفس سوف تُبقي على عدم المساواة مهما حدث. وفي ذلك، كما قيل مسبقًا، انتقاد لاذع للنظام الاشتراكي الذي كان ينص على المساواة، ولكن ظهرت الأحزاب وأعضاؤها كي يتربعوا عرش الهرم المجتمعي، ويعاملون البشر الآخرين كأنهم عبيد لديهم، وفي هذا لم يختلفوا عن النظام القيصري السابق، مهما كانت وردية شعارات ثورتهم البلشفية.