إدلب .. وتقدم الثورة السورية
هنا في إدلب يعيد التاريخ نفسه، حيث يتعلق الأمر بالماضي أيضًا، فقبل خمسة عقود كان أبناء مدينة إدلب قد فعلوا برأس النظام آنذاك، حافظ الأسد، الواصل حديثًا إلى السلطة إثر انقلاب عسكري، ما فعلوه حديثًا، لكن هذه المرة إثر سيطرتهم على مدينتهم، بعد معارك مع قوات النظام استمرت أربعة أيام.
وما يختصر الصراع ويختزله رمزيًا، وأسبابًا ومآلات، هو تدمير تمثال حافظ الأسد. فالرجل وإن مات، فإنه ظل حاكمًا عبر نجله، فما بدأه السوريون قبل أكثر من أربعة أعوام، لم يَهدِف بالإطاحة بابنه بشار، بل بمعمار النظام نفسه، وذاك ما أرساه الأب حافظ الأسد قمعًا وفتكًا وتغييرًا في البنية السكانية وحتى النفسية للسوريين، وما من سبيل إلا بتفكيكه من جذوره، وهي هنا إرث الرجل نفسه وظله
الباقي حتى بعد رحيله.
كيف تمت سيطرة المعارضة على مدينة إدلب
خمسة أيام من القتال العنيف، انتهت إلى سيطرة تحالف قوى المعارضة المسلحة على المدينة؛ لتصبح مدينة إدلب ثاني مدينة خارج قبضة النظام.
“غزوة إدلب”، هو الاسم الذي اختارته فصائل المعارضة لمعركتها بهدف السيطرة على مدينة إدلب، وشكلت لها غرفة عمليات مشتركة، عنونتها باسم جيش الفتح.
ضرب الطوق الأمني حول مدينة إدلب، كان أول الخطوات التي عمدت إليها فصائل المعارضة في أول يوم من المعركة، فبدأتها بتفجير سبع سيارات مُلَغمة، ضد أهم حواجز قوات النظام وتحصيناته؛ فسيطرت المعارضة على اثني عشر حاجزًا.
في المقابل.. قوات النظام حاولت أن تستعيد زمام المبادرة في اليوم الثاني والثالث من المعركة، من خلال تكثيف استخدام سلاح الجو، لكن دون جدوى؛ حيث استطاعت قوات المعارضة أن تُحقق تقدمًا، وتصل إلى الخط الأول من الأبنية السكنية من جميع جهات المدينة، وفرضت حصارًا مُحكمًا على أهم مواقع النظام الأمنية.
تقدمت المعارضة بعشرات من المقاتلين باتجاه المربع الأمني، حيث تتحصن قوات النظام بأبنية الأمن العسكري والدولة والحزب والمحافظة، إلا أنهم سُرعان ما سقطوا تحت ضربات قوات المعارضة، وشهدت المعركة تطورًا مفاجئًا، بانسحاب المقاتلين للنظام واستخدامهم دروعًا بشرية، أخذوهم من الأفرع الأمنية وأشخاصًا كانوا معتقلين لديها، باتجاه معسكر “المسطومة”، أحد أهم مواقع قوات النظام، في طريق “أريحا_اللاذقية”، جنوب مدينة إدلب.
تقهقر جيش النظام إلى قاعدة “المسطومة” العسكرية بمحافظة إدلب، وفيها تتجمع معظم آليات النظام وعتاده وزخيرته في المحافظة، إضافةً إلى مركز قيادة الجيش هناك، ما يعني أن ثمة معركةً أخرى تنتظر الحسم، ولها يستعد الطرفان.
المعارضة من جهتها بدأت بتمشيط المدينة وجوارها، بينما قالت الحكومة السورية إنها بدأت عمليات تجميع لقواتها، استعدادًا لمواجهة من قالت “إنهم آلاف الإرهابيين القادمين من تركيا”.
تلك لم تكن الجبهة الوحيدة التي تتقدم فيها المعارضة وتتراجع قوات النظام، فثمة ثلاث جبهات أخرى، “بُصرى الشام” التي قالت المعارضة أنها سيطرت عليها، إضافةً إلى دارية والقلمون، حيث بدأت المعارضة قبل أيام، هجوم الربيع الذي يَهدُف إلى استعادة تلك المنطقة الاستراتيجية.
تفتيش قوات المعارضة مباني قوات النظام تفتيشًا دقيقًا، كشف عن مجازر ارتكبتها قوات النظام ضد المعتقلين لديها، في فرع الأمن العسكري، وبحسب الصور الأولى القادمة من تلك الأقبية، تبين أن قوات النظام، قتلت نساءً ومُسنين، إضافةً إلى معتقلين آخرين لديها وهم نيامٌ داخل زنازينهم، بعد أن عجزت عن نقلهم.
يأتي ذلك في الوقت الذي أكد فيه مقاتلي الجبهة الشامية أحد الفصائل المشاركة في تحرير المدينة، أنهم حرصوا على حماية المدنيين مهما كانت طوائفهم وانتماءاتهم، فضلًا على الحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة من السرقة والتخريب، حيث قامت قوات المعارضة وكخطوة أولية عملية، بتوزيع مقاتليها على ضفاف الطرق داخل المدينة، بالإضافة إلى دوريات جوالة هدفها؛ توفير حاجة المدنيين من مياه وطعام وغيره، هذا فضلًا عن تأمين العوائل التي تريد الخروج من المدينة خوفًا من القصف؛ وبهذا تكون قد أعطت الفصائل المعارضة نموذجًا واضحًا عن الثورة وأهدافها في بناء سوريا.
تفاصيل المعركة
كشف مسؤول غرفة عمليات “جيش الفتح” أبو هاجر الأنصاري، في تصريحات صحفية الاثنين الماضي، عن تفاصيل الخطة العسكرية التي تم وضعها من قبل المعارضة؛ للسيطرة على مدينة إدلب، حيث أفاد أنه “شارك في العملية 1800 عنصر من حركة أحرار الشام، و1500 عنصر من جبهة النصرة، و1500 عنصر من جند الأقصى، و600 عنصر من صقور الشام، إضافة إلى فيلق الشام”.
وأشار الأنصاري إلى أنه “تم تقسيم المدينة إلى أربعة محاور، وجرى التنسيق بين الفصائل على الأماكن التي سيقومون بمهاجمتها، كما قام الثوار باستهداف الطريق الوحيد المؤدي إلى مدينة إدلب “أريحا – المسطومة” لقطع طرق إمداد قوات الأسد”.
بدوره، قال أبو الحارث الأنصاري، أحد المسؤولين في جبهة النصرة “إن عناصر “النصرة” تقدموا باتجاه المربع الأمني للمدينة من محور الجامعة والسكن الشبابي، مضيفًا أن الجبهة استهدفت حواجز لقوات الأسد بـأربعة عمليات تفجيرية، ما تسبب في إرباك صفوف جنود الأسد وانسحابهم إلى المربع الأمني والمشفى الوطني بالمدينة”.
وأردف مسؤول جبهة النصرة قائلا “إن الثوار تمكنوا في اليوم الرابع من المعركة من الوصول إلى المربع الأمني الذي يتمركز به قوات الأسد ومليشيات اللجان الشعبية، موضحًا أن ضربات الثوار أجبرت من تبقى من قوات الأسد على الانسحاب من المدينة مخلفين وراءهم الكثير من الآليات الثقيلة والسلاح والذخيرة، بما فيها صواريخ مضادة للدروع من طراز ميتس”.
من جهته، ذكر أبو صالح طحان، المسؤول العسكري لحركة أحرار الشام أن “معركة السيطرة على مدينة إدلب أسفرت عن مقتل 28 عنصرا من الثوار وجرح 38 آخرين، بينما قتل 112 عنصرا لقوات الأسد بينهم عناصر من مليشيا حزب الله اللبنانية، إضافة إلى جرح 165 آخرين، وتم أسر 28 عنصرا من قوات الأسد و 60 عنصرا من “اللجان الشعبية”، في حين تمكن الثوار من تحرير 18 معتقلا من الأفرع الأمنية لنظام الأسد، فيما قام الأمن بتصفية حوالي 40 معتقلا بينهم امرأتان كانوا في سجونه”.
يُذكر أن جيش الفتح، أعلن منذ يومين، عن مواصلته القتال ضد قوات الأسد من أجل السيطرة على معسكري المسطومة والقرميد ومدينتي أريحا وجسر الشغور بريف إدلب.
أهمية تحرير مدينة إدلب.. وماذا عن المستقبل؟
بتحرير مدينة إدلب، يكون عدد مراكز المحافظات التي تم تحريرها، مركزين مدينة إدلب ومدينة الرقة، أما عدد مراكز المحافظات التي تم تحريرها جزئيًا، فعددها ستة وهي حمص وحلب ودمشق وريف دمشق ودرعا ودير الزور، أما عدد مراكز المحافظات التي مازالت تحت سيطرة قوات النصيرية فعددها ستة وهي حماة وطرطوس واللاذقية والقنيطرة والحسكة والسويدا.
وبتحرير مدينة إدلب يكون نظام بشار قد قُطِعت عليه بعض الطرق التي تمر داخل مدينة إدلب، مما سيعرقل بعض خطوط إمداده.
تقع إدلب شمال غرب سوريا، وهي عاصمة محافظة إدلب. كما أنها المنطقة الإدارية الأولى في المحافظة، تبعد عن مدينة حلب 60 كم، مما يعطي مدينة إدلب مكانة اقتصادية هامة.
سيطرة الثوار والفصائل المسلحة على مدينة إدلب يُعَد ضربة قوية للنظام، ونقطة تحول في الثورة السورية، بما تُمثله المدينة من أهمية استراتيجية.
وحسب صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، فإن سيطرة المعارضة السورية المسلحة على مدينة إدلب، يُعَد تحولًا بالغ الأهمية في خط المواجهة بين المعارضة والنظام، وذلك منذ اندلاع الثورة السورية قبل أكثر من أربعة أعوام، تقديرٌ لأهمية إدلب، يُدركه بلا شك النظام السوري، الذي أكدت المعارضة شروعه في تجميع قواته؛ للرد على هذه الصفعة التي تتجاوز بالكثير قيمتها كنصر عسكري، في سلسلة المواجهات بين المعارضة والنظام.
وبما أن السيطرة على إدلب جاءت بعد أيام من استيلاء “الجيش الحر” على مدينة بصرى الشام جنوبًا، بين دمشق والأردن، فاحتمال التقدم نحو المزيد من السيطرة على مناطق النظام السوري وارد.
يُذكر أن جيش الفتح، أعلن منذ يومين، عن مواصلته القتال ضد قوات الأسد من أجل السيطرة على معسكري المسطومة والقرميد ومدينتي أريحا وجسر الشغور بريف إدلب.
وبهذا.. يصبح بشار الأسد في أسوأ أوضاعه عسكريًا، بعد تقدمه وحلفائه من حزب الله، والحرس الثوري الإيراني، بدءًا من القُصَير وليس انتهاء بالقلمون؛ مما يُفسر ربما لجوءه إلى الأسلحة الكميائية مجددًا، حيث استخدم في “سرمين” غاز الكلور.
وما تتوقعه مصادر في المعارضة، هو أن يكون رده على انتصاراتهم في إدلب، هجومًا مضادًا يستخدم فيه الأسلحة الكيميائية على نطاقٍ أوسع، بعد أن أَمِن العقاب الدولي على استخدامها. لعله يستطيع باللجوء إلى الأسلحة الكيميائية، تحقيق أي نصر سريع، بعد تقهقر حلفائه، وانشغالهم بمعارك أخرى في الإقليم.