ويسألونك عن «التنسيق الأمني»!
ما التنسيق؟
لا يكون التنسيق إلا بين طرفيْن أو أكثر، حول نقاط التقاء، أو تقاطع بينهم. لذا، لا يكون التنسيق بين الأعداء، اللهم إلا في الشؤون البيئية؛ كالفيضانات، والأوبئة، وهجمات الجراد، والزلازل؛ أي في «الشديد القوي» فحسب. لذا، من حقنا أن نتساءل: كيف يكون بين سلطة الحكم الإداري الذاتي المحدود في رام الله، وبين إسرائيل، تنسيقًا أمنيًا؟!، بينما يُفترض أن الطرفيْن متعادييْن، وهما في مواجهة حول الكثير من القضايا الرئيسية، وما من نقطة التقاء أو تقاطع واحدة بينهما!، بل كيف لأجهزة الإعلام العربية أن تستخدم مصطلح «التنسيق الأمني» بين إسرائيل وسلطة رام الله، دون تمحيص، أو تدقيق في المصطلح؟!.
فيما يخص «التنسيق» فحسب، ثمة أولاً عقبة العداء، وثانيًا غياب القضايا المشتركة، وثالثًا انعدام النديَّة.
لقد استمرأت بعض أجهزة الإعلام العربية تزييف وعي الناس، بينما كل تلك الأجهزة في مرمى الإعلام المعادي الذي دأب على تزييف وعي أجهزة الإعلام العربية، وهذا التزييف هو أحد تجليات تبعية أجهزة إعلامنا للإعلام المعادي؛ حيث تبتلع الأولى الطُعم الذي يُلقيه لها الإعلام المعادي دون يقظة أو حذر أو تمحيص من أجهزتنا، فيستخدم إعلامنا المصطلحات والصيغ التي يضخّها لنا إعلام الأعداء، وليس على جماهيرنا إلا أن تعاني من تزييف الوعي المضاعف.فيما يخص «التنسيق» فحسب، ثمة أولاً عقبة العداء، وثانيًا غياب القضايا المشتركة، وثالثًا انعدام النديَّة.
من التجريد إلى التحديد
لقد بُحَّ صوت الفصائل الفلسطينية الفاعلة، وإن لم تتعدّ جهودها الخطاب، دون الموقف؛ أغلب الظن خشية انقطاع تدفق المال من الصنبور، الذي يتحكم فيه رئيس السلطة، بمنطق المنح والمنع، ومن هنا جاء تحكمه في الموقف السياسي للفصائل، كما انحصر موقف الفصائل الفاعلة في الخطاب، دون الموقف؛ في القول دون العمل!.أما تحكُّم رئيس السلطة، و«فتح»، و«منظمة التحرير»، على أموال ما يربو ثلاثين مؤسسة «سيادية»، فيعود إلى تصوره بأنه من يأتي بأموال الدول المانحة، وبالتالي من حقه احتكار صرفها لمن يشاء، وحجبها عمن يشاء، فهو يتعامل مع كل أبناء الشعب، وفصائله، باعتبارهم رعايا يعيشون من خير السيد الرئيس. وهذا شأن المجتمعات المتسوِّلة، بعكس المجتمع المنتج الذي يشعر الرئيس ومعه كل كبار المسؤولين بأنهم يتقاضون مرتباتهم من إنتاج شعبهم، فلا يتعالون عليه، ولا يصادرون حرياته، على النحو الذي نراه في الضفة الغربية المحتلة.نعود إلى «التنسيق» المزعوم، إذ أن الأمر لا يتعدى إملاء إسرائيل على سلطة رام الله، التي لا تملك إلا أن تُذعن لهذا الإملاء وتنفِّذه بحذافيره، إن لم يكن بزيادة!. فإسرائيل هي الطرف القوي، وسلطة رام الله هي الطرف الضعيف؛ ويكفي بأن نسمع رئيس السلطة، «محمود رضا عباس ميرزا»، وهو يعلن للملأ بأنه لا يستطيع الانتقال من بيته إلى مكتبه، وبالعكس، إلا بورقة من مجنَّدة إسرائيلية!، ناهيك عن أن أعداءنا قاموا بتطهير أجهزة أمن السلطة من كل من تحوُم حوله شبهة «الوطنية»، وأعادوا هيكلة تلك الأجهزة وتدريبها وتلويث أدمغة عناصرها بما يلائم خدمة العدو. وقد أنجز هذه المهمة، بكفاءة عالية، الجنرال الأمريكي كيت دايتون.لقد تراكمت قرارات المستويات العليا الفلسطينية، والتنبيهات المتوالية لفصائل اليسار، (الجبهتان: الشعبية، والديمقراطية) بضرورة التزام عباس وأجهزة أمنه بقرارات المجلس المركزي (مارس/آذار 2015)، التي قضت بوقف ما يُسمى «التنسيق الأمني» مع إسرائيل. بينما واصل عباس تصريحاته الصحفية، المُصرَّة على استمرار ذاك «التنسيق».
وصل الأمر بعباس حد تنديده بكل عملية فدائية فلسطينية، وتجاهله الجرائم الإسرائيلية، وكأنها لم تقع!.
حتى القول دون الفعل، دفع عباس إلى قطع المخصَّص الشهري من «الصندوق القومي الفلسطيني» لكل من «الشعبية» و«الديمقراطية»، منذ مطلع إبريل/نيسان الماضي 2016، وقدره سبعون ألف دولار أمريكي لكل منهما.منذ اندلاع «انتفاضة السكاكين» في الضفة الغربية، مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2015، ووتيرة «التنسيق» في ازدياد مُطرد، خاصة مع اشتداد المعارضة السياسية داخل «فتح» لسياسة عباس المهاودة للأعداء. حتى وصل الأمر بعباس حد تنديده بكل عملية فدائية فلسطينية وتجاهله الجرائم الإسرائيلية وكأنها لم تقع!، وزاد عباس الشِعر بيتًا، والطين بِلة، حين عزَّى عباس في عقيد إسرائيلي، قتله فدائي فلسطيني.أما الطامة الكبرى، فكانت حين أدلى مدير مخابرات السلطة في الضفة الغربية المحتلة، ماجد فرح، بحديث لمجلة أمريكية، أكد فيه بأن جهازه أحبط مئتيْ عملية فدائية فلسطينية، كانت تجُهَّز ضد إسرائيل (Defense News, 19 Jan. 2016). وتبعه رئيس السلطة، فأعلن على الملأ عبر شاشات الفضائيات، بأنه سيواصل «التنسيق الأمني» مع إسرائيل، وأن أجهزته الأمنية حرصت على تفتيش حقائب تلاميذ المدارس في الضفة؛ ما جعل تلك الأجهزة تعثر على سبعين سكينًا. ولأهمية ما قاله عباس، ننقله هنا بحذافيره (القناة الثانية [الإسرائيلية]، 31/3/2016).قال رئيس سلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود الفلسطينية: «إن أمن السلطة الفلسطينية يدخل المدارس، ويفتِّش حقائب التلاميذ؛ بحثًا عن السكاكين». مضيفًا: «أكون مجنونًا إذا قُلت لابني أن الطعن بالسكاكين عمل جيد».في الحديث التلفزيوني نفسه، صرح عباس: «الأمن عندنا يدخل المدارس، ويفتِّش حقائب التلاميذ إذا كانوا يحملون سكاكين أم لا. في مدرسة واحدة، وجدنا سبعين تلميذًا وتلميذة يحملون سكاكين، أخبرناهم بأن هذا غلط؛ أنا لا أريدك أن تقتل وتموت. أنا أريدك أن تحيا، ويحيا الآخر [الإسرائيلي]».تابع: «عندما يذهب طفل حاملًا سكينًا، لا يستشير أحدًا، حتى والديه. لا يمكن أن تجد شخصًا عاقلًا يشجع ابنه على حمل السكين وقتل الآخر. الأهل لا يريدون هذا».تطرق عباس للاتهامات الإسرائيلية له بالتحريض على العنف، بتأكيده أنه مستمر في مد يده للسلام. وقال: «أنا في الحكم منذ عشر سنوات، وأنا أعلن أنني ضد القتل وضد العنف. والآن، تقولون أنا أُحرِّض على العنف. لماذا تقولون إنني أُحرِّض؟!». تناول رئيس السلطة الادعاءات الإسرائيلية بتحريض وسائل الإعلام الفلسطينية، ورد بقوله: «أنا أعترف بأن لدينا تحريض، ولكن أنتم، أيضًا، لديكم تحريض».لم ينس عباس أن يدعو الاحتلال الإسرائيلي، خلال المقابلة، إلى الانسحاب من المناطق (أ) في الضفة الغربية، وإلى مواصلة التعاون الأمني مع إسرائيل؛ لأن «البديل عن هذا هو الفوضى، والسلاح، والمتفجرات، والمسلحون الذين سيأتون من الخارج!».تابع: «أريد التعاون الأمني مع إسرائيل، ولا أخجل من ذلك. وعلى الجميع أن يحترمني؛ لأن لا بديل إلا نقص الشعور بالأمن وفقدان الأمان».انتهى كلام عباس الذي يُعفينا من أي تعليق.
أعطاهم أكثر ثم تمنَّع
يلاحظ المرء أنه مع اشتداد المزاحمة لوراثة عباس داخل اللجنة المركزية لفتح، اشتد ميل عباس للإذعان تحت مظلة «التنسيق الأمني»؛ ليتمسك الإسرائيليون بعباس، خاصة وهو يعلم بأنهم مَن يُحدِّد ملامح «الرئيس الفلسطيني» منذ دلف سلفه، عرفات، إلى قطاع غزة في 4 يوليو/تموز 1994، بعد أن كان النظام السياسي العربي هو المحدد الرئيسي لتلك الملامح، منذ كانت «جامعة الدول العربية»، قبل ما يربو قليلًا على السبعة عقود.لقد أعطى عباس للإسرائيليين أكثر مما طلبوا، لكن طلبًا واحدًا ظل عباس يراوغ ويُماطل فيه؛ ألا وهو التوقيع على الاتفاق النهائي مع إسرائيل، كل هذا بينما يعتمد عباس تكتيكات استنزاف القضية الفلسطينية حتى كادت أن تتبدد تمامًا. فهل يُقنع عباس الإسرائيليين بأنه الأقدر من غيره من بين «القادة» الفلسطينيين على إعطاء الإسرائيليين ما يريدون؟!، أم يجد الإسرائيليون «قائدًا» فلسطينيًا يوقِّع لهم على الاتفاق النهائي؟!، علمًا بأن عباس يتمنع عن ذاك التوقيع؛ خشية أن يلعنه التاريخ، ليس إلا.بعد كل ما أخذه الإسرائيليون على يد عباس فإنهم كجهنم، كلما ألقمتهم تنازلات مجانية صرخوا: «هل من مزيد؟»؛ إذ لا حدود لأطماعهم، خاصة وهم يخوضون ضد العرب الفلسطينيين صراعًا صفريًا. لذا، لن يهدأ للإسرائيليين بال، إلا إذا تأكدوا من فناء العرب الفلسطينيين.لا مبالغة في القول إن عباس أعطاهم فوق ما طلبوا؛ ذلك أنه استمرأ القول بأن لا سبيل إلا المفاوضات مع الإسرائيليين. وكيف لك أن تحشر نفسك في مفاوضات مع عدو لا يبغي إلا فناءك ؟!، ناهيك عن أن ميزان القوى مُختل تمامًا لصالح أعدائنا الإسرائيليين. بينما تُؤكد البديهية الذهبية بأنك لن تستطيع أن تحقق في المفاوضات أكثر مما هو عليه وضعك في ميدان القتال، وقديمًا قال الداهية النمساوي، مترنيخ: «أنت لا تستطيع أن تأخذ من الأرض إلى أبعد مما تصل إليه دانة مدفعك»، ونتساءل: أين هى المدافع العربية، بما فيها مدافع عباس؟!.
لا مفر من الاعتذار لقادة المقاومة الفلسطينية الثلاثة، الذين وصفناهم بالمتشائمين، حين توقعوا بأن يأتي يوم تُصبح فيه الخيانة مجرد وجهة نظر.
لقد قال مترنيخ جملته تلك، في معرض الرد على حكام أوروبا الذين انتدبوه لمفاوضة نابليون بونابارت، بعد أن هزموه في «معركة ووترلو» (1815م).أما الزعيم الفرنسي الشهير، الجنرال شارل ديجول، فهو من أكد بأن «مَن لا يملك مفتاح الحرب، لا يملك مفتاح السلام».دون أن ينفي هذا كله أهمية المفاوض المحنَّك، المعزَّز بالمعلومات والأرقام والخرائط. وهذا روبرت بللترو، مساعد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق – الذي حضر جزءًا من مفاوضات أوسلو، بين وفد القيادة الفلسطينية المتنفِّذة، وبين الوفد الإسرائيلي (1993م) – يؤكد بأن المفاوض الإسرائيلي كان يحضر إلى المفاوضات وهو ينوء تحت ثقل حقيبة تغص بالمعلومات والأرقام والخرائط. بينما نظيره الفلسطيني يداعب مسبحة بيديْه الاثنتيْن، أو يدخن السيجار، خالي الوفاض من أي ورقة. بل لم يكن المفاوض الأخير يخجل من طلب الأرقام والمعلومات والخرائط من عدوه الإسرائيلي!، وحين تنتهي كل جولة كان المفاوضون الإسرائيليون يسارعون إلى الاجتماع؛ حتى يقوِّموا الجولة المنتهية ويحضِّروا للجولة التالية. أما المفاوضون الفلسطينيون، فما أن تنتهي الجولة حتى يهرولوا إلى السوق؛ ليتبضعوا، ويشتروا الهدايا لذويهم. لذا، لم يكن غريبًا أن يشتهر وفد القيادة الفلسطينية المتنفِّذة، دومًا، بصيغة التنازلات المجانية.أما المفاوضات في عهد عباس، فقد ارتفع فيها منسوب تلك التنازلات مع سبق الإصرار والترصُّد؛ ذلك أن هذه المفاوضات تتم مع «قيادة» فلسطينية شاهدت بأم عينيها كيف تخلص الإسرائيليون من سلفها (عرفات)، بمجرد أن استعصى عليهم، بعد طول تنازلات.غني عن القول بأن هذا الاستعصاء يعود إلى وطنية عرفات، وعباس حريص على ألا يلقى مصير عرفات.توفر مفاوضات عباس مع الإسرائيليين للأخيرين سوانح غير مسبوقة كي يتخذوا من مفاوضاتهم تلك ستارًا سميكًا؛ لاغتصابهم المزيد من الأرض، وتوسعهم في بناء المستوطنات، وقتلهم ما شاؤوا من الفلسطينيين، وتدميرهم منازل فلسطينية، أكثر فأكثر. بينما تُظهرهم تلك المفاوضات أمام الرأي العام العالمي بالمتعطشين للسلام، خاصة وأن مفاوض السلطة الفلسطينية يأخذ عدوه الإسرائيلي بالأحضان بمجرد لقائه، ويقاسمه الغداء أو العشاء على مائدة الأخير، بينما كاميرات الفضائيات والصُحف تلتقط الصور والأفلام لتلك اللقاءات الحميمة.وبعد، فلا مفر من الاعتذار لقادة المقاومة الفلسطينية الثلاثة، الذين وصفناهم بالمتشائمين، قبل نحو نصف قرن (غسان كنفاني [الشعبية]، صلاح خلف [فتح]، وكمال ناصر [قومي مستقل])، حين توقعوا بأن يأتي يوم تُصبح فيه الخيانة مجرد وجهة نظر.