«أمجد الزهاوي»: مركزية الضمير في الإفتاء والسياسة
المرجع الشيعي «آية الله السيد محسن الحكيم» متحدثًا عن الشيخ «أمجد الزهاوي»
في الأعوام المائة الأخيرة، تزاحمت الأحداث والنوازل بلا انقطاع، وبرزت في تلك الأحداث أسماءٌ لم تكن بالقدر ذاته من الزحام، غير أنها كانت علامات يصحّ التأريخ بها، تمامًا كما الأحداث. من بين هذه الأسماء، يأتي اسم علامة العراق ومفتيها النشِط الأسبق، الشيخ «أمجد الزهاوي»، ببصماتٍ لم تنمحِ في القانون التشريعي، وخبرات القضاء والإفتاء، وفي المواقف السياسية المؤثرة.
على درجات سلّم الحياة
ولد «أمجد الزهاوي» في بغداد عام 1300هـ/ 1883م، ونشأ في أسرة علمية ثرية، ذات مكانة اجتماعية مرموقة؛ إذ ينتهي نسبه إلى الأمير «سليمان باشا» مُنشئ مدينة السليمانية، الذي ينتهي نسبه بدوره إلى الصحابي «خالد بن الوليد». تلقّى تعليمه الأوّلي على يدي والده محمد سعيد – مفتي بغداد حينها- وجدّه محمد فيضي الزهاوي، ثم انخرط في مجالس العلماء ببغداد، بالتوازي مع دارسته الابتدائية والإعدادية، قبل أن يرحل للدراسة بكلية القضاء في إسطنبول وتخرّج منها بتفوق عام 1906م، ومنحه السلطان عبد الحميد الثاني وسام الشرف.
وفي الفترة (1907 – 1920م)، عُيِّن مفتيًا في الأحساء، ثم عضوًا في محكمة استئناف بغداد، ثم رئيس محكمة حقوق الموصل، ثم اعتزل الوظيفة مع تشكيل الحكومة العراقية الجديدة وعمل محاميًا بعد دخول القوات الإنجليزية إلى بغداد، وترافع مدافعًا عن الشيخ ضاري الزوبعي قاتل الكولونيل لجمن، وفي العام التالي عُيّن مستشارًا للحقوق في وزارة الأوقاف العراقية.
بعدها بـ 15 عامًا، أحيل إلى التقاعد لبلوغه السن القانونية، وترأس جمعية الآداب الإسلامية فور تأسيسها، وتفرغ للعمل الدعوي، ثم زار مصر وتعرّف على الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، وزار الزعيم المغربي عبد الكريم الخطابي.
ترأس عددًا من الجمعيات؛ منها جمعية التربية الإسلامية (1949م)، وجمعية الأخوة الإسلامية (1951)م، جمعية رابطة العلماء في العراق (1953م)، كما ترأس عددًا من المؤتمرات مثل مؤتمر العالم الإسلامي المنعقد في باكستان (1953م)، ومؤتمر العالم الإسلامي المنعقد في القدس (1954م).
في عام 1959م، هاجر إلى المدينة المنورة بسبب اشتداد حُكم عبد الكريم قاسم، وكان الزهاوي قد ترأس وفدًا من العلماء في العام السابق لمطالبة عبد الكريم قاسم بمنع الشيوعية من ممارسة نشاطاتها. ومن المدينة المنورة أرسل الزهاوي رسائل سياسية ودعوية إصلاحية واستنهاضية إلى الملك والرؤساء العرب والمسلمين.
وفي عام 1967م، الجمعة 17 نوفمبر تشرين الثاني (14 شعبان 1387هـ)، توفي علامة العراق أمجد الزهاوي ودُفِن بمقبرة الخيزران قرب مقبرة الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان في حي الأعظمية في بغداد.
الإفتاء وفق الشرع والضمير والقانون
في مقالة له بمجلة القضاء العراقية، عام 1924م، بعنوان «ما ينبغي أن يكون عليه القانون من الصفات»، أوضح الشيخ الزهاوي رؤيته للقانون التشريعي وأهميته، موضحًا أن التشريعات الفقهية والقانونية مهمة وضرورية لجعل الحياة بحالة أقرب إلى التكامل والسعادة، وينغي أن تكون القوانين الوضعية مبنية على أسس تكفل حقوق الأفراد والمجتمع على حد سواء، وخاصة فيما توجبه المصلحة الاقتصادية من توزيع عادل للثروة، وتلبية حاجات الإنسان الضرورية الآنية والمستقبلية التي تشكل أساس الحياة اليومية للمجتمعات.
ولأنه كان حنفي المذهب، فقد كان يقتصر في الإفتاء على مذهبه، إلا إذا وجد مصلحة أو ضرورة أفتى على مذهب الإمام الشافعي، وربما بغيره أحيانًا، وكان المذهبان الحنفي والشافعي هما السائدين في بلاد العراق في تلك الفترة.
غير أن الشيخ الزهاوي كانت له بعض اشتراطات في أمور القضاء تميل إلى التشدّد، منها ما ضمّنه قوله: «لو كنت قاضيًا وأتاني شاهد وعلمت بأنه يقطع الليل والنهار بالعبادة ولا يعمل للإسلام لرددتُ شهادته».
في معتركات الفكر والسياسة
في حياة الزهاوي المفعمة بالحركة، كانت القضية الفلسطينية همّه الأول والأخير، وشغله الشاغل طيلة حياته؛ لأنها في نظره قضية الإسلام الكبرى في هذا العصر، وقد حضر جميع المؤتمرات التي عقدت من أجلها في القاهرة ودمشق والقدس، وسافر من أجلها إلى معظم البلاد العربية والإسلامية، ولازم أول فوج من مجاهدي العراق إلى فلسطين، وزار الخطوط الأمامية بنفسه، وعاش المأساة على أرض الواقع، وكان رئيس المؤتمر الإسلامي لنصرة فلسطين.
وعلى مستوى أفقي أكثر اتساعًا، انشغل الشيخ الزهاوي بالعمل على وحدة الموقف العراقي الداخلي ضد الأخطار التي تستهدف مقومات المجتمع الدينية والثقافية؛ وذلك من خلال اتصاله بالقوى والمراجع الفقهية السنية والشيعية في شمال العراق وشرقه وغربه وجنوبه لتكوين موقف قوي وموحد ضد الاحتلال الإنجليزي.
وامتدّ انشغاله بفكرة الوحدة، إلى تبني فكرة «الاتحاد الإسلامي»، التي اعتبرها من الأهداف الضرورية، وقد أشار في رسالته إلى رئيس جمهورية باكستان محمد أيوب خان إلى «إن الذي يتحتم على قائد الأمة قبل كل شيء الأخذ بأسباب القوة، وإذا أردنا القوة لابد لنا من التحالف أو التعاون مع المسلمين في سائر أقطار الأرض». إضافة إلى مطالباته المتكرّرة لـ«ولاة الأمور» في الدول الإسلامية بالتعاون مع «دعاة الفكر الإسلامي» لتحقيق فكرة الاتحاد الإسلامي. ورغم أصوله الكردية، فلم يُعرف عنه تأييد الحركة السياسية الكردية الانفصالية داخل العراق في زمانه.
وقد صرّح الزهاوي برفضه لبعض الأيديولوجيات والأنظمة السياسية الوضعية الحديثة، كما في موقفه من الرأسمالية، التي يفسّر موقفه منها بقوله: «في النظام الرأسمالي، الإنسان كثيرًا ما يقع ضحية اللذة عندما يشغل نفسه بطلب الإثراء على حساب غيره أو أن الضرورة قد تلجئ الانسان إلى أن يرضى بهضم حقوقه أمام نزعة الإفراط في الجشع التي يراها في المجتمع».
الأمر ذاته في موقفه من الاشتراكية، التي – رغم إقراره ببعض المشتركات بينها وبين الإسلام- إلا أنه كان رافضًا لها، ومما يوضّح موقفه ذلك قوله: («إن التضامن في الإسلام مفروض بين أفراد العائلة بوجود النفقة مقابلًا بالإرث كما قال الله تعالى: «وعلى الوارث مثل ذلك» وبين جميع المسلمين بشرعية الزكاة، كما يكون التضامن في حالة الاضطرار وليس هذا من الاشتراكية في شيء كما يظن البعض».
تأليف الرجال وليس الكتب
ارتكزت الرؤيه النهضوية لدى الزهاوي على رافدين أساسيين:
تمثل الأول في فكرة «تربية وتعليم الأجيال»؛ انطلاقًا من حقيقة أن القوة المجتمعية لا تتأتى إلا بتربية النشء عليها من خلال تعاليم الدين ومنظومته القيمية، ورأى أن هذه مهمة العلماء بالمقام الأول، ولذا أسس «جمعية التربية الإسلامية» التي فتحت لها مدارس ابتدائية ومتوسطة وثانوية لتعليمهم وتربيتهم التربية الإسلامية السليمة، ودعا وزارات التربية في العالمين العربي والإسلامي إلى وجوب اعتماد أسس تربوية وأخلاقية عند وضع المناهج الدراسية، والسعي باستمرار إلى إعادة النظر في المناهج وتغييرها تبعًا للتغييرات التي تحصل في الحياة باعتبارها مسألة وطنية وشرعية.
ولذا، انصب تركيز الزهاوي على صناعة الرجال، ولم يلتفت كثيرًا إلى صناعة الكتب، لدرجة أنه لم يترك آثارًا كثيرة في ميدان التأليف، وكان يقول ما كتبه العلماء، ويرى أن ما قاموا به من التأليف فيه الكفاية، ولم يُذكَر عنه سوى كتابين:
1- «الوصايا والفرائض»، وهو كتاب في فقه الأحوال الشخصية بغداد، نشر عام 1925م.
2- «الفتاوى الزهاوية»، وهو مجموع فتاويه التي كان يجيبها عبر مجلة التربية الإسلامية خلال الفترة من 1959م وحتى 1967م، مرتبة ومبوبة على أبواب الفقه، جمعها حسن العاني، ونشرتها مطبعة العاني، بغداد، 1986م.
ورغم استناد الزهاوي على «ما كتبه العلماء»، إلا أن تلميذه الشيخ علي الطنطاوي، يذكر عنه: (بقيت معه أكثر من سبعة أشهر وكنت أجالسه كل يوم أربع ساعات أو خمسًا على الأقل، يتكلم فيها على الغالب وحده. وهذا يزيد – إن صح حسابي- على ألف ساعة، فما سمعت منه من الأحاديث المعادة أو الآراء المكررة إلا القليل).
أما الرافد الثاني، فقد تمثل في الاهتمام بالجانب الدعوي والتركيز عليه، وهو في هذا يؤكد: «مما يؤلمني أني قضيت أكثر عمري أعمل في أمور فقهية وقد غفلنا عن أمر عظيم جدًا وهو تبليغ هذه الدعوة المباركة إلى الناس لذا أطلب منكم أيها الشباب أن ترفعوا راية الدعوة إلى الله تعالى خفاقة عالية».
- موسوعة "علماء ومفكرون معاصرون"، المركز العربي للدراسات الإنسانية.
- الفتاوى الزهاوية، جمع حسن العاني، مطبعة العاني، بغداد، 1986م.
- العلامة المجاهد الشيخ أمجد الزهاوي شيخ علماء العراق المعاصرين، محمد محمود الصواف، دار الاعتصام، القاهرة، بدون تاريخ.
- الشيخ أمجد الزهاوي (1883- 1967).. دراسة في فكره السياسي الاسلامي، د. إبراهيم خليل العلاف، مجلة دراسات إقليمية، عدد 31، جامعة الموصل، 2013م.
- موسوعة أعلام القرن الرابع عشر والخامس عشر الهجري في العالم العربي والإسلامي، الجزء الثالث، إيراهيم بن عبد الله الحازمي، دار الشريف للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى، 1419هـ.
- من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة، عبد الله العقيل، دار البشير، القاهرة، الطبعة الثامنة، 2008م.
- زهر البساتين من مواقف العلماء والربانيين، الجزء الثالث، د. سيد حسين العفاني، دار العفاني، القاهرة، بدون تاريخ.
- رجال من التاريخ، علي الطنطاوي، دار البشير، القاهرة، الطبعة الأولى، 1998م.