صوتك حلو… بس لازم تغني كلام أهم من اللي أنت بتغنيه… إحنا عالم تالت.

كان هذا رأي «نور» الشاعر الثوري الناصري، الذي جسده «أشرف عبد الباقي»، لـ «سيف» المغني الذي لم يجد فرصته (عمرو دياب)، حين كان يغني مقطع من أغنية لعبد الحليم عندما جمعهم زنزانة واحدة في فيلم «آيس كريم في جليم» عام 1992.

ثم يقنعه بوجهة نظره لعرض فنهما، وهي أن يغني للناس غناء الشارع ما دامت القنوات الرسمية أغلقت أبوابها. ويذهبان لزرياب (علي حسنين) الملحن الصعلوك، ليقنعاه بالانضمام لهما في مشروعهما لغناء الشارع الذي يبدأ بأغنية (رصيف نمرة خمسة).

حيث تقول كلمات الأغنية: «رصيف نمرة خمسة والشارع زحام… وساكت كلامنا ما لاقي كلام… تسالي يا خال… تدخن يا عم… تتوه المعاني في لساني لجام»، وتستمر الكلمات في عرض تفاصيل وصور من الحياة اليومية في الشارع المصري لتنتهي برثاء الحال الذي وصل له المجتمع: «ولا البحر باين لأخره مراسي… ولا حد راسي منين الفرج؟».

هذه الحالة الغنائية كانت أشبه بإعادة إحياء مشروع الثنائي الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم، حيث قال عنها كاتب الكلمات الحقيقي الشاعر مدحت العدل في أحد الحوارات، إنه كان مطلوبًا منه كتابة أغنية مختلفة عن القاهرة، فقرر التقاط هذه المشاهد أثناء تجواله في الشوارع، وقال عمرو دياب إنه لحن هذه الأغنية مستوحيًا شخصية ألحان الشيخ إمام، وهذا ظهر خصوصًا في مقدمة اللحن بالعود.

المرحلة «المنيرية» في رحلة عمرو دياب

كانت شخصية سيف متوافقة مع عمرو دياب وأفكاره في الواقع وتعبر عنه في مرحلة بداياته، وبالطبع المخرج خيري بشارة استثمر شهرة ونجاح عمرو كمغنٍ لنجاح الفيلم الذي أعتقد أنه يعبر عن أفكاره عن الفن والأيديولوجية من خلال بطل مغنٍ.

ظهر عمرو في أول لقاءاته التليفزيونية عام 1983 وهو في عمر 21 عامًا، بترشيح من الموسيقار هاني شنودة، مكتشفه، وكان وقتها طالبًا في المعهد العالي للموسيقى العربية، وبخجل ورهبة من الكاميرا، يستجمع أفكاره ليقول إنه يغني بطبيعته على مستوى المضمون بكلمات قد تعبر عن حكاية شخصية، وأعطى مثالًا بأغنية «في أحضان الجبل»، قبل أن يصدرها في أول ألبوماته «يا طريق» في العام ذاته تقريبًا، ويقول عنها إنها تعبر عن مصر، ولكن بشكل جديد من خلال الحكاية: «في يوم والشمس طالعة بألوانها الرقيقة ولمستها الدهب… همسك ايدك وهاخدك… لبيت أبيض صغير في أحضان الجبل»، وعلى مستوى الشكل فهو يريد التحرر لا يُقيَّد بارتداء بدلة وكرافتة ويتحرك على المسرح لا يقف ثابتًا أمام الميكروفون.

أغنية «الزمن»، عمرو دياب برفقة الموسيقار هاني شنودة عام 1983

عمرو دياب في أول ظهور له مع الموسيقار محمد الشيخ عام 1983

هذا الشكل الغنائي «المنيري» بامتياز كما هو واضح من طبيعة الكلمات، كانت تختلف عن الدارج من القوالب العاطفية التي تخاطب الحبيبة بشكل مكرر، بل تناقش مواضيع مختلفة ومشاعر وجدانية بعمق. حيث قال الكاتب «بلال فضل» في برنامجه «الموهوبون في الأرض» إن عمرو كان شديد الإعجاب بتجربة منير المختلفة المجددة، وكان يعتبرها الأهم على الإطلاق في الجيل الجديد، لذلك كان يحاول صنع نموذج موازٍ، تعاون فيه مع أسماء أسست لمشروع منير.

الألحان السريعة

المهم يا عم زرياب عشان نوصل للناس والشباب لازم نقدم لهم الموسيقى بالشكل الجديد اللي هما بيسمعوه… ده حتى الفلكلور بيتقدم بشكل عصري وبيجنن الناس برا… فيه الروح القديمة والجديدة.

استفاد عمرو من درايته بحكم النشأة بالفلكور البورسعيدي، وقدمه بشكل عصري في ألبوماته الأولى، «يا طريق – 1983» و«غني من قلبك – 1984»، و«هلا هلا – 1986»، و«خالصين – 1987».

وكما ذكر عمرو في برنامج الحلم، جاء المنتج تيمور كوتة له، عام 1987، لينبهه أن أغنية «لولاكي» هي الأنجح الآن، وعليه أن يسعى للتفوق عليها. وبالفعل بدأ عمرو في العمل على ألبوم ميال، الذي تجاوز فيه تجاربه السابقة، وكان بطل هذه المرحلة حميد الشاعري بتوزيعاته الحديثة. بدأ عمرو ينحاز لكلمات أبسط وربما أسطح، ولكنها تتوافق مع الألحان السريعة، التي هو بطلها بحسه الحلو وليس قوة صوته.

التخلص من الشعارات الكبرى

سيف لنور: أنا مش جبان ولا كلامك مش عاجبني… بالعكس أنا كلامك حبيته… بس نفسي أغني عن نفسي… عن حاجات تخصني… يمكن تكون بسيطة… يمكن تكون تافهة لكن حاسسها… عايز أصدق نفسي… عايز أبقى أنا بكل اللي جوايا… مش عايز أبقى بطل عايز أبقى سيف.

تخلص عمرو من زعيق الشعارات الكبرى، كما تخلص من لهجته البورسعيدية ليجيد اللهجة القاهرية للغناء، رافعًا من قيمة الرغبات الفردية البسيطة اليومية، والتي كانت بطل المرحلة، وضحى بالقضايا الوجودية الكبرى في المراحل السابقة، وكأنه ينتقم لنفسه وممن شجعه على اختياره في بداية مشواره الفني، ربما لرغبة في الاختلاف دون دراية بقواعد السوق.

ومثلما يرتبط المحتوى الموسيقي بوسيط التسجيل كالكاسيت في تلك المرحلة، يرتبط أيضًا بالمكان والمجتمع الذي يُقدم من خلاله، فمع ألبوم ميال الذي كان الأكثر مبيعًا عام 1988، بدأ عمرو في الانتقال من الملاهي الليلية التي كان يغني بها وعينه على الصالة ومن يُخرِج المال ليتوجه له، وانتقل للفنادق الخمس نجوم، واتخذ طريقًا يستهدف فيه جمهورًا أكبر بالتأكيد من جمهور منير من المثقفين، جمهورًا يدفع تذاكر مرتفعة السعر، وليس فقط يشتري الشريط ليسمعه ويستمتع به في منزله البسيط.

وفي حوار لعمرو مع مفيد فوزي بعد نجاح ألبوم ميال بشهور، يُصرِّح عمرو بانحيازاته الجديدة، خصوصًا بعد هجوم جيل الأساتذة عليه: مثل محمد الموجي ومحمد عبد الوهاب، وقولهم على جيله إنهم أبناء غير بررة وجيل بلا أساتذة وأغانيهم لا تصلح إلا للملاهي الليلية؛ لأنها مجرد موضة، وأن الجمهور قد مات، فيرد عمرو بأن هذا افتراء ويرصد أرقام المبيعات وجمهور الحفلات، ويقول إنه يريد التعبير عن نفسه فقط لأنه غير مسئول عن جيله بالكامل، فهو يريد أن يصنع موضة مستمرة وليس عابرة، وله وجهة نظر في الكلمة، فهو يرفض كلمات الأغاني التي تدِّعي الثقافة، ويميل إلى الكلمات البسيطة، ولكن الجديدة.

ورأى عمرو أن لجيله طابعًا مختلفًا ومتحررًا من قواعد الغناء السابقة، فليس هدفه التطريب التقليدي، وإنما ربما تقديم الأغنية المرحة التي يتفاعل معها الجمهور بالحركة، وفي أحد الفيديوهات في حفلاته أعتقد أنها في فترة قريبة من هذا الحوار، يغني عمرو أغاني لعبد الحليم مثل «زي الهوى» لكن بلحن وأداء مسرحي راقص ليعبر عن توجه هذا الجيل، فهو يحترم القديم لكنه يوظفه بشكل عصري، يُحب أن تتفاعل معه الناس بكامل حواسها وجسدها، ويفضل الغناء بملابس كاجوال مفتوحة وأماكن مفتوحة وليس ببدلة وكرافتة في قاعات مغلقة، لأنه يغني غناءً شبابيًّا شكلًا ومضمونًا.

عمرو دياب ذكي لأنه يُسمِع الناس ما يريدونه، لكن قبل ذلك هو يريده.
الموسيقار محمد عبد الوهاب عن لسان حلمي بكر في برنامج الحلم.

استمر عمرو من ألبوم «متخافيش – 1990» وصولًا لألبوم «راجعين – 1995»، حيث قدم في خمس سنوات 9 ألبومات، واستمر في تأكيد نجاح اختياراته الجديدة واهتمامه ليس فقط بشكل الأغنية النهائي بالتوزيع، ولكن أيضًا بشكله الخاص، وأنه يجب أن يكون له «لوك» خاص، وكذلك تصوير كليبات الأغاني بشكل جديد، حيث يظهر في كليب «راجعين» وكأنه قادم من المستقبل على عالم في الأربعينيات ليغير مجرى الحفلة الموسيقية بموسيقاه الجديدة، وباستثناء ألبوم «آيس كريم في جليم – 1992» الذي طُرحت أغانيه في الفيلم، لم يخرج عمرو عن قوالب أو قاموس كلمات معينة.

مرحلة «عالم الفن»

انتقل عمرو لمرحلة جديدة في الموسيقى والنجاح والشهرة تزامنًا مع تركه لشركة «صوت الدلتا» وتعاقده مع شركة «عالم الفن» لمحسن جابر في ألبوم «نور العين – 1996» التي أدخل فيها حميد الشاعري الدوف ودمجه بالشكل الأندلسي بالجيتارات، وصار هناك ازدياد في نفقات الإنتاج، من حيث التسجيل بالآلات الحية، ورصد ميزانية ضخمة لإنتاج الكليب، الذي أخرجه المخرج السينمائي «طارق العريان»، الأمر الذي أهَّل الأغنية وعمرو للحصول على الميوزك أوورد لأعلى مبيعات في المنطقة، ومع وصوله للعالمية أدرك عمرو وصوله لجمهور في مساحات جديدة، جمهور ينتظر الإبهار، فتعاون مع حميد الشاعري مرة أخرى في «عودوني – 1998»، التي دمجت أشكال موسيقية مختلفة من التركي بتوظيف القانون والعود، والخليجي بتوظيف الدفوف، والكلاسيك بتوظيف الكمنجات.

كما ازداد اهتمام عمرو بجمهور صالات الديسكو التي ترقص على أغانيه، فكانت «حبيبي ولا على باله» في ألبوم «أكتر واحد – 2001» أبرز مثال، حيث تم دمج موسيقى التكنو بالموسيقى الشرقية التي تشبه ألحان أم كلثوم، والتي فاز عنها بالميوزك أوورد للمرة الثانية. في هذه الفترة وصولًا لألبوم «علم قلبي – 2003» الذي ثبتَّ أقدام عمرو بالعالمية، فكانت مرحلة الذروة الفنية لموسيقاه التي تدمج الشرقي بالغربي بطرق مبتكرة.

مرحلة «مصر من فوق»

أنا هعمل منك نجم مصر الأول… بس أنت سيبلي نفسك خالص… صور… دعاية… أفيشات… مانشتات… جوه مصر وبره مصر، إلا بالمناسبة… أنت الچينز بتاعك ماركته إيه؟
– اشمعنى؟
لا لا يا حبيبي… الحاجات دي بتهم الناس… بتاكل إيه… بتشرب ايه… بتروح فين؟
– كل ده يهم الناس؟
طبعًا
– طب وفني؟
فنك إيه يا حبيبي؟ فنك ده بعدين… بعد ما آكل.

ربما كان هذا الحوار من المنتج لسيف، منهج شركات الإنتاج وخاصة روتانا، التي انضم عمرو لها من ألبوم «ليلي نهاري – 2004»، وأقصد بالمنهج فكرة الترويج لعمرو كسلعة مثل منتج بيبسي الذي كان نجم إعلاناته لسنوات، فهذا ينطبع على شكل الكليبات أيضًا التي ترتكز على مجرد الاستعراض لموضة أو رقصة أو ديكور وتجنب الشكل الدرامي الذي ربما لا تحمله الكلمات والرتم السريع، وربما كان هذا منهج عمرو نفسه، خصوصًا بعد أن صار منتجًا لنفسه بدءًا من عام 2015.

وقعت ألبومات عمرو في معضلة التكرار، والذي لم يقتصر على الكلمات، ولكن أيضًا الألحان والتوزيع، وصار جمهور عمرو من جيل «يا طريق» أو حتى «نور العين» يسمعون ألبومه أملًا أن يجدوا أغنية أو اثنتين بها من عمرو القديم، الذي يحمل «ريحة الحبايب».

لكن تناقضه الظاهر في التحولات أو المواقف المعلنة يجعلني أتساءل عن ماهية الذوق الفني الحقيقي له، ففي أحد حفلاته عام 2015 حينما يطلب منه الجمهور غناء «رصيف نمرة خمسة»، يسخر من الأغنية ويقول ما معناه: إنها أغنية بلا معنى ككلام مُدعي الثقافة، وإنها كانت في الفيلم للسخرية من هذه الطريقة في الكتابة. فهل كان يغني كلمات لا يفهم معناها كالممثلين الذين يؤدون أدوارًا لا يفهمونها؟ أم أنها مجرد سخرية للدعابة فقط؟ وهل ابتعد عن غناء هذه النوعية لإرضاء السوق فقط؟ أم أنه يفضل كما قال سيف كلامًا قد يكون بسيطًا أو سطحيًّا لكنه يعبر عنه؟

درس عمرو تجربة محمد عبد الوهاب كسيرة حياة وتعلم منه أن استثماره الوحيد يجب أن يكون في موهبته، لذلك كان طوال مشواره يتجنب القضايا والصراعات الكبرى، أو ربما يسير مع التيار، وأكبر مثال على موقفه السياسي هو أغنية «واحد مننا»، التي غناها لمبارك، وبعد نجاح الثورة تم تعديلها لتكون أغنية للشهداء.

عام 2016، يصدر عمرو كليب «القاهرة ونيلها»، والذي يظهر فيه وهو ينظر للقاهرة من فندق عالٍ، ويغني «القاهرة ونيلها وطول ليلها وأغانيها ومواويلها وحكاويها… آه يا جمالها»، ويستمر الكليب في استعراض الأماكن المجاورة للفندق والنيل كإبراز لمعالم القاهرة السياحية أو ربما استعراض لعمرو وشبابه وفرقته الموسيقية، والتي تختلف جوهريًّا عن قاهرة «رصيف نمرة خمسة» التي تشاهدها من العمق، والتي تُذكِّرنا بجملة عادل إمام في طيور الظلام:

البلد دي اللي يشوفها من فوق… مش زى اللي يشوفها من تحت.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.