قرود غاضبة وكلاب ضعيفة: الوجه الآخر لمجزرة الهند
ربما لم تُرد القرود قتل الكلاب، وإنما أرادت فقط اقتناء الجِراء كحيوانها الأليف، كما يفعل العديد من البشر.
هكذا صرّح سكان قرية «لافول» في ولاية «ماهاراشترا» الهندية، ضاربين بكل الأخبار التي تناقلتها مواقع التواصل عرض الحائط، وهي الأخبار التي تحدثت عن قيام مجموعة من قرود المنطقة بارتكاب مجزرة بحق الكلاب، انتقامًا لمقتل أحد صغارها. فما القصة الحقيقية وراء الموضوع؟
روايات متضاربة عن قرود غاضبة
خلال الأيام القلائل الماضية، أثار خليط من الرهبة والدهشة قلوب البعض حيال انتشار خبر مجزرة ارتكبتها جماعة من القرود في بلدة لافول الهندية الواقعة على مسافة 300 ميل شرقيّ مدينة مومباي، حيثُ أبلغ بعضُ سكان القرية عن رؤيتهم قردين يقومان بالإمساك بالكلاب الصغيرة في المنطقة وقتلهم عبر التسلق إلى مواقع شاهقة وإلقائهم من الأعلى، وتكرّرت التفسيرات أنّ تلك الواقعة إنما هي انتقامًا لمقتل أحد القردة الصغار على يد كلب منذ يومين من الحادث، وذكرت الصحف في الهند بأنه قد جرى القبض على القردين مرتكبي الواقعة، رغم نفي البعض الآخر القبض عليهم، بل والإبلاغ عن إصابات بشرية من جراء محاولة القيام بذلك.
بينما انتشرت رواية انتقام القرود كالنار في الهشيم، نفى سُكان القرية معرفتهم بمقتل قرود صغيرة على مدى الأشهر المنصرمة. وفي حين أن البعض ضخّم من الحادثة مُعربًا عن مقتل ما يربو على 200 كلب، أدلى البعض الآخر من سكان القرية الجوّالة أن العدد يبلغُ ثلاثة وربما أربعة ليس إلا.
لكن اتفق سكان القرية على أمرٍ واحدٍ، وهو أن تلك القرود لا تتصرف على سجيّتها، وقد أدت التصرفات الغريبة للقردة إلى تعريض بعض البشر للأذى، نتيجة الخوف الذي نشب تجاه القرود، وعلى رأس هؤلاء المصابين طفلٌ في الثامنة من العمر.
لكن حتى ومع جنون القرود ذاك، لم ير سكان القرية في حادثة مقتل الكلاب أي غرابة، فقد ذكروا أن عادة القرود في تلك المنطقة اختطاف الجِراء الصغيرة إلى أماكن عيشهم من أجل الاعتناء بهم كما يعتني الإنسان بقطه الأليف، ولكن القرود مالكون سيئون للغاية، فلا يلبثون أن ينسوا إطعام الجراء، مما يدفع الجرو إلى محاولة الهرب من مسكن القرد في الأعالي فيلقى مصيره إمّا بالموت جرّاء القفز، أو الاستسلام للوضع فيقبع في الأعلى منتظرًا الموت جوعًا، وقد أسهمت تلك التقاليد في اختفاء كل كلاب المنطقة تقريبًا، لكن على الأقل أيًّا منهم لم يمت نتيجةً للانتقام.
رغم ذلك يتنشر الانتقام بين الحيوانات، فقد ذكرت «ستيفن بويندكستر» أستاذة الإنسانيات بجامعة بافلو في نيويورك، أن الرئيسيات تسعى للانتقام مستهدفةً الأفراد الأضعف من جنس أعدائها، الأمر الذي يضع نية القرود هنا موضع الشك، قد يبدو الأمر غريبًا أن تنشد القرود الانتقام، لكنه ليس أقل غرابةً من أن تقتني الكلاب كحيوانات أليفة، وفي نهاية الأمر نقتفي رأي العلم في الموضوع.
ما وراء انتقام الحيوانات
يرى علماء النفس التطوري أن الانتقام هو تطوّر بطريقة بسيطة، وازنت بين المنافع والتكاليف. ففي دراسة أجريت على أدمغة لبعض الأشخاص وُجد أن التفكير في الانتقام يُنشّط مركز المكافأة في الدماغ ويزيد من إفراز هرمون «الدوبامين»، بنفس الطريقة التي تستحث بها الأطعمة السكرية أو حتى المخدرات هذا النظام.
وقد يتساءل البعض من غير المتخصصين، هل تُمارس الحيوانات في سلوكها عمليات انتقام بالفعل، ولماذا لا نعتبر سلوك الحيوانات هنا عدوانًا أو بطشًا؟
بالطبع لا نلومهم على تلك التساؤلات، فقد خاض البشر حروبًا لا نهائية فقط خضوعًا لطمع حاكم ظالم، لكن هذا المبدأ لا يوجد لدى الحيوانات، فعلماء النفس التطوري يخبروننا أن آليات التفكير لدى الحيوانات تطورت بطريقة تمنعها أن تبدأ عدوانًا بغير وجه حق، وأنّ كل القسوة التي نراها منها إنما هي ردّ فعل لأذى حلّ بها وأرادت فقط الدفاع عن أنفسها، فقررت الانتقام.
تطوّر الانتقام لدى الحيوانات والطيور وحتى الأسماك، وصار من شأنه أن يُغيِّر في سلوكيات هذه الأنواع ويجعلها تقوم بأشياءٍ لم تكن لتقوم بها لولاه، مثل أن تشّن الحروب، بل وأن ترتكب مذابح بأكملها.
حرب الشمبانزي «جومبي»
لعلّ الحادثة الوحيدة المُسجّلة في تاريخ المذابح التي قادتها الحيوانات هي الحرب الشهيرة التي اقتُرفت في منتزه «جومبي» القائم بتنزانيا عام 1974، وذلك حين تصارعت جماعتين من قردة الشمبانزي -كانتا من قبل قبيلة واحدة قبل أن تنشق لقسمين- لمدة أربع سنوات كاملة، في صراعٍ دموي بدأ بقتل الجماعة الأولى (كاساكيلا) لذكورٍ من الجماعة الثانية (كاهاما) في عدة مواقع، ربما أكثرها دراماتيكية كان مقتل جالوت Goliath على يد خمسة ذكور من أصدقائه القدامى من كاساكيلا، كلُ ذاك أسفر عن إعلان حربٍ قُتلت فيها النساء والأطفال والعجائز وعُدّت فريدة من نوعها في التاريخ.
لا يمكننا أن نخوض داخل أدمغة القرود، لكن ما وصلت إليه الدراسات هو أن الحيوانات تسعى للانتقام إن كانت ضمن فئةٍ مجتمعية ولا تُفرّق في انتقامها بين مرتكب الإساءة أو أحد أفراد قبيلته أو من كان على وفاقٍ معه.
النحل يخوض الحروب أيضًا
حين تتلاقى قبيلتيّ نحل في خضم معركة، توقّع أن ترى الكثير من الأشلاء. حيث ينظم النحل حروبًا على نحوٍ ممنهج، تقوده الإناث ويحتل الذكور الخطوط الجانبية، ورغم أن الحرب تتم على دفعاتٍ متتالية كأن يتبارى في اليوم الأول خمسون فردًا من كلا الجانبين، إلا أنها تقضي على الأخضر واليابس، ولا تنتهي إلا بتدمير إحدى القبيلتين عن بكرة أبيها، وحتى الناجون من الفئة الخاسرة يُطردون خارج خلاياهم حتى الموت، وما يتبقى من الخلية سرعان ما يصبح غذاءً للفطريات.
لا شكّ أن الحروب تُخلِّف دمارًا على الناحيتين، لذا لاحظ العلماء تكتيكات محددة في النحل عند الحرب، كالاكتفاء بالهجوم على خلايا بعينها، أو الانقلاب على قبيلة حليفة بين ليلةٍ وضحاها، وفي الحقيقة فلن نَعجب أنّ تُخطِّط بهذه الطريقة كائناتٌ كالنحل، وهي التي تُجيد حساب المثلثات.
دموية على سُلم التطور
بالنظر إلى أسلافنا الأُوُلِ، نجد أن الحروب الغابرة تمركزت حول الانتقام، ومن خلال مسح الهياكل العظمية البشرية التي تعود إلى آلاف الأعوام، وجد العلماء أدلة على عنف ارتكبه البشر بحق نسبة كبيرة من أقرانهم.
ففي مجتمع وادي الدانوب ما قبل الزراعي، وُجدت أدلة على موت 18 من أصل 400 فرد، نتيجةً لأعمال عنف، وبتحويل تلك الأرقام إلى نسبة مئوية فإن ما يقارب من 4.5% من السكان قتلوا على يد أقرانهم من قبيلة أخرى، وهي نسبة تُضاهي نسبة وفيات القرن العشرين صاحب الحربين العالميتين، والذي يُعدّ الأعنف في التاريخ.
وفي مقبرة عمرها 12 ألف عام في جبل صحابة في السودان، عُثر على 59 هيكلًا عظميًا، من بينها 24 وُجدت مغروسٌ فيها رؤوس حراب وسهام، أي أنّ 40% من السكان وقتئذٍ ربما ماتوا وهم يحاولون الانتقام من قبيلة أخرى تحاول إبادتهم.
ومع ظهور المجتمع الزراعي، فَقَدَ البشر الأوائل بعضًا من رغبتهم في الانتقام، حيث ارتقت أسباب العنف بينهم إلى التباري على الغذاء حين ارتفعوا في سلم التطور درجة. والآن تقلّص الأمر كثيرًا، فرغم كل ما يُنتجه البشر من أسلحة، لا يشكّل المقتولين حاليًا سوى نسبة 1% فقط من مجمل عدد الوفيات على مستوى العالم سنويًا.
ربما كل ما في الموضوع أن البشر وجدوا فرصة للتطور، فقل سعيهم للانتقام، على عكس القرود التي لم تجئها بعد هذه الفرصة.
الوجه الآخر للحقيقة
ربما سمعت من قبل عن الغوريلا التي وقعت في حب قطة صغيرة، أو عن فرس النهر الصغير ذي الـ600 باوند الذي صادق سلحفاة بعمر الـ 160 عامًا، أو عن مجموعة فيلة اقتنوا كلبًا.
كل هذا جميل، لكن كل تلك الوقائع المُسجّلة كانت ضمن مناطق محدودة كحديقة حيوانات مغلقة أو معامل التجارب، بينما في البرية لا نعرف أحدًا يتخذ حيوانًا أليفًا ويقتنيه لفتراتٍ طويلة دون أدنى منفعة غير الإنسان.
تناول علماء سلوك الحيوانات بعض الحالات الفردية التي اتخذت فيها قرود الشمبانزي المفترسة من حيوانات أصغر (كحيوان الزلم) أليفًا لها حيثُ تلاعبها بلطف، لكن سرعان ما تؤول تلك العلاقة إلى قيام الشمبانزي بقتل الأليف، والإلقاء بجثته كما الدمية.
كل هذا يُعيد إلى أذهاننا من جديد قصة قرود قرية «لافول» الهندية؛ هل قتلوا الكلاب انتقامًا؟ علميًا هذا ممكن.
هل اتخذوهم كحيواناتٍ أليفة ثم قتلوهم بحُكم طبيعة تعاملهم القاسية؟ هذا ممكنٌ أيضًا.
ولكن لنعلم حقيقة نية القرود فلا سبيل سوى أن نذهب ونسألهم، وحتى يحدث هذا فسنظل دائمًا نُصدّق كل الاحتمالات.