الأناركية: هل يمكن أن نعيش بلا دولة؟
ظل مصطلح الأناركية، المشتق من الكلمة اليونانية «Anarkia» التي تعني غياب الحاكم أو السلطة، يُستخدم للازدراء بمعنى الفوضوية، حتى جاء عام 1840 عندما استخدمها بيير جوزيف برودون، المنظر السياسي الفرنسي، للتعبير عن تصوره الأيديولوجي السياسي والاجتماعي الجديد، القائم على فكرة تنظيم المجتمع دون سلطة[1].
يعرف برودون تلك الأيديولوجية بأنها شكل من أشكال الحكومة أو الدستور يكفي معه الوعي الجمعي والفردي الذي يتشكل عبر تطور العلم والقانون، للحفاظ على النظام وضمان كل الحريات. نتيجة لذلك، تتقلص السلطة ومؤسسات الشرطة وأدوات القمع والبيروقراطية والضرائب إلى حجمها الطبيعي لسبب جد وجيه، هو اختفاء أنماط الملكية والمركزية المتطرفة بعد استبدالها بالمؤسسات الفيدرالية والتقاليد التشاركية… جلي إذن أن اختفاء كل القيود يعني ولوجنا عصر الحرية الكاملة، أو الأناركية[2].
بحسب برودون، فإن الأناركية ليست حركة هدامة تبغي الفوضى، بل الحكومة في نظره هي المسئولة عن الفوضى. لذلك، بإمكان المجتمع إعادة تأسيس النظام الطبيعي واستعادة الانسجام الاجتماعي إذا أصبح المجتمع بلا حكومة. على الرغم من ذلك، فقد استعمل برودون وتلميذه ميخائيل باكونين، الثائر والمنظر الروسي، لفظ «الأناركية» بمعنى الفوضى المطلقة أيضًا، إلا أن هذه الفوضى الشاملة يقع خلفها بنظرهما التحول الثوري الهادف لبناء نظام جديد مؤسس على قواعد الحرية والتضامن المتبادل[3].
على مدار أكثر من مائة عام، كان الاتجاه السائد في الأناركية هو الاتجاه الاشتراكي الذي ينادي بتحويل الملكية الخاصة للأرض والموارد الطبيعية وأدوات الإنتاج إلى ملكية مشتركة للمجتمعات المحلية التي تتحد مع مجتمعات أخرى لأهداف متبادلة. ولكن تختلف الأناركية عن الاشتراكية الكلاسيكية في معارضتها لفكرة وجود أية سلطة مركزية. لكن الاتجاه الاشتراكي لا يمثل الاتجاه الوحيد داخل الأناركية، حيث تتعدد مدارس الفكر الأناركي وتتفرع بين اتجاهات لا سلطوية اشتراكية ونقابية عمالية وبين اتجاهات لا سلطوية ليبرالية وفردية[4].
ما يربط مختلف اتجاهات الفكر الأناركية عمومًا هو رفض السلطة الخارجية، سواء كانت من الدولة أو رب العمل أو الهرميات الإدارية والمؤسسات القائمة على المستوى التعليمي و الديني كالمدرسة والكنيسة[5].
تعرضت الأناركية الاشتراكية للنقد الليبرالي لأن مفاهيمها تتلاقى مع المفهوم الشيوعي عن تلاشي الدولة في المرحلة الأخيرة من تطور البشرية وفق الحتميات التاريخية الماركسية. كما انتقد الماركسيون بدورهم الأناركية الليبرالية كمنظومة فكرية «رجعية» بحسبهم لأنها بإيمانها بالملكية الفردية الصغيرة كأساس للنظام الاجتماعي تحاول عبثًا إعادة خلق أوضاع اقتصادية واجتماعية تخطتها الرأسمالية. كما اتهموا أنصارها بالنفاق لعدم الإسهام الجذري في مقاومة الرأسمالية، وعدم إيمانهم بالصراع الطبقي.
رواد الأناركية
1. ويليام جودوين (1756-1836)
وهو صحفي وروائي إنجليزي، وصاحب كتاب «تحقيق حول العدالة السياسية» الذي هاجم فيه الحكومة والقانون والملكية الخاصة ومؤسسات الدولة، ودافع عن فكرة الأناركية، وقد تركت كتابات الأخير أثرًا واسعًا على الأوساط السياسية الراديكالية في لندن، حيث ظلت كتاباته تتداول سرًا منذ سبعينيات القرن التاسع عشر وصوًلا إلى تسعينيات ذلك القرن، الوقت الذي تم فيه إعادة اكتشافها على يد الحركة الأناركية البازغة[6].
جودوين أيضًا هو زوج الكاتبة البريطانية ماري ولستونكرافت، ووالد الأديبة الشهيرة ماري شيلي التي أبدعت شخصية فرانكشتاين.
2. بيير جوزيف برودون (1809-1865)
وهو سياسي ومفكر فرنسي، وهو أول من أطلق على نفسه تعبير الأناركي أو اللا سلطوي، ويحتوي فكر برودون على مبدأين متعارضين، يتمثلان في اعتقاده بأن الملكية الخاصة سرقة، وأن الملكية الخاصة حرية مشروعة في ذات الوقت.
لا يجد برودون تناقضًا بين هذين المبدأين؛ حيث رأى أن المبدأ الأول مرتبط بصاحب الأرض وصاحب رأس المال اللذَين تأتي ملكيتهما من الانتزاع أو الاستغلال بمساندة الدولة وقوانين الملكية والشرطة والجيش، في حين يتعلق المبدأ الثانيَ بعائلة المزارع أو صاحب الحرفة وحقهم الطبيعي في امتلاك المنزل والأرض التي يزرعونها، وأدوات مهنتهم، ولكن دون امتلاك أو سيطرة على بيوت أو أرض أو سبل عيش الآخرين في المجتمع[7].
3. ميخائيل بوكانين (1814-1876)
وهو ناشط ثوري روسي اشتهر بمجادلاته مع كارل ماركس في سبعينيات القرن التاسع عشر، وتنبأ بدقة استثنائية بنتيجة الديكتاتوريات الماركسية في القرن العشرين، حيث قال إن: «الاشتراكية دون حرية هي عبودية ووحشية»، كما قال أيضًا إنه رغم اعتقاده أن ماركس ثائر جاد للغاية، إلا أنه يعتقد أن ماركس يعمل على تأسيس ديكتاتورية عالمية ستقوم بغرس بذور التمرد في العالم، لتحكم وتسيطر على النشاط الثوري للشعوب في جميع الدول، على نحو سيؤدي في النهاية لقتل الثورات وتشويه كل الحركات الشعبية وتعجيزها[8].
4. بيتر كروبوتكين (1842-1921)
وهو جغرافي روسيٍ من أصول أرستقراطية، قام بتأليف العديد من الكتب والكتيبات التي تشرح فكرة الأناركية والمساعدة المتبادلة، وتدعو إلى أنسنة الحقول والمصانع والورش، وتناهض التفسيرات الداروينية للرأسمالية التنافسية المبنية على عقد المقارنات بين المجتمعين الإنساني والحيواني، مثل مقاربات الفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر.[9]
5- إيما جولدمان (1869 – 1940)
الكاتبة والناشطة الأناركية «إيما جولدمان»
وهي كاتبة وناشطة لا سلطوية ولدت لأبوين يهوديين في ليتوانيا التي كانت تقع تحت سيادة الإمبراطورية الروسية آنذاك، ثم هاجرت إلى الولايات المتحدة في صباها.
تعد جولدمان من أبرز دعاة الأناركية في التاريخ الأمريكي، جولدمان كذلك هي من رواد التيار النسوي، ومن أول من تبنى دمج مسائل الجنس والمثلية في الخطاب السياسي اليساري واللا سلطوي، كما اشتهرت جولدمان أيضًا بموقفها اللا ديني المتزمت.
اتسمت مواقف جولدمان، التي اشتهرت كمتحدثة جماهيرية مخضرمة وسط الحشود، بالراديكالية وتبني العنف، إلى درجة التورط هي وزوجها في محاولة فاشلة لاغتيال مدير مصنع كارنيجي للصلب كنوع من الدعاية لأفكارهما عبر العنف.
الأناركية المعاصرة
رغم إيمانه بدور الدولة وتدخلها في الحد الأدنى كحامٍ للحقوق الفردية، تحمل أطروحات الفيلسوف الأمريكي روبرت نوزيك التي قدمها في كتابه الشهير «الأناركية، الدولة، اليوتوبيا» تقاربًا مع الأناركية، ويسمى هذا النزوع السياسي بالليبرتارية. والليبرتارية هي اتجاه سياسي فلسفي يعارض تدخلات الدولة في الحياة الفردية وفي المجال العام إلا في حدود الحد الأدنى لحماية الحقوق والحريات.
يعتقد نوزيك كما يقول في مطلع كتابه المشار إليه أعلاه أن للفرد حقوقًا وأن هنالك أشياء لا يمكن لأي شخص أو مجموعة أن يتصرفوا بها دون المساس بتلك الحقوق، وهو زعم يقترب من مزاعم الأناركية الفردية، التي تأثر نوزيك بأحد أكبر دعاتها، وهو الاقتصادي النمساوي الأصل موراي روثبارد الداعي والمؤسس لاتجاه الأناركية الرأسمالية.
تقوم عقيدة نوزيك السياسية على نظرية أن للفرد حقوقًا طبيعية ما قبل تعاقدية أو ما قبل سياسية، أي حقوق تسبق العقد الاجتماعي وتشكل حصنًا أخلاقيًا ضد أي سلوك موجه ضد الفرد تحت أي غاية أو شعار اجتماعي جذاب، حيث تشكل كل تلك الحقوق المندرجة تحت هذه الأهداف حقوقًا مدعاة، في مقابل الحقوق الفردية الأخلاقية الأصيلة، التي لا تخضع للتعاقد أو التوسيع إلا من خلال أفعال الأفراد وتفاعلهم مع الآخرين في المجتمع.
يعد أيضًا عالم اللسانيات والمفكر الأمريكي نعوم تشومسكي من أبرز المؤمنين بالأناركية في الوقت الحاضر، ومن أبرز مشاركاته النظرية في هذا الإطار تقديمه لكتاب دانييل غيران «الأناركية: من النظرية إلى التطبيق» في عام 1970.
يذكر تشومسكي في لقاء حواري مع مجلة «Red and Black Revolution» أنه انجذب إلى الأناركية منذ أن كان مراهقًا يافعًا، ويقول إنه منذ ذلك الوقت لم يجد أسبابًا كافية لتغيير ذلك الموقف المبكر، ويختصر تشومسكي الفكرة الأناركية ببساطة شديدة في أنه عندما نفقد القدرة على إعطاء تبرير لوجود هياكل السلطة، والطبقية، والتراتبية، في جانب ما من جوانب الحياة، فإن هذه السلطة تكون غير شرعية، وينبغي تفكيكها، لزيادة نطاق الحرية الإنسانية.
يعتقد تشومسكي أن الأناركية هي وريث الليبرالية الكلاسيكية والاشتراكية على حد سواء، بناء على الخبرة التاريخية التي تكونت مما فعلته الدولة والكنيسة والرأسمالية، وقد استفاد تشومسكي في هذا الإطار من دراسته للغة واللسانيات التوليدية وتراكم دراسات البحث في البنى الإدراكية لدى الإنسان، وقام بالربط في هذا السياق بين الطبيعة البشرية الخلّاقة التي قال بها رواد الأناركية مثل باكونين وكروبوتكين مع تراث ديكارت الفلسفي.
حيث تأثر تشومسكي بأفكار باكونين عن غريزة الحرية، وبأفكار ديكارت عن الملكة اللغوية الفطرية لدى الإنسان، وربط هذا بحقل دراساته الأكاديمي الذي توصل فيه إلى أن قدرات الإنسان اللغوية الفطرية غير محدودة، وانعكس هذا في الأخير في تشكل معتقداته السياسية التي تؤمن بالقيم الليبرالية الكلاسيكية، وبالفكرة الأناركية في ذات الوقت، في مناداتهما بضرورة التمسك بحق حرية إطلاق الطاقات الخلاقة الكامنة لدى الطبيعة البشرية.
- كولين وارد، اللاسلطوية: مقدمة قصيرة جدًا، مؤسسة هنداوي، طبعة الكترونية ص 9.
- بيير جوزيف برودون، من رسالة إلى مجهول، 20 أغسطس آب 1864، ستة أشهر قبل وفاته. ننقلا عن كتاب «الأناركية» لدانيال غيران، ترجمة عومرية سلطاني، دارتنوير للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى 2015، ص11
- دانيال غيران، مصدر سابق، ص 58
- كولين وارد، مصدر سابق ص10
- المصدر السابق
- المصدر السابق ص11
- المصدر السابق نفس الصفحة
- المصدر السابق ص11-12
- المصدر السابق ص13