اقتلوهم كلهم: حرب أمريكا السرية ضد داعش و«المدنيين»
بصورة غامضة ودون الكشف عن أي تفاصيل أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية، أواخر مارس/ آذار 2019، انتزاع السيطرة على الجيب الأخير لمقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، في قرية الباغوز فوقاني (محافظة دير الزور السورية)، مؤكدةً انتهاء ما عُرف بالخلافة المكانية للتنظيم، والتي أُعلنت منتصف عام 2014.
وخلف ستار «الانتصار المعلن» توارى العديد التفاصيل المهمة المتعلقة بكيفية سيطرة القوات الأمريكية وحليفتها الأقرب «قوات سوريا الديمقراطية» على «معقل داعش» الأخير، الذي ضم المئات من مقاتلي التنظيم وأسرهم وأطفالهم، الذين انحازوا إلى تلك البقعة الجغرافية بعد انسحابهم من الولايات المكانية التي أسسها في سوريا والعراق، لكن داعش حاول عبر ما تبقى من آلته الدعائية تصوير المعركة الأخيرة بأنها «معركة حرق يُستخدم فيها ما يُعرف وما لا يُعرف من أسلحة الدمار الشامل»، على حد تعبير متحدثه (السابق) أبي الحسن المهاجر، في كلمته الصوتية: «صدق الله فصدقه»، التي نشرتها مؤسسة الفرقان في مارس/آذار 2019.
لم تحظَ الرواية الداعشية بانتشار خارج الأوساط التنظيمية،وقتها، في خضم زخم عملية «تحرير آخر معاقل داعش»، والتي حظيت باهتمام رسمي وتغطية إعلامية واسعة، لكن بعد مرور أكثر من عامين كشفت تقارير صادرة عن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) حول الخسائر والأضرار المدنية في ساحة العمليات، بجانب تحقيقات أجرتها وسائل إعلام أمريكية وغربية (منها صحيفة النيويورك تايمز واسعة الانتشار)، أن الحملة الأمريكية والغربية لمكافحة الإرهاب شهدت تجاوزات واسعة النطاق، أدت لسقوط المئات من المدنيين.
إسقاط الخلافة بـ «القوات الخاصة»
وارتبطت التجاوزات واستهداف المدنيين في ساحة العمليات، بوجود وحدات سرية من القوات الخاصة الأمريكية والبريطانية وغيرها، على أرض المعركة، إذ أُنيط بتلك الوحدات مهمات متعددة، ضمن الحملة الكبرى لمكافحة الإرهاب التي أطلقتها دول التحالف الدولي لحرب داعش (عملية «العزم الصلب»)، منها تتبع واستهداف مجموعة القيادة العليا لتنظيم الدولة الإسلامية، وتقديم الدعم العملياتي واللوجيستي وتنسيق أعمال تدريب القوات الحليفة (قوات سوريا الديمقراطية وعدد من الألوية والفصائل الأخرى التي تشكلت في سوريا والعراق)، والقيام بعمليات الاستطلاع وتحديد إحدثيات الأهداف التي سيتم استهدافها من قبل طائرات التحالف الدولي.
وشاركت وحدات من قوات الخدمات الجوية البريطانية الخاصة (Special Air Service)، المعروفة اختصارًا بـ (SAS)، وقوات دلتا الأمريكية الخاصة (Delta Force)، في العمليات ضد تنظيم داعش، كما جرى إنشاء وحدات خاصة لنفس الغرض، منها فرقة العمل التاسعة (Task Force 9)، وفرقة تالون أنفيل (Talon Anvil)، المسئولة عن توجيه آلاف الغارات الجوية ضد التنظيم والمدنيين في سوريا (مسئولة عن إطلاق 112 ألف قنبلة وصاروخ ضد التنظيم)، وفق ما كشفته صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية.
ويكشف التدقيق في المعلومات المتوافرة عن مشاركة وحدات القوات الخاصة، في حرب ضد داعش، أن حكومات الولايات المتحدة وبريطانيا والدول الحليفة المشاركة في عملية العزم الصلب تحايلت على قرارات برلمانية بمنع المشاركة البرية في الحرب ضد التنظيم والاكتفاء بالمشاركة الجوية، وتعمدت إخفاء وحجب المعلومات عن شعوبها وبرلماناتها بشأن مشاركة قوات برية في العمليات العسكرية داخل سوريا والعراق.
ورغم إعلان تنظيم الدولة الإسلامية عن مشاركة وحدات من القوات الغربية الخاصة في العمليات ضده، منذ معركة استعادة السيطرة على عين العرب (كوباني)، التي سيطر عليها داعش في عام 2014 وخسرها أوائل عام 2015، وذلك في 3 أعداد منفصلة من صحيفته الأسبوعية النبأ (أعداد 64، و97، و98)، إلا أن الحكومات الغربية لم تعترف بتلك المشاركة إلا مضطرة، في عام 2019، بعد مقتل عدد من جنود تلك القوات، في عمليات قتالية داخل سوريا.
واعترفت أسبوعية «النبأ» أن الحملة الجوية المدعومة بعناصر القوات الخاصة أدت إلى «استنزاف قوات مقاتلي داعش بصورة تدريجية»، موضحةً أن تلك القوات لم تكن تشارك في عمليات الاشتباك المباشر ، وإنما تتقدم، حاملة عتادًا عسكريًّا خفيفًا وأجهزة اتصال وتوجيه ليزري متطورة، لتحديد مواقع مقاتلي داعش، ثم تستدعى الطائرات التي تقوم بقصف المواقع بصورة دقيقة، وذلك وفقًا لإفادة، أوردتها الصحيفة، لأحد عناصر القوات الخاصة الذين أسرهم التنظيم خلال إحدى العمليات العسكرية.
مهام متعددة
وكُلفت القوات الخاصة المشاركة في العمليات ضد داعش بمهام متعددة، ضمن عملية العزم الصلب، وذلك بالتنسيق مع قيادة التحالف الدولي، وقيادة الاستخبارات (الأمريكية والبريطانية وغيرها)، بالإضافة لقيادة القوات العراقية، والفصائل السورية المتحالفة مع الولايات المتحدة.
وفي هذا الإطار، أُنيط بفرقة العمل التاسعة «Task Force 9» قيادة عملية التدخل البري ضد معاقل داعش في سوريا والعراق، وتدريب قوات الحلفاء على الأرض، بجانب الإشراف على وحدة عمل سري من وحدات «كومندوز دلتا فورس»، جرى تكليفها بمطاردة قادة تنظيم داعش البارزين، وبالتوازي مع تلك الخلية، عملت إحدى خلايا فرقة العمل التاسعة، التي جرى إنشاؤها عقب تمدد التنظيم السريع في عام 2014، مع مجموعة من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في تعقب قادة داعش البارزين، واستخدمت الخلية الأخيرة تكنولوجيا استخبارية متطورة في عمليات تعقب ورصد الاتصالات والأفراد للوصول إلى الأمراء البارزين ضمن البناء الهيراركي لداعش، ويبدو أن الخلية الأخيرة هي التي نفذت عملية الإنزال الجوي في المنطقة الحدودية بين العراق وسوريا لاعتقال أبي علي الأنباري، القيادي البارز ونائب خليفة داعش (سابقًا)، في عام 2016، قبل أن يفجر «الأنباري» نفسه، وفق ما كشفته أسبوعية «النبأ» (عدد 43).
كما تولت عناصر قوات الخدمات الجوية البريطانية الخاصة، مهام عملياتية أخرى، منها تتبع الجهاديين البريطانيين والأوروبيين واستخدام «تكتيكات الإبادة» في التعامل معهم، خوفًا من عودتهم إلى بلدانهم أو توجيههم لهجمات الجهاديين المحليين، انطلاقًا من معاقل الخلافة المكانية (السابقة)، كما شارك عناصر من القوات البريطانية الخاصة أيضًا في عمليات عسكرية سرية ضد معاقل داعش وقياداته في سرت الليبية.
بينما تولت فرقة تالون أنفيل (Talon Anvil) الأمريكية تنسيق الإغارات الجوية ورصد الأهداف العسكرية ومراكز القيادة والسيطرة لتنظيم داعش، تمهيدًا لاستهدافها، وقُيد السماح بشن الغارات في بداية عمل الوحدة بموافقة جنرالات أمريكيين من خارج «دلتا فورس»، لكن بعد وصول الجنرال ستيفن تاونسند إلى قيادة قوة العمليات المشتركة (العزم الصلب)، جرى تغيير قواعد الاشتباك والسماح لضباط الصف الأمريكيين من ذوي الرتب المنخفضة (المناوبين في قيادة تالون أنفيل داخل قيادة «دلتا فورس»)، بإصدار أوامر شن الغارات الجوية، وفقًا لصحيفة النيويورك تايمز.
وبحسب الصحيفة، فإن أفراد الفرقة الأمريكية، المحاطة حتى الآن بهالة رسمية من السرية، عملوا بصورة غير تقليدية من داخل 3 مقرات غير معلنة في أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، وداخل مقر مصنع شهير للأسمنت في عين العرب السورية، بجانب مقر ثالث في المدينة السكنية بالقرية الخضراء، على الحدود العراقية السورية.
وعملت فرقة «تالون أنفيل» على جمع المعلومات الاستخبارية وتحديد الأهداف التي يتم قصفها، بناءً على إفادات العملاء والقوات الحليفة على الأرض، وعن طريق الاستطلاع الجوي الذي أجرته طائرات بدون طيار (درونز)، بجانب عمليات استخبارات الإشارة واعتراض الاتصالات في ساحة العمليات، وبعد تحديد الأهداف، كان يتم قصفها بواسطة طائرات الدرونز الأمريكية أو استدعاء الطائرات المقاتلة التابعة لقوة المهام المشتركة لتنفيذ عمليات القصف.
وامتاز عناصر الفرقة الأمريكية السرية بروتين خاص وغير تقليدي خلال عملهم، وذلك للمبالغة في إطار السرية المفروض حول «تالون أنفيل»، فلم يُفرض عليهم ارتداء الزي العسكري أو التعامل بالرتب الخاصة بهم، كبقية الوحدات المشاركة في العمليات، بل عمدوا إلى حضور مناوبتهم بزي وأحذية مدنية، والتعامل بالأسماء الأولى فقط، علاوة على عدم التقيد بالبروتوكول والقيود المتبعة في توجيه الضربات الجوية والتوسع في عمليات الاستهداف دون التفرقة بين المدنيين ومقاتلي داعش.
«ضد المدنيين»
إلى ذلك، تحايل عناصر «تالون أنفيل» على القواعد المتعلقة بحماية المدنيين في مناطق العمليات، مستغلين ثغرة في تلك القواعد تسمح لهم باتخاذ القرار بشن الهجمات الجوية تحت ذريعة «الدفاع عن النفس»، والذي يشمل حماية قوات الحلفاء (العراقيين والسوريين) في ساحة المعركة.
وسمح هذا التحايل لعناصر الفرقة السرية بشن العشرات من الهجمات ضد المدنيين، بناءً على رؤيتهم الذاتية، رغم اعتراض أفراد من المخابرات الجوية، والاستخبارات المركزية الأمريكية على النهج الذي ضاعف من عدد قتلى المدنيين بصورة كبيرة (تُقدر المصادر الأمريكية أن عدد المدنيين الذين قُتلوا في العمليات داخل سوريا والعراق منذ 2014، أكبر بـ 10 أضعف من نظرائهم المدنيين الذين قتلوا في أفغانستان خلال عقدين من الحرب في الدولة الأخيرة).
وفي بعض الأحيان، أقدم عناصر «تالون أنفيل» على توجيه ضربات مركزة ضد مبانٍ مدنية في قرى ومدن سورية، دون وجود أي من مقاتلي داعش، وذلك بدافع الرغبة في التخلص من كل الذخيرة (القذائف والصواريخ)، التي تُسلح بها طائرات الدرونز الأمريكية من طراز «براديتور» (الطائرة الحاصدة).
ورغم أن الممارسات الدموية لعناصر القوات الخاصة السرية الأمريكية جرى رصدها من قبل ضباط أمريكيين في الجيش والاستخبارات على حد سواء، وأُبلغ بها المفتش العام لوزارة الدفاع (مكتب مستقل مختص بالرقابة على العمليات العسكرية والتحقيق في برامج وعمليات البنتاجون)، إلا أن تلك الممارسات لم يتم التحقيق فيها بشكل دقيق أو إدانة مرتكبيها الذين يبقون، في الواقع، «مقاتلين أشباح» لا وجود لهم في سجلات العمليات العسكرية، رغم وجودهم الفعلي.
وعلاوة على عدم فتح تحقيقات جادة في «جرائم الحرب» ضد المدنيين في سوريا والعراق، ظلت الولايات المتحدة الأمريكية وقيادة قوات المهام المشتركة (العزم الصلب)، ترواغ، لسنوات، في الإقرار بمسئوليتها عن سقوط الضحايا المدنيين، وتنفي تقارير المنظمات الدولية التي تحدثت عن الضحايا المدنيين كتقارير مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ومنظمة هيومن رايتس ووتش، ومنظمة العفو الدولية، لكنها بدأت، مؤخرًا، الإقرار بمشاركة قوات خاصة ووحدات سرية في الحرب ضد داعش.
في محاولة منع داعش من العودة
على أن الإقرار بمشاركة القوات الخاصة في عمليات سرية ضد مقاتلي تنظيم داعش، صُوحب بحملة ترويج دعائية لتصوير تلك القوات بصورة إيجابية وإبرازهم كمقاتلين عالميين في مواجهة التهديد العابر للحدود الوطنية الذي يُمثله عناصر داعش، في العراق وسوريا، وحتى في أفغانستان التي أعلنت مصادر عسكرية بريطانية أن وحدة الخدمات الجوية الخاصة( SAS) ستتمركز ، على حدودها، بعد انسحاب القوات الأجنية من أفغانستان، لتنسيق وشن هجمات ضد مقاتلي ولاية خراسان (فرع داعش المحلي).
وفي حين يستعد عناصر القوات الخاصة السرية لخوض جولة أخرى من القتال ضد داعش، لمنعه من إقامة خلافة مكانية جديدة، يواصل التنظيم حشد مقاتليه وتذكيرهم بـ «ثارات الباغوز» وغيرها، متوعدًا بالعودة والانتقام في يوم من الأيام، بعد استنزاف خصومه عسكريًّا واقتصاديًّا، كما أعلن زعيمه (السابق) أبو بكر البغدادي، في لقائه المرئي الأخير (أبريل/ نيسان 2019)، بعد شهر واحد، من سقوط معقل داعش الأخير.