التاريخ المنسي: أمريكا تشعل حربًا أهلية في روسيا
يصدمنا التاريخ دائماً، يخبرنا بحكايات مخفية ربما لأنها لم تدم طويلاً أو لأنها جاءت في خضم حدث أكبر أخفاها عن العيون، وفي تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا بمراحلها المختلفة سواء كانت في عصر الاتحاد السوفيتي أو ما بعد الانهيار، فالصراعات المتباعدة وحروب الوكالة والمواجهات السياسية هي الحاضرة معظم الوقت، حيث إنه يصعب أن نعثر على كثير من المواجهات العسكرية المباشرة التي تواجه فيها الغريمان بشكل واضح.
الوضع مختلف هذه المرة، نحن في عام 1917 والحرب العالمية الأولى على وشك النهاية، الأوضاع في روسيا انقلبت رأسًا على عقب؛ البلشفيون قرروا الاستمرار في الثورة وإسقاط القيصر الروسي، أصبح القتل فعلًا متبادلًا بين الجيش كحامٍ للقيصر وعلى الضفة الأخرى المدنيون الذين استطاعوا الحصول على أسلحة من هنا وهناك.
يتبقى لنا في تلك المعادلة أن نتذكر أن روسيا لم تكن دولة منعزلة في حد ذاتها، فتحت مظلتها اندرجت 15 جمهورية كأوكرانيا وبيلاروسيا وأرمينيا وأوزبكستان وجورجيا وغيرها، لذا فالنيران المشتعلة في موسكو وما حولها لن تكون بمعزل عن التدخلات من الخارج، فوجود مجموعات من البلاد المندرجة تحت الحلف السوفيتي سيكون منطقياً، الآن صارت لدينا أرضية نبدأ منها قصتنا.
كيف بدأت الحكاية؟
يروي كارل ج ريتشارد وهو أستاذ التاريخ في جامعة لويزيانا في كتابه When United States Invaded Russia تفاصيل البداية، فالحرب العالمية الأولى والتي لقبت بالحرب العظمى ظلت لوقت طويل بعيدة عن مرمى الولايات المتحدة، التي كانت تعلن طوال الوقت أنها منعزلة عن الصراعات العالمية.
حتى جاء عام 1918 لتضغط أوروبا على الرئيس الأمريكي ويلسون للتدخل في الشق الروسي، وذلك لمنع أي تدخلات تركية تطال المناطق الشمالية من روسيا وكذلك لدفع الخطر الألماني حال تحركه ناحية الحدود الروسية الشمالية وسيبيريا.
جاء القرار الأمريكي في عام 1918 بإرسال وحدات عسكرية قوامها 13 ألف مقاتل أمريكي، قسمت ما بين 5500 مقاتل في الشق الشمالي من روسيا و8 آلاف مقاتل إلى سيبريا التي يمكن أن نعتبرها نقطة خطر في الخاصرة الروسية وبحاجة للتأمين حتى لا تكون بوابة خلفية لعملية عسكرية غير مأمونة العواقب، ومن الملاحظ أن هذه القوات كانت تحت قيادة بريطانية خالصة، ولم يكن للجنود فيها أي خيارات تنظيمية في العمليات العسكرية هناك، فالجنود الأمريكيون لم يكونوا هم أصحاب القرارات المتعلقة بالعمليات العسكرية وإنما اقتصر دورهم على المهام التنفيذية.
يفاجئنا ريتشارد، أن وجود القوات الأمريكية في تلك المواقع كان بالاتفاق مع البلشفيين، أي أنها لم تكن عملية غزو إجباري على غير رضا القيادة الروسية الجديدة، حيث إنه في الخامس من مارس (آذار) من العام نفسه أرسل ليون تروتسكي بصفته المسئول عن العلاقات الخارجية في الحزب الشيوعي الروسي برقية إلى قائد القوات الروسية بالتعاون مع القوات الأجنبية الموجودة في الشمال الروسي، لمواجهة الخطر الألماني.
حلفاء سابقون
جادل المؤرخون الأمريكيون كثيرًا في السبب الرئيسي لتحرك القوات الأمريكية نحو سيبيريا، وعلى الرغم من اختلاف النظريات الموضحة لذلك الحدث، فإن القليل منها يمكن الاسترشاد به لفهم التطورات اللاحقة في تلك القصة، وكيف تحولت إلى واحدة من التجارب العسكرية التي ستندم عليها الولايات المتحدة كثيراً، وستصبح من نقاط الفشل التي يُلام عليها الرئيس الأمريكي ويلسون.
النظرية الأولى وهي أن سيبريا في تلك المرحلة حوت ما يزيد على 700 طن من المؤن والإمدادات التي كان يخشى من سقوطها في يد الألمان، بخاصة وأن كثيراً من السجناء الموجودين في سيبريا في ذلك الوقت كانوا ألماناً، وهو ما يعني غرس شوكة عملاقة في خاصرة الحلفاء في ذلك الوقت.
أما عن النظرية الثانية، وهي أن التحرك الأمريكي كان موجهاً بشكل كبير تجاه الثورة البلشفية لأنها وكما اعتقد الرئيس الأمريكي ويلسون تسببت في انشقاق ضخم وحاد في صفوف الجيش السوفيتي، وذلك بعد ما أجبر القيصر جنود الجيش على قتل المدنيين، مما دفع كثيراً منهم للخروج من صفوف الجيش والانضمام للثورة، وقد كان ذلك خطراً كبيراً من وجهة النظر الأمريكية، فتفكك الجيش الروسي بمثابة فتح باب واسع أمام الألمان للسيطرة على كثير من النقاط المهمة في روسيا وكسب خطوة جديدة في الحرب.
كان الرهان الأمريكي خطأً والطريقة المتبعة في النهاية دفعت أمريكا ثمنها غالياً لتضاف إلى سجلات الفشل العسكري الأمريكي، فبحسب ما روى ريتشارد كان الجيش الروسي في أزمة سابقة بالفعل قبل حتى أن تقوم الثورة البلشفية، بجانب أن التدخل الأمريكي نفسه وقع في نقطة الحصار ولم يستطع أن يقدم أي دعم للجيش السوفيتي.
الأزمة الأكبر التي وقعت فيها الولايات المتحدة هي أنها وصلت إلى هناك بتنسيق مع البلشفيين أنفسهم، وتقديم الوعود لهم باعتبارهم حلفاء يعملون في الاتجاه نفسه للقضاء على الخطر الألماني المحدق بروسيا باعتبارها ضمن جيش الحلفاء، لكن الخدعة لم تنجح في الاستمرار طويلًا، ووجدت الكتائب الأمريكية نفسها محاصرة في أجواء جليدية صعبة يصعب الإبحار خلالها للخروج من جزيرة سيبريا، باختصار صار البلشفيون أصحاب الكلمة العليا بعد أن أصبح موقف المجموعة العسكرية الأمريكية صعبًا، في الوقت نفسه الذي كان الصدام فيه بين الدبلوماسية الأمريكية والروسية قد وصل إلى نقطة واضحة للعيان بالفعل.
بيض معبأ بالديناميت
مساء الرابع من أغسطس (آب) عام 1918 تفاجأ الجنرال الأمريكي ويليام جرافيز بوزير الدفاع نيوتن بيكر يطلب لقاءه في مدينة كنساس الأمريكية حاملاً خطاباً من الرئيس الأمريكي مباشرة يبلغه فيه بمهمته في روسيا، وقد تضمن الخطاب سياسة الولايات المتحدة المتبعة هناك.
وصل جرافيز في الرابع من سبتمبر (أيلول) إلى مدينة «فلاديفوستوك Vladivostok»، تقع بالشرق الأقصى لروسيا، صحبة مجموعة مكونة من 5000 جندي في مهمة تحت القيادة الإنجليزية في سيبريا.
بمجرد وصول جرافيز إلى هناك وجد الفوضى تسود المنطقة بأكملها، فالتشيكيون أزاحوا حكومة الحركة البلشفية لكنهم لم يخلقوا أي كيان إداري بديل هناك، فقد كان وجودهم في الأساس كقتال تطوعي بالمال بإيعاز من قوات الحلفاء في الحرب العالمية الأولى لخلق غطاء معقول للحلفاء في تلك النقطة الحيوية في العمق الروسي، وكان هناك القليل من أتباع القيصر ما زالوا يقومون ببعض الأدوار الإدارية بالفعل.
كان من المخطط بالنسبة للجنرال الأمريكي أن تكون القوات الموجودة هناك هم الأمريكيون واليابانيون وحسب، لكنه وجد صعوبة في السيطرة على مجريات المهمة بسبب الوجود المكثف لمجموعات عسكرية من الجيش الفرنسي والصيني كذلك، وبأعداد تقدر بالآلاف.
ماذا فعل الأمريكيون في سيبريا؟
ليس بإمكاننا القول إن دور القوات الأمريكية في سيبريا كان محوريًا أو مؤثرًا بقدر وجوده الثانوي، والذي خلق شكلاً من أشكال الاتزان مع القوى الأخرى الموجودة، فهو لم يفرض قوته للسيطرة على الأمور، لكنه كذلك لم يكن عاملاً مهملاً بالكلية.
في بداية وصول القوات الأمريكية إلى هناك وجد الجنرال رافيز نفسه بصدد اتخاذ قرار حماية المناجم باعتبارها واحدة من الموارد الموجودة في الجزيرة، ومن ثم وبعد أن راجع الجنرال جرافيز رسالة الرئيس ويلسون وجد أن مهمته هي دعم ومساعدة التشيكيين في مواجهة البلشفيين وإيقاف المد البلشفي الجديد إلى الجزيرة، لكن المفاجأة التي صدمت جرافيز وجنوده أن التشيكيين كانوا يتحركون بشكل فردي وبمنأى عن أي مساعدة مما خلق تهميشاً حاداً في الدور الأمريكي.
بحلول نوفمبر من عام 1918 وبعد توقيع اتفاق الهدنة بين الحلفاء والقوى المركزية في الحرب، ظل ويلسون متمسكاً ببقاء القوات الأمريكية في سيبريا لعدة أسباب منها المساعدة في وقف الحراك البلشفي باتجاه سيبريا، وثانياً منع تحقيق أي سيطرة كاملة لليابانيين على شمال سيبريا وجنوب منشوريا، وأخيراً وهو الجزء الأكثر تأثيراً فيما بعد محاولة الاستقرار على سياسة محددة للولايات المتحدة بشان روسيا، لا سيما بعد أن أرسل البلشفيون القيصر وزوجته وأبناؤه من موسكو إلى سيبريا وأعدموهم جميعاً وكذبوا على الشعب الروسي بإخبارهم أنهم أعدموا القيصر وحسب، وهو ما يعني استتباب الأمور لصالح لينين ورفاقه بشكل كامل، وهو ما يستدعي التفكير في الأجندة الأمريكية تبعاً للتغيرات الجديدة.
الفصل الأخير من الحكاية
يوم الثلاثين من أغسطس تعرض رئيس جهاز البوليس السري البلشفي للاغتيال وأصيب لينين برصاصة في كتفه، وصار البلشفيون يشعرون بالخطر بشكل واضح، فألقوا باللائمة على اليسار في روسيا وقبضوا على كثير من قياداتهم وتبعهم القبض على كثير من الأغنياء، وكذلك أبناء الطبقات المرتفعة اجتماعياً، ثم جاء الدور على اتهام بريطانيا بالتدبير لحوادث الاغتيال تلك، فتم التعامل بقوة مبالغة مع الدبلوماسيين البريطانيين ووصلت الدائرة بعد تلك التطورات بنحو عشرة أيام تقريباً إلى العاملين الأمريكيين هناك الذين طردوا بقرارات رسمية من الحزب الشيوعي، وحينها صار لدى ويلسون سبب يرفع بموجبه معارضته للبلشفيين، بخاصة بعد إعلانهم بصوت مرتفع أن الثورة البلشفية يجب أن تصل إلى مرحلة الاستقلال الكامل.
كان التضارب بين الفكر الأمريكي والروسي كذلك جزءاً من نهاية الحكاية، فالمراسلات ما بين الدبلوماسيين الأمريكيين والإدارة الروسية الجديدة تكشف عن مسارين مختلفين تماماً، فالبلشفيون يرون أن الثورة قامت لأجل مقاومة الفساد والفقر وسعياً لإعادة توزيع الثروة ووقف المرض الذي فتك بالروس بعد انهيار شبكة المواصلات وتوقف وصول المؤن إلى كثير من المدن، لكنهم في الوقت نفسه وضعوا مساراً لتنفيذ ذلك يضمن بشكل أساسي تركز السلطة في يد الحزب الشيوعي والامتناع عن أي دخول في ممارسات ديمقراطية كالانتخابات وتداول السلطة، وهو ما شكل تعارضاً واضحاً مع الحراك الأمريكي.
أما على الناحية الأخرى، فالولايات المتحدة أعلنت في مراسلاتها بشكل واضح أنها تسعى لمساعدة روسيا، لكنها ترى أن الديمقراطية يجب أن تكون مسار روسيا، وأن الولايات المتحدة تؤمن أن موسكو ديمقراطية من قلبها.
بإمكاننا أن نرى الفجوة بوضوح، البلشفيون يرون مساراً واضحاً لحراكهم السياسي والأمريكيون يرغبون في وضع أجندتهم الخاصة في مقابل تقديم المساعدة والدعم، ومن هنا اتسعت الفجوة مجدداً أكثر فأكثر.
أصبحت الأمور أصعب أكثر وأكثر على الأمريكيين بعد التأكد من إرسال الرئيس ويلسون دعماً مالياً يصل إلى 7 ملايين دولار للتشيكيين واستمراره في مساندتهم في مواجهة البلشفيين في سيبريا، حتى صار من الواضح بالنسبة للجيش الأحمر أن رحيل القوات الأمريكية أمر حتمي.
في التاسع عشر من يناير (كانون الثاني) عام 1919 بدأت القوات البلشفية هجماتها العسكرية على القوات الأمريكية المتركزة في الشمال، وقد كان هجوماً ضارياً استمر لسبعة أيام متوالية ظل فيها الأمريكيون يفرون من نقطة لأخرى، سقط منهم خلال تلك الهجمات أكثر من 235 جندياً قتيلاً، وكان المثير في الأمر أن القوات الأمريكية فشلت في تحقيق أي رد عسكري واضح على تلك الهجمات بسبب الطبيعة الجغرافية التي اعتمد عليها الروس لمعرفتهم الكاملة بها في حين أصبح الدور الأمريكي مقتصراً على الخروج بأقل الخسائر الممكنة.
في الوقت كانت ثمة معركة اشتعلت في واشنطن، حيث بدأ أعضاء الكونجرس في تقديم استجوابات وتساؤلات واضحة بشأن بقاء الجنود الأمريكيين في روسيا بعد نهاية المعارك والحرب العالمية ووصول الأمر إلى نقطة لم يعد فيها الوجود الأمريكي يشكل فارقاً، فكان القرار بأن عملية سحب الجنود من هناك ستبدأ بمجرد حلول الربيع حتى تصبح الأجواء المناخية مناسبة للحركة والتنقل بسبب البرودة الشديدة المسيطرة على الأجواء هناك.
وبالفعل بحلول الخامس عشر من يونيو (حزيران) عام 1919 كان آخر جندي أمريكي قد رحل من الشمال الروسي وسيبيريا لتغلق واحدة من الصفحات الغامضة في تاريخ العسكرية الأمريكية حوت بداخلها فقدان البوصلة والتشتت والحركة من دون هدف واضح.
بدا وأن الأمور دانت للحركة البلشفية بالانسحاب الأمريكي، لا سيما وأن الوجود الأمريكي كان نيابة عن بريطانيا العظمى والحلفاء، وبتلك الهزيمة المحققة انكسرت آمال بريطانيا في خلق باب خلفي للطعن في ظهر البلشفيين.