الإجحاف وفنُّ النقد: ليو شتراوس بين العلمانية والدين
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
أشار إدوارد سعيد في مقالته الصادرة سنة 1983 تحت عنوان«النقد العلماني» إلى أن النقد «متموقع دائمًا» و«شكوكي» و«علماني»، مفيدًا بأنَّ النقد دائمًا ما يُقِرُّ بتموقعه في سياق ثقافي واجتماعي راهن، ينأى بجنبه عن الالتزامات الدينية (ص:26). حيال نعت إدوارد سعيد، تساءل الأنثروبولجي طلال أسد، عما عناه إدوارد سعيد بالضبط حينما نعت النقد بـ«العلماني» (طلال أسد 2009). ما هي أنواع الأحكام أو الإدانات التي يُرجى أن تتنتجها ممارسة نقد «علماني» سواء في الناقد أو ضمن الجمهور؟
عوض إنكاره أطروحة إدوارد سعيد ببساطة، أمِل طلال أسد في إظهار أن ممارسة «نقد علماني» كما يسميه سعيد ستقوم بما لا يدع مجالا للشك، باستبدال قواعد دينية للـ «إدانة» بأخرى غير دينية. وعليه، فإنَّ «النقد العلماني» يتكئ على فهم معين لَملَكِة الحكم، فضلا عن اتكائه على مجموعة معينة من الظنيات القائمة حول الطريقة التي يسري بها الحكم في سياقات جماعية، أكثر منها فردية –مع الافتراض بالطبع أن العمل النقدي ينطوي على معانٍ لكل الناس ما عدا مؤلفه. مما لا شك فيه، أن طلال أسد سعى لإظهار أن نقد إدوارد سعيد العلماني هو سليل حالة النقد في عصر الأنوار ، التي أسس لها الفيلسوف إيمانويل كانط في مقالته الشهيرة «ما الأنوار؟» و حلَّلَها فيما بعد ميشيل فوكو في مقالته «ما هو النقد؟». في نظر طلال أسد وميشيل فوكو، فإن مشاريع كانط الطامحة في الفلسفة، ليست معدة للفراغ وإنما لمجال عمومي من القراء أو المستمعين. وإذا ما شككنا في الطبيعة العلمانية للمجال العمومي، فإننا سنشكك عندئذ بالضرورة في أوضاع النقد الكامنة فيه.
لقد صاغ طلال أسد نقده لأطروحة إدوارد «النقد العلماني» في سياق محادثات ما بعد 11/ 9 بشأن العلمانية والدين. يتساءل مؤلف «أنثروبولوجيا العلمانية» في ظنيات حكم الواقع (De facto) القائلة بأن العلمانية شكل «طبيعي» و«صحي» من الحداثة. ارتبط طلال أسد بدفاع يساري مُعيَّن عن الدين، رافضًا بالتبعية مهاجمة الثيوقراطية بوصفها نمطًا متمايزًا عن الأنماط العلمانية للحكم. ولقد يُصدم المرء إن علم أن مقدمة طلال أسد «أنثروبولوجية العلمانية» قد تنبأت بها باكورة أعمال المؤرخ المحافظ للفسلفة السياسية، ليو شتراوس (1899-1973).
سبينوزا وبداية التحيُّز العلماني ضد اليهود
لقد نادى شتراوس منذ العام 1920، بتحقيق في التحيزات الأصيلة لغرب ما بعد الأنوار، العلماني، الذي كان وفق رأيه قد اعتبر نفسه «فوق التحيزات» بذريعة تخليه عن الدين واعتناقه العلم. وكما فعل طلال أسد، تابع شتراوس المواجهة بين الشأنين الديني والعلماني– بيد أن عالم شتراوس كان جمهورية فايمار الألمانية حيث صُهِرَت اللغة الحديثة لـ «اللاهوت الديني» في بوتقة الراديكالية والأزمة السياسيتين، وحيث يهود كأمثال شتراوس في وسعهم استشفاف حشد متزايد الدعم لسياسيين معادين للسامية. خلال سنوات فايمار، بدا عصر الأنوار تحت الهجوم سواء داخل الأكاديميا –حيث سيتخلى كثر عن اعتناقهم مذهب النيوكانطية– أوخارجها حيث سيفقد الألمان من كافة الأطياف السياسية إيمانهم بالليبرالية. إنها لتسهل رؤية كيف كان لشتراوس، في ظل هكذا مناخ، أن ينشأ مهتمًّا لا بممارسة النقد وحسب، وإنما في علاقة النقد كما فهمه بوصفه ممارسة حديثة، بالحداثة العلمانية.
لا شك أن اغتراب سبينوزا بدا لشتراوس مقدمة لحال يهود ألمانيا الذين نشأوا في قطيعة مع التعاليم اليهودية.
وبذا نتج عن تحقيق شتراوس في التحيز العلماني مؤلَّف صدر سنة 1930 بعنوان «نقد سبينوزا للدين»، وهو كتاب سميك الحجم سعى لفهم البادرة التي ادعت من خلالها الحداثة قهرها وتجاوزها التقليد وتحيزاته (ليو شتراوس 1962). في مجمل أساس هذا الكتاب، الذي ألَّفه شتراوس كبحث في علم اليهوديات في أكاديمية برلين، تحقيق في نقد باروخ سبينوزا للديانتين اليهودية والمسيحية كما قدمهما كل من جون كالفن وموسى بن ميمون. وقد اعتبر شتراوس نقد سبينوزا اللحظة التأسيسية لموقف عصر الأنوار من الدين التقليدي، وعليه، فإنه يعتبر مستَنَدًا حاسمًا لتحديد موقف بالرفض أو الاتفاق مع نقد الأنوار للدين بضمير مرتاح. كما أشار يوجين شيبارد Eugene Sheppard، فإن سبينوزا أدى وظيفة رمزية بالغة التأثير لشتراوس بسبب وضعه كمنبوذ من المجتمع اليهودي في آمستردام لمواقفه وآرائه. لا شك أن اغترابه بدا لشتراوس مقدمة لحال يهود ألمانيا الذين نشأوا في قطيعة مع التعاليم اليهودية.
كان مشرف شتراوس في أكاديمية برلين، الفيسلسوف النيوكانطي ومؤرخ الفلسفة اليهودية جوليو غوتمان Julius Guttmann، يأمل في أن يسهم تحقيق شتراوس في المعالجة التاريخية للفكر اليهودي عبر تسليط الضوء على الروابط بين مؤلَّف سبينوزا «علم الكتاب المقدس» –حيث يرى في الكتاب المقدس صناعة بشرية سيسهل فهمها باستخدام أدوات تاريخانية– وتقليد علم اليهوديات الذي ظهر في ألمانيا مطلع القرن التاسع عشر. إلا أن هذا، كما يتضح من كتابات شتراوس وبحثه، لم يثنه عن انتقاد المقاربة التاريخانية و«العلمية» للفكر اليهودي التي عززها غوتمان، إذ بدت تفريغا لليهودية من مضامينها الدينية والسياسية وتعاملا مع الديانة بوصفها رزمة من التقاليد الثقافية التي تطورت بمرور الوقت. ثار شتراوس على معلمه. كان «نقد سبينوزا للدين» عملًا بحثيًّا يعيد تشييد أحكام معينة لسبينوزا عن ابن ميمون وكالفن، يثمِّن رأي سبينوزا في الوظيفة الاجتماعية للدين، ويصف كيف حاول سبينوزا تحويل معرفة الكتاب المقدس إلى «علم إيجابي»، وهو أيضًا استقراء لأهمية النقد بوصفه حدثًّا تأسيسيًّا في مؤسسة الحداثة. لا شك أنه ينبغي فهم «نقد سبينوزا للأديان» على أنه محاولة لتحدي اقتضاء علمانية النقد. لقد نظر شتراوس بعين الشك إلى منهج من كان مصدر إلهام غوتمان الفلسفي، كانط، الذي وظف تأثيره في سلسلة نقديات القرن الثامن عشر.
بين ابن ميمون وسبينوزا: بين الفلسفة والسياسة
كان جوهر الكتاب مقارنةً بين ابن ميمون وسبينوزا، وكلاهما فيسلوف يهودي من حقبتين مختلفتين وبمواقف جد متباينة إزاء العلاقة بين الفلسفة والقانون اليهودي. وعبر معاينة لآرائهما بشأن العلاقة بين الدين والفلسفة، فهم شتراوس كليهما كمؤسسين لنسختي القرون الوسطى والحديثة من العقلانية الفلسفية، بفهم مُتابيِن للدور الذي ينبغي أن يلعبه العقل في المجتمع السياسي. ففي حين نصب سبينوزا وشخصيات أخرى من عصر الأنوار الحديث العقلَ في المجال العمومي، وحاولوا أن يُظهِروا للناس أن في وسع العقل تلبية مصالحهم، فإن «عصر أنوار القرون الوسطى» لابن ميمون سعى لحماية العامة من عدم الاستقرار المحتمَل الذي يمكن أن ينتجه العقل الشكوكي. العقل، في نظر ابن ميمون وشتراوس، قد مال لأن يدفع بأفراد المجتمع إلى التشكيك في التقاليد التي حافظت على تناغم كل شريحة من شرائح المجتمع.
في هذا التقارب بين سبينوزا وابن ميمون، توقَّع مؤلِّف «نقد سبينوزا للأديان»، شتراوس اليافع، عمل شتراوس الناضج بعنوان «الإجحاف وفن الكتابة»، الذي أفاد بأن ابن ميمون (وفلاسفة آخرين كثر) قد كتبوا نصوصا متعددة الطبقات بأبعاد «علنية» و«سرية» بحيث تكشف نصوصهم مكنوناتها للقراء الصائبين (شتراوس 1952). شتراوس، الذي أعياه إهمال الأنوار الحديثة الفاحش لآثار المعرفة على العامةبشكل عام، مال إلى تفضيل منهج القرون الوسطى الذي امتدحه لإيلائه بالغ الاهتمام لآثار العقلانية على النظام الاجتماعي.
الُمضمَر في نقاش شتراوس بشأن عقلانية القرون الوسطى والعقلانية الحديثة، كان الادعاء بأن عقلانية سبينوزا –في نقد الأديان– كانت ممارسة عامة أصيلة. وكما سيقترح شتراوس لاحقًا، فإن سبينوزا كان أحد المؤسسين الفكريين لليبرالية الحديثة، ونقده للأديان كان مركزيًّا لذلك التأسيس. على النقيض من سبينوزا، الذي أغفل الحاجات الجماعية للشعب اليهودي أينما اشتبكت مع حاجات العلم، كان ابن ميمون الخاص بشتراوس واعيًا بالحاجة للحد من نطاق الفلسفة حال تهديدها السلطة القانونية (وبالتالي السياسية) لليهودية؛ وكما قال شتراوس عن «النسر العظيم» للفكر اليهودي في القرون الوسطى:
تجري مناقشاته، وتقع مناظراته، في سياق الحياة اليهوديةـ ولأجل هذا السياق. إنه يدافع عن سياق الحياة اليهودية، المهدَّدة من قبل الفلاسفة.
من المثير للاهتمام أن شتراوس لم يُشِر أبدًا إلى أنه كان لابن ميمون «نقد»،متكتما على ذلك المصطلح لأولئك المعاصرين –كأمثال سبينوزا نفسه– الذين إما قَبِلوا، أو كانوا مُرْغَمين على قبول، الفصل بين الدين وأنشطة العلم العقلاني. في رأيه، فإن العلم، كما يمارسه الفلاسفة الطبيعيون، وحتى علم الكتاب المقدس كما مارسه المؤسسون التاريخانيون لعلم اليهوديات في ألمانيا، يتخذ وضعية الحياد آخذًا في الاعتبار حاجات المجتمعات السياسية المحيطة. على النقيض من غوتمان، اتخذ شتراوس وضعية راديكالية إزاء المضامين السياسية لعلم الدراسات اليهودية. وفي هذا الصدد، فإنه حذا حذو أحد المؤثرين الكبار عليه، الفيلسوف اليهودي فرانز روزنفايغ. بالنسبة لروزنفايغ، فإنَّ كل الجهود في حقل الدراسات اليهودية ذات تكافؤ سياسي جلي، إما أنه يُسهِم في تجديد الثقافة اليهودية في أوروبا، أو في المحاولات الحثيثة للمماثلة (التكيُّف) assimilation والتي لطالما أسفرت عن التخلي عن التقليد اليهودي. وبالتالي فإنه بالنسبة إلى شتراوس لم يكن ثمة نقد –ولا حتى في نقده لاسبينوزا– حيادي بحقّ فيما يتعلق بمصير الشعب اليهودي في الشتات.
مأزق الحداثة والليبرالية
لم يكن المحافظ ليو شتراوس صديقًا للحداثة الأوروبية التي ساهم نقد الدين في إرساء قواعدها. في رأيه، فإن أزمة سياسات فايمار لم تكن ظرفًا استثنائيًّا وإنما توكيدًا على إخفاقات الحداثة. رغم ذلك، فإنه كان شكوكيًّا بالتحديد إزاء الليبرالية العلمانية لجمهورية فايمار، لأنها بدت وقد خذلت يهودية ألمانيا. أثناء عضويته في منظمة الشباب الصهاينة Blau-Weiss حتى منتصف عشرينياته، كان شتراوس قد طور نقدا حادا لـلأبعاد «الاستيعابيةAssimilationist» للتحرر الليبرالي لليهود؛ وهي العملية التي بدأ اليهود ضمنها نيل المزيد من الحقوق المدنية بالتدريج منذ القرن الثامن عشر. في رأيه فإن اليهود مُنِحوا حرية المشاركة في الحياة الأوروبية ليس بوصفهم يهودًا وإنما ببساطة بوصفهم «أفراد». وكان تحررهم هذا مشروطا بمظهرهم بين العامة لا كيهود وإنما أكثر كـ «أوروبيين» مواطنين وكلاء أممين في دول قومية بالتبني، والذين لا تتعارض هوياتهم الخاصة مع مُواطَنَتهم. وكانت النتيجة أن اليهودية لم تعد حالة سياسية وإنما «اعتراف» خاص مشابه للبروتستانتية: يهود ألمان، كما قال شتراوس، تعيَّن عليهم أن يصبحوا «ألمان المعتقد اليهودي».
إن الدولة الليبرالية، في رأي شتراوس، كانت عاجزة دستوريا عن حماية مواطنيها من التمييز لأنها أيقنت بوجود حقل خاص لا يسعها التدخل فيه.
عانى البعد الجماعي للحياة اليهودية والطبيعة السياسية للديانة اليهودية، كي تتمكن الحداثة اليهودية من الازدهار. وبالتالي فإن النقاشات التي خاضها شتراوس في «نقد سبينوزا للدين» كانت تقنيًّا ذات نتائج سياسية تفوق العوالم الاستطرادية للفسلفة والدراسات الكتابية والتاريخ اليهودي. في فهمه تحدي سبينوزا للدين بوصفه إحدى اللحظات المؤسسة لليبرالية، فإن شتراوس فهمه أيضا بوصفه لحظة حالة تأسيس الحداثة اليهودية – حالة فهم أنها مُعرَّضة للخطر بفعل نقاط ضعف الليبرالية التي منحتها الوجود. إن الدولة الليبرالية، في رأي شتراوس، كانت عاجزة دستوريا عن حماية مواطنيها من التمييز لأنها أيقنت بوجود حقل خاص لا يسعها التدخل فيه.
لقد توخَّت المقارنة بين سبينوزا وابن ميمون في «نقد سبينوزا للأديان» تسليط الضوء على جانب واحد من اليهودية، في رأي شتراوس، كان مغبة تهديد الليبرالية والتاريخانية: التنزيل الديني بوصفه أحد مصادر التشريع السياسي. في ملاحظة مشابهة إنما في وقت لاحق جدا في مسيرته، سيكتب شتراوس (1983، ص45):
ملحد دينيًّا متديِّن سياسيًّا!
مع ذلك، فلم يكن هذا التصريح لتسجيل تفضيله للدين، وإنما للبت بحكم بشأن المقاربة «العلمية» لليهودية: لم يكن ليو شتراوس يهوديًّا متدينًا، وإنما ملحد عن اختيار، لم يمنعه إلحاده من الاعتراف بوجود عناصر مثيرة للإعجاب في البعد السياسي لليهودية. ولم يكن ليتجدد هذا الفهم إلا من خلال التشكيك في نقد الدين. من المثير للاهتمام، أن نفور شتراوس الشديد من العلمانية قد يكون دفع به بعيدًا عن المنظمات الصهيونية العلمانية في شبابه: في فترة عمله على «نقد سبينوزا للأديان» كانت أنشطة شتراوس ضمن Blau-Weiss في تناقص، وفي النهاية سحب عضويته، ممتعضًا من تجاهل الصهاينة للدين بوصفه عنصرًا إلزاميًّا في الحياة اليهودية.
في حين رأى شتراوس «نقد سبينوزا للدين» لفتة علمانية، وفي حين أنه فصل العقل والدين أحدهما عن الآخر، إلا أنه لم يفترض وجوب علمانية النقد. تذهب قوة «نقد سبينوزا للدين» إلى وضع العقلانية العلمانية موضع الدين – ذلك أن كليهما يقوم على «تحيزات» من عدة أنواع. إنَّ النقد كما مارسه شتراوس في كتابة مؤلفه هو تقنية الشفافية إزاء التحيزات –تحيزات المرء نفسه أو تحيزات العالم الاجتماعي. يُظهِر كتاب شتراوس أنه حتى العقل النقدي الذي قامت عليه الهيئات القضائية لعصر الأنوار قد يخضع للمساءلة، وبأنه في حين قد لا يكون النقد الأداة الأمثل لأنصار الأرثوذكسية، إلا أنه سيكون كافيًا لجلبهم إلى طاولة الحوار.
بين شتراوس وشميت
شتراوس ذاته عرض علينا أفكارًا بليغة لفهمه للنقد في تأمل لاحق لمكنونات كتابه الأول. في توطئة الترجمة الإنجليزية الصادرة سنة 1962لـ «نقد سبينوزا للدين»، قال شتراوس أنه «كان يهوديا يافعًا ولد وتربى في ألمانيا حيث وجد نفسه في قبضة ورطة اللاهوت السياسي». لم يشر مصطلح (Theolgico-Political) وحَسْب إلى رسالة سبينوزا في اللاهوت والسياسة، وإنما إلى عمل كارل شميت الشهير سنة 1922 «اللاهوت السياسي Political Theology»، والذي عرفه شتراوس عين المعرفة، حيث سيكتب سنة 1932 نقدًا لمؤلف شميت «مفهوم السياسي The Concept of The Political»، وأبقى الاثنان على تراسل سيكون من شأنه، كما أظهر هنريك ماير Henrich Meier ، أن يكون حاسمًا لتطور شتراوس الفكري (ماير 1995)،فيما اختلفا في عدد من الأوجه الحاسمة –كتفضيل شتراوس الفلسفة السياسية على اللاهوت السياسي– ولا يعني هذا أن كليهما لم ينطلق من ذات ينبوع الكراهية لفكر التنوير.
لربما لم يشاطر شتراوس شميت رأيه في أن كل المفاهيم السياسية هي في الواقع مفاهيم لاهوتية معلمنة؛ لكنه شاركه نسخة أقل تطرُّفا من حدسه. يشير جون ماكورميك John Mcormick إلى موقف شتراوس بوصفه «ملحدًا كتابيًّا»، وهو الرأي القائل بأنه بالرغم من عدم وجود الإله إلا أن نزعتي الرهبة والخوف المعتمَد عليهما ف الكتاب المقدس كان لهما استخدامات اجتماعية وسياسية (ماكورميك 2009). إن نقد سبينوزا العلماني للدين، في ظن شتراوس، قد ساعد في إنتاج نظام سياسي لن يستطيع أبدًا أن يؤسس نفسه بوصفه نظامًا شرعيًّا. لم يدافع شتراوس عن الدين نفسه ولا عن الثيوقراطية، لكنه آمن بأن الدين يزوِّدنا ببُنى من الخبرة التي قد لا تستطيع الحياة السياسية العمل دونها. لقد سمَّى ميشيل فوكو نسخة كانط من النقد «فنَّ ألا تكون محكوما كثيرًا» (1997، ص45)، من جهة أخرى، فقد قلق شتراوس اليافع من أن عقلانية الأنوار –التي ساهم النقد في استحضارها– قد أنتجت نُظُم حكم تحمل في ثناياها نقاط ضعفها الخاصة.