ليس مجرد عصفورة: تقديس المصريين القدماء لـ«حورس»
عبارة تلفّظت بها المُصممة المصرية غادة والي خلال لقائها الأخير مع الإعلامي عمرو أديب، الذي ناضلت فيه للدفاع عن الاتهامات التي تنهال عليها بسرقة أعمال الفنان الروسي جورجي كوراسوف.
عبارة «والي» تسبّبت في إثارة المزيد من الجدل والهجوم عليها بسبب عدم معرفتها لواحدٍ من أهم رموز الحضارة الفرعونية، ووصفها السطحي له بأنه مجرد عصفورة.
لم يكن المشار إليه «عصفورة» وإنما صقر يمثّل الإله حورس، أحد أقدم الآلهة المصرية وأكثرها شيوعًا ليس فقط داخل مصر ولكن حول العالم بأسره.
ابن الإلهين
بحسب التاريخ الفرعوني، فإن «حورس» هو ابن إيزيس وأوزوريس. أوزوريس هو إله الاموات وسيد المملكة الأبدية ورمز الخصوبة والفيضان أما إيزيس فهي أم الأرباب ورمز الوفاء الدائم وحارسة الأجواء.
بدأ ذِكر «حورس» في المصادر الأثرية بداية من عام 2375 ق.م، بحسب ما ذكرت فتيحة عمار في بحثها «نماذج من تمثيلات (حورس الطفل)».
وفي بحثه «هيئة مبكرة للسرخ والصقر حورس»، أرجع رضا أحمد، أستاذ التاريخ القديم، هوس المصريين القدماء بتجسيد الآلهة في شكل صقور إلى عصور موغلة في القدم، إلى زمن ما قبل الأسرات.
على أي حال، حظيْ «حورس» بقصة أسطورية جبّارة لاحقت نشأته من خلال الرواية التي فسّر بها المصريون القدامى نشأة الكون.
بحسب القصة الفرعونية، فإن السماء والأرض هما الزوجان «جب» (الذكر) و«نوت» (الأنثى)، اللذان أنجبا ابنين، هما: أوزوريس وسِت، وابنتين هما: إيزيس ونفتيس. تزوّج أوزوريس من إيزيس فيما حظي سِت بنفتيس.
هنا تُظهر الأسطورة كيفية ظهور الشر والحقد على الأرض لأول مرة، بعدما حقد «سِت» على أوزوريس بسبب عدله وحكمته ومساعدته للناس عبر تعليمهم فنون الزراعة والقوانين المُنظِّمة للحياة الإنسانية. تآمر «سِت» على أخيه ليقتله بصُحبة 72 فردًا من أعوانه بعدما وضعه حيًا في تابوت خشبي ثم أغلقه بالمسامير وألقاه في النيل.
بحسب الأسطورة، فلقد خاضت الأم إيزيس صراعًا كبيرًا مع العم الشرير «سِت» حتى تمكّنت من إعادة إحياء زوجها. ليس هذا وحسب، بل رُزقت منه بطفل سمته «حورس»، الذي يعني حرفيًا العالي، الرفيع، البعيد، المتعالي.
في السر وبين أحراش دلتا النيل، نشأ «حورس» الصغير، الذي ما إن بلغ أشدّه حتى انتقم من عمّه وانتزع منه عرش أبيه، ليُنهي أسطورة أحبّها المصريون القدامى وتداولوها كثيرًا لما تمثّله من قيم انتصار الخير على الشر وحصول كل مظلوم على حقه في نهاية المطاف.
لاحقًا نُظر إلى هذه العائلة باعتبارها تمثّل «ثالوثًا مقدسًا»، وهي عادة مصرية قديمة نشأت بسبب الصراعات المتتالية بين الأسر الحاكمة، التي كانت تنتهي برغبة المنتصر في تغليب حُكم إلهه على إله المغلوب. هنا جرى العُرف على جمع الإلهين معًا كقوتين تمثلان الأب والأم على أن ينتج من اتحادهما إله جديد بمثابة الابن، ليُشكل الثلاثة معًا «ثالوثًا» مقدسًا توافقيًا يرضي جميع الأطراف.
ومع تنامي شهرة حورس وتمددها سيُصنع له «الثالوث الإلهي» الخاص به بعدما جرى تزويجه من «حتحور»، التي أنجب منها طفلاً عُرف بـ«حورس سماتاوي»، ليُشكل الثلاثة ما سيُعرف لاحقًا بـ«ثالوث إدفو».
لماذا الصقر؟
اعتاد المصريون اعتبار الصقر أحد أشكال تجليّات الآلهة، فعلوها مع «رع» و«آتون» -قبل أن يُرمز له بقرص الشمس لاحقًا- ثم استقر الأمر عند «حورس».
وبحسب بحث «تقديس الصقر (حورس) وعبادته في مصر القديمة» لعلي جابر، فإن كلمة «حورس» بما أنها تعني البعيد المتعالي، رُمز له بالصقر الذي يطير أبعد من أي طائر آخر، فرمزوا له بشكل الصقر أو برجل برأس صقر في رسومٍ لاحقة.
أنقذنا يا حورس
وفقًا لعلي جابر، فإنه بدءًا من عصر الأسرة الأولى، اكتسب الإله حورس أتباعًا كُثر تمتّعوا بمكانة اجتماعية رفيعة ونُظر إليهم باعتبارهم حائزين على «الأسرار الإلهية»، بمرور الوقت تضخّم عددهم حتى باتوا حاشية «حورسية» تحظى بدعم الملوك عُرفوا بِاسم «أبناء الأرملة».
وبحسب بحث فتيحة، فإن مئات المنحوتات التي وصلتنا خلّدت شكل «حورس» بأساليب مختلفة تكشف شعبيته الهائلة بين المصريين قديمًا في أزمان متعددة، ليس فقط على منحوتات المعابد ولكن على «المنحوتات الشعبية» ذات الاستخدام الشخصي مثل التمائم التي نُحتت من الرصاص على شكل حورس طفلاً ظنًّا من المصريين أن اقتناءها سيمنحهم عُمرًا طويلاً، ومثل ألواح من الحجر الجيري حُفر عليها حورس وهو يطأ بضعة تماسيح، هذه الألواح كانت توضع في المنازل للوقاية من الحيوانات السامة والمتوحشة، وهو سلوك شاع جدًا في مصر القديمة خلال العصر المتأخر.
بعد انهيار الدولة المصرية القديمة، ووقوعها ضحية للاستعمار على أيديْ القوى الكبرى في العالم، حافظت مصر على امتدادها الثقافي والحضاري في وجدان الأمم المنتصرة عسكريًا، فاستمرّت عبادة «إيزيس» ومن خلفها الطفل/ الإله لكن هذه المرة بِاسم آخر هو «حارباخرد» (أو حربوقراط) وليس «حورس».
النقوش التي مثّلت «حارباخرد» حورس اقتُبس منها لاحقًا شكل «إيروس»، إله الحب عند الإغريق.
هذا الوجود استمرّ في العهد الروماني بعد إضافة بعض اللمسات القليلة على مظهره العام.
وفي العهد البطلمي، أنشئ واحد من أشهر المعابد المخصصة لعبادة الإله حورس، وهو المعبد المقام في مدينة إدفو، بدأ تشييده في عهد بطليموس الثالث سنة 237 ق.م انتُهي منه في عهد بطليموس الثالث عشر في القرن الأول ق.م.
بعض المنحوتات الإغريقية صوّرت «حورس» وهو يعتلي طائرًا في إشارة لجذوره القديمة ولقصة المنشأ التي انتصر فيها على عمّه الشرير «سِت»، الذي مثّل طائر الإوز روحه الفاسدة.
فلقد تضمّنت أسطورة الخلق الفرعونية قرار إيزيس بذبح كل طيور الإوز المحيطة بها خلال رحلتها لإخفاء ابنها في المستنقعات، لهذا حرص بعض الملوك المصريين القدامى على تقديم طيور الإوز كقربان للآلهة للدلالة على رغبتهم في العمل على محاربة قوى «سِت» الشريرة.
وبحسب شهادة المؤرخ الروماني كايوس بلينوس سكوندوس، فإن الشعب الروماني في زمنه اعتادوا استخدام خواتم وتمائم تحمل صورة «حارباخراد»/ حورس بعدما نسبوا له قوى وقائية.