لها شعبية هائلة، شخصية قوية، إنجازات اقتصادية مبهرة. يراها كثيرون من العرب داعمة للإنسانية بعد فتح حدود بلادها للهجرة. إنها المستشارة أنجيلا ميركل التي أعلنت، مؤخرًا، رغبتها في عدم الترشح لرئاسة حزبها «الديمقراطي المسيحي»، المتزعم حاليًا ائتلاف الحكومة الألمانية، خلال الانتخابات المنتظر إجراؤها في ديسمبر/ كانون الأول من العام الجاري، كما أعلنت رغبتها في أن تظل مستشارة لألمانيا حتى عام 2021، وبعدها تعتزل عالم السياسة نهائيًا.

يبدو أن الصورة عن السيدة أنجيلا ميركل ننظر لها دائمًا من زاوية واحدة، ونتجاهل الزوايا الأهم، فنحن العرب ننبهر جدًا عندما نسمع مسئولًا أوروبيًا يُصرح مثلًا بأن «العرب يستحقون الحياة مثل غيرهم»، ويتحول هذا المسئول في مخيلتنا إلى بطل مُلهم من دون الالتفات إلى قضايا فاصلة لنا نحن العرب، تحدد سياسة هذا المسئول؛ لذا نحاول هنا تسليط الضوء على هذه القضايا فيما يخص السيدة ميركل.


من هي أنجيلا ميركل؟

أنجيلا دوروثيا كاسنر، ولدت في هامبورج غربي ألمانيا عام 1954، تخصصت في الفيزياء خلال دراستها، وتفوقت في اللغة الروسية والرياضيات، ثم التحقت بمركز الكيمياء الفيزيائية بأكاديمية العلوم في برلين حتى عام 1990. تقول ميركل عن دراستها الفيزياء: «إنها اختارت دراسة الفيزياء لأن الحكومة الشيوعية في ألمانيا الشرقية وقتها كانت تتدخل في كل شيء باستثناء قوانين الطبيعة».

حصلت ميركل على الدكتوراه في الكيمياء. متزوجة من أستاذ كيمياء منذ 1998 وصفته الصحافة بـ«الشبح» نظرًا لظهوره النادر، تشترك معه في هوايتها الشعر الغنائي، ليس لديها أبناء، تجيد الطبخ وتتابع مباريات كرة القدم بشكل جيد، وتعتقد أن كرة القدم تساعد على تسويق السياحة الألمانية في العالم.

دخلت عالم السياسة بعد سقوط جدار برلين عام 1989، هذا الجدار الذي كان يفصل شطري برلين الشرقي والغربي بغرض تحجيم المرور بين برلين الغربية وألمانيا الشرقية، وبدأ بناؤه في 13 أغسطس/ آب 1961 وتحصينه على مدى الزمن ثم فُتح في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 1989، وهُدم بعد ذلك بشكل شبه كامل. تزعمت ميركل الحزب الديمقراطي المسيحي، وأصبحت أول امرأة تتولى منصب المستشارية الألمانية، وأول مواطنة من ألمانيا الشرقية تقود البلاد بعد الوحدة.

عُينت في حكومة هلموت كول وزيرة للمرأة والشباب، ثم وزيرة للبيئة والسلامة النووية. وفي انتخابات عام 2005 فازت ميركل بفارق ضئيل على المستشار جيرهارت شرويدر. وأعيد انتخابها لفترة ثانية عام 2009، ثم لفترة ثالثة عام 2013. أطلقت عليها الصحافة ألقابًا عديدة؛ فهي «السيدة الحديدية» و«الأم»، صنفتها مجلة فوربس الأمريكية كأقوى امرأة في العالم، نظرًا لبقائها في الحكم فترة طويلة، ولصمود ألمانيا أمام الأزمة الاقتصادية العالمية.

نجحت في تحقيق نجاح اقتصادي لألمانيا، وحققت بلادها فائضًا في الميزان التجاري والموازنة العامة، كما انخفضت نسبة البطالة بشكل كبير، حتى أن بعض الشركات في ألمانيا مهددة بالإغلاق بسبب بحثها المستمر عن موظفين. لكننا كعرب يهمنا ما تقاطع من مصالحنا وقضايانا مع سياسات المستشارة، وهذه بعضها.

اقرأ أيضًا: ميركل عاجزة وألمانيا على شفير فوضى سياسية


فلسطين قبلة العرب

المستشارة الألمانية «أنجيلا ميركل»

القضية الفلسطينية هي البوصلة الرئيسية لتقييم حُكّام العالم بناءً على موقفهم منها، كان علينا أن نبحث عن موقف السيدة أنجيلا ميركل من القضية الفلسطينية، وهذا ما وجدناه.

فالعلاقة بين ميركل ودولة الاحتلال ليست عادية، حتى ولو بدا للعالم أنه حدث بعض الخلافات، ففي أكتوبر/ تشرين الأول من العام الجاري مثلًا كرمتها جامعة إسرائيلية، ومنحتها درجة الدكتوراه الفخرية، للإشادة بدفاعها عن مبادئ المساواة والحرية وحقوق الإنسان، إضافة إلى دورها في التصدي للعنصرية ومعاداة السامية.

منذ 4 أعوام، وتحديدًا في يوليو/ تموز 2014،قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل: «يتعين للدول التي تتعرض لهجمات أن يُسمح لها بالدفاع عن نفسها»، لم تقصد حينها أن على قطاع غزة المحاصر عربيًا وإسرائيليًا أن يدافع عن نفسه ضد جرائم الاحتلال الإسرائيلي، إنما قصدت أن على العالم السماح للاحتلال بالدفاع عن نفسه ضد الأسلحة التي تستخدمها حركة المقاومة الفلسطينية حماس.

تعد ميركل أحد الداعمين للاقتصاد الإسرائيلي، ففي زيارتها لدولة الاحتلال ركزت ميركل على تعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية والأمنية بين البلدين،فكان أن وصل حجم التبادل التجاري بين ألمانيا والاحتلال عام 2017 إلى نحو عشرة مليارات دولار. وتعتبر ألمانيا الشريك التجاري الأكبر لإسرائيل في أوروبا، وثاني أهم شريك لإسرائيل بعد الولايات المتحدة.

اقرأ أيضًا: بين المصالح والمبادئ: القيم الأوروبية تدفنها أموال العرب

تَعتبر ميركل أن حكومة بلادها ملتزمة بمسئوليتها التاريخية الخاصة بأمن إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية، وبحق إسرائيل في الوجود الذي يجب ألا يخضع أبدًا للمساومة، كما أنها رفضت كل المحاولات لمقاطعة دولة إسرائيل.

عام 2011،وخلال لقائها الرئيس الفلسطيني محمود عباس في برلين، أكدت السيدة ميركل رفض بلادها الاعتراف بدولة مستقلة يعلنها الفلسطينيون من جانب واحد، وعبرت عن تحفظها على اتفاق المصالحة الذي وقع في القاهرة بين حركتي فتح وحماس، كما أوضحت أن أهم ما تنتظره من الجانب الفلسطيني هو الاعتراف الواضح بإسرائيل والتخلي عن العنف والاستعداد لبدء التفاوض!

تُمثل ألمانيا دولة الاحتلال، وهو ما ظهر في قولها لصحيفة دير شبيغل الألمانية بأن ألمانيا وإسرائيل قامتا بتوقيع اتفاق يسمح لألمانيا بتمثيل علاقات إسرائيل الدبلوماسية والقنصلية في البلدان التي ليس لإسرائيل سفارة فيها، خاصة في بعض الدول الإسلامية مثل ماليزيا وإندونيسيا.


أي إصلاح اقتصادي تدعمه ميركل؟

شهدت مصر ترديًا اقتصاديًا وتفاقمت حدة التضخم، وانتشر الفقر بعد ارتفاع الأسعار بشكل جنوني في ظل ثبات أو تراجُع مستويات الدخل، حتى أن لغة الأرقام أكدت أن مُعدلات الفقر وصلت إلى 27.8% من إجمالي عدد السكان في 2015 مقارنة بـ16.7% في عام 2000، حسبما أكد بحث قام به الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء عن الدخل والإنفاق في الأسرة المصرية، صدر في يوليو/ تموز 2016، مما يعني أن 25 مليون مصري يعيشون تحت خط الفقر، حيث يصل دخل الفرد في هذه الشريحة إلى أقل من 482 جنيهًا شهريًا.

كذلك تُشير إحصاءات المركزي للتعبئة والإحصاء إلى أن نحو 5.3% من السكان يعيشون تحت خط الفقر المدقع مقارنة بـ4.4% عام 2012، بما يُقارب 4.7 مليون مواطن مصري، حيث يبلُغ متوسط دخل الفرد في هذه الفئة أقل من 322 جنيهًا شهريًا.

لكن المستشارة أنجيلا ميركل لها رأي آخر،تتحدث وتشيد بالتطورات الإيجابية الاقتصادية في مصر خلال الفترة الأخيرة، وتؤكد أن بلادها تدعم ما سمته «مسار الإصلاح الاقتصادي» الذي تنتهجه مصر، مشيدة بما تحقق من إنجازات. وأن الشركات الألمانية تحرص على تكثيف التعاون خلال الفترة المقبلة وزيادة أنشطتها في مصر، وتعزيز الاستثمارات القائمة، مشيرة إلى ثقتها في أن التعاون بين البلدين سيشهد مزيدًا من التقدم في مختلف المجالات خلال المرحلة المقبلة. أعربت المستشارة الألمانية عن تقدير بلادها للجهود المصرية في مجال مكافحة الإرهاب.

وكانت الزيارة الأولى للرئيس المصري إلى برلين قد جرت في يونيو/ حزيران من العام 2015، حيث حضت المنظمات الحقوقية العالمية كهيومان رايتس ووتش والعفو الدولية المستشارة الألمانية لممارسة ضغوط سياسية ودبلوماسية على الرئيس السيسي إزاء أوضاع حقوق الإنسان في مصر، لكن ذلك تبخر أمام عقود استثمارية وقعتها مصر مع ألمانيا بقيمة تسعة مليارات دولار، كان لقطاع الطاقة وشركة سيمينز النصيب الأكبر منها.

ازدواجية لم تتكلف ميركل عناء تبريرها، تمامًا كما يفعل الرئيس الأمريكي اليوم مع ولي عهد السعودية بعد مقتل الصحفي جمال خاشقجي، و قالت إن مصر دولة محورية لا بد من التعاون معها بالرغم من تأخرها في مجال حقوق الإنسان وتمكين الديمقراطية بعد ثورة يناير، وانقلاب يوليو.


لبلادها الحرية ولنا القمع

اعتبرت صحيفة ديرتاجستسايتونغ (تاتس) الألمانية أن الارتفاع القياسي بحجم صادرات الأسلحة الألمانية إلى مصر عام 2017 يظهر عدم مبالاة حكومة المستشارة أنجيلا ميركل بحقوق الإنسان، ويربطها بانتهاكات مروعة في حق مواطنين مصريين، بمشاركتها للسعودية والإمارات بدعم الثورة المضادة بالشرق الأوسط وشمالي أفريقيا.

في مقالة بعنوان «محاباة القاهرة‌» قال ماركوس بيكيل إن موافقة حكومة ميركل عام 2017 على تصدير أسلحة ومعدات عسكرية بقيمة 428 مليون يورو لمصر – بزيادة تبلغ 7% عن مبيعات عام 2016 – يعكس وصول هذه الصادرات لمستوى قياسي.

وقال إن استخدام السيسي للصادرات الألمانية المميتة تجاوز بلده، حيث ينتشر حلف الثورة المضادة الذي يتشارك فيه مع السعودية والإمارات من اليمن إلى ليبيا، بهدف إعادة الأنظمة القمعية التي انطلقت ضدها ثورات الربيع العربي عام 2011 في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

اقرأ أيضًا: إلى أي حد يحق لك أن تكون مسلمًا في ألمانيا؟

وعلى الرغم من أن ألمانيا أوقفت تصدير السلاح مؤخرًا بسبب مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول وتصديق المخابرات الأمريكية على أن ولي العهد محمد بن سلمان هو من أصدر الأوامر بقتله، فإن السعودية والإمارات كانت من بين أهم عشر دول أصدرت الحكومة الألمانية تصاريح بتصدير أسلحة إليها عام 2016. وتجدر الإشارة إلى أن الأردن من الدول التي تدعم الحكومة الألمانية تسليحها ماليًا.

واحتلت ألمانيا عام 2015 المرتبة الثالثة في تصدير الأسلحة على مستوى العالم، حسب التقرير السنوي للتسليح الذي تصدره مجموعة جينز للمعلومات المتخصصة في الاستشارات العسكرية والأمنية، فشركات الأسلحة الألمانية باعت إلى الخارج عام 2015 معدات تسليح بقيمة نحو 4.78 مليار دولار.


ألمانيا قِبلة البائسين

أنجيلا ميركل، ألمانيا

تفاجأ عالمنا العربي بسياسة المستشارة الألمانية، عندما فتحت حدود بلادها للاجئين عرب، والحقيقة أنها واجهت معارضة كبيرة في بلادها بعد دخول أكثر من مليون لاجئ ومهاجر إلى ألمانيا، كما تراجعت شعبيتها في الانتخابات. لكنها مؤخرًا تراجعت بشكل واضح عن سياستها تجاه الهجرة، وأكدت استعدادها مراجعة سياسات الهجرة وفقًا لتوجهات المواطنين الألمان. وأنها ستقاتل للالتزام برغبات الرأي العام الألماني حول عدم تكرار التوافد المكثف من جانب اللاجئين دون وجود إجراءات واضحة لتنظيم التعامل مع الأزمة والسيطرة عليها.

هناك جانب آخر لا يُنظر إليه في مسألة الهجرة، وهو أن ألمانيا تنكمش فيها قوة العمل بشكل كبير، حيث يقول رؤساء شركات إن ألمانيا بحاجة إلى مرونة أكبر لشغل ما يزيد على نصف مليون وظيفة شاغرة. وكانت ميركل قد أعلنت أن ألمانيا «ستواصل الاعتماد على المهنيين الأجانب» وأنه «يجب على الشركات ألا تغادر البلاد لأنها عاجزة عن العثور على موظفين»، وهو ما يعني أن ألمانيا مستفيدة بشكر كبير من قضية الهجرة من حيث اعتمادها على الكفاءات من المهاجرين، لا سيما في ظل انكماش قوة العمل لديها.