محتوى مترجم
المصدر
Jacobin
التاريخ
2020/10/1
الكاتب
جويل بينين

توفّي في مثل هذا اليوم -28 سبتمبر/ أيلول- قبل 50 عاماً جمال عبد النّاصر، رئيس مصر من 1954 إلى 1970 وبطل القوميّة العربيّة والاشتراكيّة العربيّة ومناهضة الإمبرياليّة في عصر القضاء على الاستعمار عالميّاً.

كان عبد النّاصر أوّل حاكم محلّيّ لمصر منذ كليوباترا. واعتَقدَ أنّه تحدّث باسم -وفهم بشكل عميق- مصالح شعبه. لقد خاطب الزّعيم المصريّ شعبه بلغة شبه عاميّة غير مزخرفة وحثّه قائلاً: «ارفع رأسك يا أخي».

وكان التّوازن بين الموافقة والرّضوخ والإكراه في صناعة مشروع عبد النّاصر غير مؤكّد وتغيّر بمرور الوقت. والبعض – مثل خليفته، أنور السّادات (1970-1981)، والأديب الّليبراليّ الشّهير توفيق الحكيم – دعمه في السّلطة، لكن ندّد به على أنّه ديكتاتور بعد موته. ووصف الماركسيّون عبد النّاصر بأنّه فاشيّ في أوائل الخمسينيّات، لكنّهم أشادوا به في السّتينيّات وحتّى بعد وفاته.

جمهوريّة الضّباط

يعتبر التّحوّل السّياسيّ في مصر من ملكيّة دستوريّة أرستقراطيّة إلى «جمهوريّة ضبّاط» إرث عبد النّاصر الأكثر ديمومة. فشكل النّظام هذا يستمرّ بالرّغم من إعادة تنظيم سياسات مصر الدّاخليّة والخارجيّة، والتّحوّلات في ميزان القوى بين عناصر كتلتها الحاكمة – الجيش وجهاز الأمن الدّاخليّ وبرجوازيّة الدّولة و، منذ السّبعينيّات، الرّأسماليّون المحسوبون على القطاع الخاصّ.

ومنذ منتصف الخمسينيّات حتّى (وحتّى بعد) وفاته، ألقت كاريزما عبد النّاصر الشّخصيّة وجاذبيته للقوميّة العربيّة بظلالهما الطّويلة على السّياسة العربيّة. وبالتّالي، أنشأت مصر النّموذج للجمهوريّات العسكريّة الّتي وصفت نفسها بأنّها مناهضة للإمبرياليّة أو اشتراكيّة في سوريا والعراق والجزائر وشمال اليمن وليبيا والسّودان – والّتي كانت كلّها دولاً تسلّطيّة امتلكت أجهزةً أمنيّةً داخليّةً قمعيّةً لمراقبة المجتمع والثّقافة والحياة الفكريّة وسحقت كلّ حركات المعارضة.

لماذا اعتبر العديد من الماركسيّين في عصر القضاء على الاستعمار مصر عبد النّاصر والأنظمة المماثلة في الجنوب العالميّ تقدميّةً أو حتّى اشتراكيّة؟ كان القضاء على الاستعمار هو الدّيناميكيّة التّاريخيّة الرّئيسة لهذه الحقبة. ولم يَفهم اليسار العالميّ جيّداً البنى الاجتماعيّة المحلّيّة للأنظمة المناهضة للإمبرياليّة ولم يُناقش هذه القضيّة بجدّيّة. وقد روّج الاتّحاد السّوفيتيّ لأوهام حول حلفائه في الحرب الباردة، ممّا شجع ميلاً إلى تجاهل التّمييز بين سياسة خارجيّة مناهضة للإمبرياليّة واستبداد محليّ.

في العديد من بلدان الجنوب العالميّ، كانت الجيوش أكبر المؤسّسات انضبطاً وحداثةً على المستوى الوطنيّ. وغالباً ما تحالفت مع (أو حتّى قادت) قوى مناهضة للاستعمار، وكانت في وضع جيّد للاستيلاء على السّلطة باسمها ثمّ قمع المعارضة باسم الوحدة ضدّ العدوّ الإمبرياليّ. وكثيراً ما كان النّاصريّون ينشرون شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» (ضدّ إسرائيل) على هذا النّحو. والانقسامات العميقة في اليسار حول كيفيّة فهم سوريا بشار الأسد اليوم تُعدّ إرثاً تاريخيّاً لهذه الدّيناميكيّة.

جيل عبد النّاصر

انتمى عبد النّاصر إلى المجموعة الأولى من طلّاب الطّبقة الوسطى الدّنيا الّذين قُبلوا في الأكاديميّة العسكريّة في عام 1936. وقد أدّت المعاهدة الأنغلو-مصريّة في ذلك العام إلى تقليص نطاق الاحتلال العسكريّ شبه الاستعماريّ الّذي ثُبّت بعد الغزو البريطانيّ لمصر عام 1882. ومع ذلك، انتصرت المصالح البريطانيّة على أهم القضايا، كما كشفت حادثة 4 شباط/فبراير 1942.

في ذلك اليوم، بينما كانت قوّات المارشال الألمانيّ إروين روميل تتقدّم نحو الإسكندريّة، حاصرت الدّبابات البريطانيّة القصر الملكيّ في القاهرة. وخطى السّفير البريطانيّ نحو القصر وطالب الملك فاروق إمّا بالتّنازل عن العرش أو إقالة الحكومة الحالية، الّتي اعتبرها البريطانيّون متعاطفةً للغاية مع قوّات المحور، ودعوة مصطفى النّحاس، زعيم حزب الوفد المناهض بشدّة للفاشيّة، لتشكيل حكومة جديدة. وما كان إلّا أن استسلم فاروق.

بعد الحرب العالميّة الثّانية، واصلت القوّات البريطانيّة احتلال منطقة قناة السّويس. وهكذا، نضج عبد النّاصر وجيله سياسيّاً في النّضال لتحقيق «الجلاء التّامّ» للقوّات البريطانيّة و«الاستقلال الكامل» لمصر.

اعتقدَ عبد النّاصر أنّ على الجيش أن يأخذ زمام المبادرة لطرد البريطانيّين، وتدمير قوّة المتعاونين المحلّيّين معهم، وإصلاح السّياسة والمجتمع. ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، بعد هزيمة مصر المُهينة في الحرب العربيّة الإسرائيليّة عام 1948، شكّل عبد النّاصر وقادَ حركة الضّباط الأحرار.

في 23 تمّوز/يوليو 1952، نفّذ الضّباط الأحرار انقلاباً عسكريّاً شبه لادمويّ ضدّ الملك فاروق. وبعد ثلاثة أيّام، أمروا فاروق بالتّنازل عن العرش والرّحيل عن مصر. وباستثناء الطّبقة الحاكمة – النّظام الملكيّ وكبار ملّاك الأراضي وطبقة رجال الأعمال في المناطق الحضريّة ومعاونيهم القانونيّين والصّحافيّين – رحّب معظم المصريّين بـ «الحركة المباركة» للضّباط، كما وُصفت.

اختبارات الضّغط

كان عبد النّاصر والغالبيّة العظمى من الضّباط الأحرار مناهضين للشّيوعيّة بشكل حازم. وكان العديد منهم، وأشهرهم أنور السّادات (ولفترة وجيزة عبد النّاصر نفسه)، أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين قبل انضمامهم إلى الضّبّاط الأحرار. وفي المقابل، كان أحد قادة الطّغمة العسكريّة، خالد محيي الدّين، والعديد من الضّباط من ذوي الرّتب الدّنيا مقرّبين من الحركة الدّيمقراطيّة للتّحرّر الوطنيّ (حدتو).

في البداية، دعمت كلّ من حدتو وجماعة الإخوان المسلمين الانقلاب (وعارضته كافّة المنظّمات الماركسيّة الأخرى). ومع ذلك، أصبحت كلتا الجماعتين أعداء له في غضون عام، وبالتّالي عانى أعضاؤهما السّجن والتّعذيب المتكرّر.

جاء أوّل اختبار ضغط للنّظام الجديد في شكل مواجهة دمويّة مع عمّال النّسيج المضربين في مصنع كبير على بعد خمسة عشر ميلاً جنوب الإسكندريّة، ممّا كشف خوف النّظام من المبادرات الشّعبيّة. ففي 13 آب/أغسطس 1952، تدخّل الجيش لقمع الإضراب. وردّ الجنود على طلقات مجهولة المصدر بإطلاق النّار على العمّال المتظاهرين الّذين كانوا يردّدون شعارات مؤيّدة للنّظام الجديد، ممّا أدّى إلى وقوع إصابات في كلا الجانبين.

حشدت الطّغمة العسكريّة، الّتي كانت حريصةً على طمأنة السّفارة الأمريكيّة بأنّها ليست شيوعيّة، تسعة وعشرين عاملاً أمام محكمة عسكريّة نُصبت على عجل. وتمّت إدانة عامليْن، هما مصطفى خميس ومحمّد البقريّ، بجريمة القتل العمد مع سبق الإصرار وكونهما شيوعيّين. وحَكمت عليهم المحكمة بالإعدام. ربّما كان خميس ماركسيّاً، لكنّه لم يكن حاضراً عندما أُطلقت النّيران؛ أمّا البقريّ فلم يكن ناشطاً. وفي 7 أيلول/سبتمبر 1952، نُفّذ حكم الإعدام في الرّجلين.

الاستصلاح الأراضي

في عام 1952، كانت مصر دولة زراعيّة بأغلبيّة ساحقة. وكان مصدر ثروتها الرّئيس زراعة وتصدير القطن عالي الجودة. وعانت الغالبيّة العظمى من سكّان الرّيف سوء التّغذية والأمّيّة والأمراض – خاصّةً داء البلهارسيا، الّذي أصيبوا به من الطّفيليّات الّتي تعيش في المياه الرّاكدة للتّرع، حيث عملوا حفاة القدمين لساعات كلّ يوم عمل.

في الأعوام الأخيرة من الحكم الملكيّ، تركّزت الثّروة والسّلطة السّياسيّة في أيدي اثني عشر ألف أسرة كبيرة من ملاك الأراضي الّذين شكّلوا أقلّ من 0.5% من سكّان الرّيف وامتلكوا حوالي 35% من الأراضي الصّالحة للزّراعة. وفي الجزء السّفليّ من البنية الطّبقيّة الزّراعيّة، لم تمتلك 60% من كافّة الأسر الرّيفيّة أو تستأجر أراضٍ وكان عليها العمل بأجر، في حين امتلكت مليونا أسرة، 72% من كافّة ملّاك الأراضي، أراضٍ مساحتها أقلّ من فدّان واحد، وهو ما كان بالكاد كافياً للعيش.

وعد برنامج الضّبّاط الأحرار بالقضاء على «الإقطاع»، وهو مصطلح غير دقيق يصف السّلطة الاقتصاديّة والسّياسيّة لكبار ملّاك الأراضي. ومن أجل تحقيق ذلك، أصدروا مرسوماً متواضعاً بالإصلاح الزّراعيّ – أقلّ راديكاليّة من تدابير مماثلة تمّ تبنيها تحت إشراف الولايات المتّحدة في اليابان وكوريا الجنوبيّة وتايوان بعد الحرب العالميّة الثّانية.

وقد حدّد قانون إصلاح الأراضي الصّادر في 9 أيلول/سبتمبر 1952 الملكيّة الفرديّة بـ 200 فدان و300 فدان للأسرة – وهي حيازات كبيرة جدّاً وفقاً للمعايير المصريّة. في البداية، خسر حوالي 1,700 من ملاك الأراضي، بما في ذلك 425 فرداً من العائلة المالكة، 10 في المائة من الأراضي الصّالحة للزّراعة في مصر. وبحلول عام 1970، أُعيد توزيع 15 في المائة من الأراضي الصّالحة للزّراعة. وانخفض عدد السّكان المعدمين إلى 43 في المائة من الأسر الرّيفيّة، وتضاعفت حصّة الدّخل الزّراعيّ الّذي يحصل عليه العمّال بأجر ومن امتلكوا أقلّ من 5 أفدنة.

كان الفلّاحون المتوسّطون والأغنياء الّذين لديهم إمكانيّة الحصول على الائتمان لشراء أراض إضافيّة المستفيدون الرّئيسون من إعادة توزيع الأراضي. وتمثّلت الأحكام الرّئيسة للقانون الّتي رفعت مستوى المعيشة في الرّيف في تحديد الإيجارات الزّراعيّة، بما لا يزيد عن سبعة أضعاف قيمة الضّريبة السّنويّة على الأرض، ووضع حدّ أدنى للأجور الزّراعيّة.

زعيم عالميّ

أدّى الإصلاح الزّراعيّ وحظر الأحزاب السّياسيّة للنّظام القديم في كانون الثّاني/يناير 1953 إلى كسر قوّة الطّبقة الحاكمة في مصر في العهد الملكيّ. والآن وقد رأت الطّغمة العسكريّة نفسها قيادةً ثورية، أطلقت على نفسها اسم مجلس قيادة الثّورة.

ومع ذلك، لم يكن للثّورة سياسةً اقتصاديّةً متماسكةً أو أيديولوجيا سياسيّة. فهي لم تُنصّب في السّلطة من قِبل حزب أو حركة اجتماعيّة شعبيّة؛ ولم تكن مسؤولة أمام أيّ حركة من هذا القبيل. وقد عزّز عبد النّاصر السّلطة في يديه من خلال التّفوّق على منافسيه في آذار/مارس 1954. وحظي بتفوّقه بعد عدّة أشهر عندما حقّق وعداً كبيراً بتوقيعه معاهدةً تضمن إجلاء القوّات البريطانيّة بحلول حزيران/يونيو 1956.

يمكن القول إنّ دور عبد النّاصر بوصفه قائداً للعالم العربيّ ونضال الجنوب العالميّ – الّذي أُشير إليه بعد ذلك باسم العالم الثّالث – لصياغة بديل لتأطير الحرب الباردة للسّياسة الدّوليّة كان أكثر أهميّة تاريخيّاً من إنجازاته المحلّيّة.

لقد دعم دون تردّد جبهة التّحرير الوطنيّ الجزائريّة عندما شنّت حرباً من أجل الاستقلال عن فرنسا في 1 تشرين الثّاني/نوفمبر 1954، حيث زوّد الحركة بمكتب في القاهرة ومحطّة إذاعيّة وتدريب وأسلحة. وعبر إذاعة مصر القويّة «صوت العرب»، في أوائل عام 1955، أذاع عبد النّاصر نداءات مباشرة للشّعوب العربيّة، تجاوز فيها حكوماتها، وحثّ الشّعوب على رفض حلف بغداد المناهض للسّوفيت وذي الرّعاية الأنغلو-أمريكيّة. وقد أفسدت هذه المداخلة الالتزام المخطّط له من جانب الأردن ولبنان والمملكة العربيّة السّعوديّة (بالرّغم من انضمام كلّ من تركيا والعراق).

ظهر عبد النّاصر لأوّل مرّة على المسرح العالميّ في نيسان/أبريل 1955 في مؤتمر باندونغ للدّول الآسيويّة والأفريقيّة. وجاء الإلهام لتجمّع باندونغ من مبادئ «الحياد الإيجابيّ» الّتي روّج لها الرّئيس الإندونيسيّ سوكارنو ورئيسا وزراء الهند والصّين، جواهر لال نهرو وتشو إنلاي. واقترح الحياد الإيجابيّ نظاماً عالميّاً قائماً على مناهضة الاستعمار وعدم الاعتداء وعدم التّدخّل المتبادل في الشّؤون الدّاخليّة كبديل لتكتّلات الحرب الباردة.

وبالرّغم من أنّ مؤتمر باندونغ يُذكر عموماً على أنّه أكثر راديكاليّة ممّا كان عليه في الواقع، فإنّه يرمز إلى ظهور العالم الثّالث باعتباره قوّةً سياسيّةً دوليّة. وقد أسهم عبد النّاصر في تشكيل هذا التّيار التّاريخيّ وركب الموجة بنجاح لأكثر من عقد.

المواجهة بشأن السّويس

بالرّغم من معاداة عبد النّاصر للشّيوعيّة، رفضت إدارة دوايت أيزنهاور بيع أسلحة إلى مصر. وشجّع تشو إنلاي عبد النّاصر على التّحوّل إلى الكتلة السّوفيتيّة، وفي 27 أيلول/سبتمبر 1955، أعلنت مصر عن صفقة أسلحة مع تشيكوسلوفاكيا، وهي أوّل عمليّة بيع أسلحة من قِبل أيّ قوّة غير غربيّة لدولة شرق أوسطيّة.

على أمل جذب مصر للعودة إلى المعسكر الغربيّ، وافقت الولايات المتّحدة وبريطانيا على تمويل بناء السّد العالي في أسوان، وهو مشروع تنمويّ حظي بأولويّة قصوى ويمكن مقارنته بهيئة وادي تينيسي [في الولايات المتّحدة]. لكن النّظرة المانويّة لوزير الخارجيّة جون فوستر دالاس لم تستطع تحمّل دعوة عبد النّاصر المستمرّة وممارسته للحياد الإيجابيّ. وفي 18 تمّوز/يوليو 1956، تراجع دالاس عن عرض الولايات المتّحدة في رسالة مهينة متعمّدة لمصر.

ردّ عبد النّاصر بجرأة أكثر ممّا توقعه أيّ شخص بتأميم قناة السّويس. وكانت القناة شركة امتياز تملكها وتديرها شركة متعدّدة الجنسيات مقرّها في باريس والّتي امتلكت الحكومة البريطانيّة 44 في المائة من أسهمها. وقد حمّس إعلانه الشّعب المصريّ والمنطقة العربيّة والعالم الثّالث بأسره:

كانت قناة السّويس رمز للاستبداد ورمز للاغتصاب ورمز للإذلال. اليوم، أيّها المواطنون، تمّ تأميم قناة السّويس… دخْل قناة السّويس 35 مليون جنيه [مصريّ] – 100 مليون دولار في السّنة أو 500 مليون دولار في خمس سنوات. ولذلك، لا نحتاج إلى التّفكير في الـ 70 مليون دولار من المساعدات الأمريكيّة أو البريطانيّة. بهذا، نشعر بالفخر، نشعر بالكرامة، ونشعر أنّنا حقّاً نبني وطننا كما نريد… نبني ما نريد، ونفعل ما نريد.

كانت فرنسا تزوّد إسرائيل بالدّبابات والطّائرات والتّكنولوجيا النّوويّة منذ عام 1954، ويرجع ذلك جزئيّاً إلى أنّ دعم مصر لاستقلال الجزائر قد أثار غضب فرنسا. وردّاً على تأميم القناة، أقنعت الحكومة الفرنسيّة بريطانيا بالانضمام إلى التّحالف الفرنسيّ الإسرائيليّ في مهاجمة مصر في 29 تشرين الأوّل/أكتوبر 1956 – «العدوان الثّلاثيّ» كما يسمّيه المصريّون.

احتلّت إسرائيل بسهولة قطاع غزّة وشبه جزيرة سيناء وأعلنت عزمها ضمّ هذه الأراضي. لكن الضّغوط الأمريكيّة والسّوفيتيّة أجبرت إسرائيل وحلفائها الأوروبيّين على الانسحاب. وبالرّغم من هزيمتها العسكريّة، خرجت مصر من الحرب غير منحنية وسيطرت على قناة السّويس – وكان ذلك نصراً سياسيّاً هائلاً. تفوّق عبد النّاصر على الحكّام العرب الّذين قَبِلوا بخنوع الهيمنة الغربيّة الاستعماريّة أو ما بعد الاستعماريّة.

سعى القادة السّياسيّون في سوريا إلى الاستفادة من هيبة عبد النّاصر من خلال عرض الاتّحاد مع مصر. وعلى مضض، تولّى عبد النّاصر مسؤوليّة سوريا الحَرُون؛ لقد شعر بضرورة الموافقة على الاتّحاد المقترح للحفاظ على قيادته في العالم العربيّ ومثال الوحدة العربيّة. وتأسّست الجمهوريّة العربيّة المتّحدة في شباط/فبراير 1958.

الاشتراكيّة العربيّة

شرع عبد النّاصر، دون خطّة في البداية، في بناء قطاع عامّ كبير بتأميم ممتلكات كافّة المواطنين البريطانيّين والفرنسيّين والبلجيكيّين بعد العدوان الثّلاثي. ثمّ في عام 1960، وبسبب امتناع طبقات الأعمال المحلّيّة عن الاستثمار في الصّناعة، قام عبد النّاصر بتأميم بنك مصر وكافّة ما يرتبط به من أعمال صناعيّة وماليّة وتجاريّة وتبنّى خطّةً خمسيّة.

أدّت «المراسيم الاشتراكيّة» الصّادرة في تمّوز/يوليو 1961 إلى تأميم معظم المشاريع غير الزّراعيّة وخفض سقف ملكيّة الأرض الزّراعيّة للفرد إلى مائة فدان (ثمّ خمسين فداناً في عام 1969). وفي عام 1962، أعلن الميثاق الوطنيّ الاشتراكيّة العربيّة على أنّها الأيديولوجيا الرّسميّة للدّولة وأنشأ الاتّحاد الاشتراكيّ العربيّ حزباً وحيداً لها.

وقد سعت الاشتراكيّة العربيّة، مثل الاشتراكيّة الأفريقيّة وأنواع الاشتراكيّة الأخرى المعادية للماركسيّة في العالم الثّالث، إلى التّنمية الاقتصاديّة على غرار النّموذج السّوفيتيّ للتّصنيع السّريع مع رفع مستوى استهلاك الطّبقات الشّعبيّة. ولم يكن لدى مصر رأس مال كافٍ لتحقيق هذا المشروع دون مصادرة أملاك كبار ملّاك الأراضي والسّعي إلى إصلاح زراعيّ أكثر راديكاليّة. لكن عبد النّاصر عارض حشد الأغلبيّة الفلاحيّة من أجل صراع طبقيّ ضد أركان النّظام القديم.

لقد قلّدت الاشتراكيّة العربيّة المصريّة العديد من الجوانب الأخرى للحكم السّوفيتيّ، بما في ذلك ممارساته الأكثر فظاعة المناهضة للدّيمقراطيّة. وأصبح الضّبّاط ذوو الرّتب العليا وأصحاب الخبرة الاقتصاديّة الضّئيلة مديرين لشركات كبيرة في القطاع العامّ، ممّا شكّل في كثير من الأحيان برجوازيّةً حكوميّةً غير كفؤة أو فاسدة.

حسّنت الاشتراكيّة العربيّة حياة العاملين في المؤسّسات العامّة وجهاز الدّولة البيروقراطيّ، الّذين حصلوا على وظائف ثابتة ومزايا اجتماعيّة مثل الرّعاية الصّحيّة والمعاشات التّقاعديّة. وتلقّى كافّة المصريّين السّلع الأساسيّة المدعومة والتّعليم العام المجانيّ من رياض الأطفال إلى المستوى الجامعيّ، بينما حصل أطفال العمّال والفلاحين على قدر أكبر من التّعليم العالي.

حدود النّاصريّة

ومع ذلك، ظلّت هناك تفاوتات واسعة في الثّروة. ولم تتغيّر علاقات الإنتاج على أرض المصنع كثيراً؛ في بعض الحالات، حلّت السّلطويّة العسكرتاريّة محلّ أبويّة القطاع الخاصّ. وسيطر الفلّاحون الأغنياء على الرّيف، وكثيراً ما مارسوا بشكل اسميّ إكراهاً غير قانونيّ ضدّ الفلّاحين الفقراء والعمّال الزّراعيّين.

كان الماركسيّون المصريّون قليلين للغاية، ومنفصلين للغاية، وبعيدين للغاية عن الأغلبيّة الفلّاحيّة بحيث لم يتمكّنوا من طرح بديل لنظام عبد النّاصر. ونشر العديد من الماركسيّين المصريّين المقيمين في فرنسا انتقادات مطوّلة للاشتراكيّة العربيّة النّاصريّة، مثل أنور عبد الملك وسمير أمين ومحمود حسين. لكن مزيجاً من القمع والتّفكير بالتّمنّي والالتزام بالخطّ السّوفيتيّ القائل بأنّ مصر كانت على «طريق التّنمية غير الرّأسماليّ» أعاقت القدرات النّقديّة لأولئك الّذين يعيشون في مصر نفسها.

وفي 1 كانون الثّاني/يناير 1959، قام نظام عبد النّاصر بسجن كلّ شيوعيّ مصريّ تقريباً، وقد تعرّض هؤلاء للتّعذيب القاسي حتّى الإفراج عنهم في عام 1964. ومع ذلك، من معسكرات الاعتقال الصّحراويّة، أشاد الشّيوعيّون بـ «المراسيم الاشتراكيّة». ومن خلال تبنّيه الاشتراكيّة العربيّة دون مشاركتهم، نجح عبد النّاصر في التّغلّب على الشّيوعيّين وجعلهم غير ضروريّين. وحلّ الحزبان نفسيهما عام 1965 بعد أن بلغ المشروع النّاصريّ حدوده.

دفعت المراسيم الاشتراكيّة إلى تحالف طبقة رجال الأعمال في سوريا وجيشها للتّمرّد والانفصال عن الجمهورية العربيّة المتّحدة في أيلول/سبتمبر 1961. وفي العام التّالي، ومن أجل تعزيز مكانته في السّاحة العربيّة، شجّع عبد النّاصر على انقلاب من قِبل الضّباط الأحرار في شمال اليمن ضدّ الإمام الملك وأرسل الجيش المصريّ لدعمهم عندما تدخّلت القوّات السّعوديّة لاستعادة النّظام الملكيّ. وأصبح شمال اليمن فيتنام المصريّة، حيث شارك ما يصل إلى سبعين ألف جنديّ وطيّار حتّى عام 1970.

بسبب الأداء الضّعيف للجيش في شمال اليمن، عرف عبد النّاصر وعبد الحكيم عامر، رئيس أركان الجيش وأقرب أصدقاء عبد النّاصر منذ الثّلاثينيّات، أنّ مصر لم تكن مستعدّة للحرب. وكان عامر قد قوّض الانضباطيّة والجاهزيّة العسكريّة من خلال منح الامتيازات والمنافع للضّبّاط وبناء شبكة محسوبيّة أكثر ولاءً له من عبد النّاصر.

إنّ عاطفة عبد النّاصر تجاه عامر وخوفه من أن يطيع الجيش عامر، لا هو، وقت الأزمة، منعا الرّئيس المصريّ من محاسبة عامر على إخفاقات الجيش. وفي أيار/مايو 1967، عمل عامر دون موافقة عبد النّاصر، وأرسل بتهوّر فرقتين إلى شبه جزيرة سيناء.

أدّى هذا في النّهاية إلى قيام إسرائيل بمهاجمة مصر وسوريا والأردن في 5 حزيران/يونيو. ودمّر انتصار إسرائيل في حرب حزيران/يونيو عام 1967 القوّات المصريّة إلى حدّ أكبر ممّا كان عليه الحال في الحربين السّابقتين.

عهد جديد

في 9 حزيران/يونيو، تقدّم عبد النّاصر بالاستقالة وعرض التّقاعد من السّياسة. وردّاً على ذلك، نزلت حشود من المصريّين إلى شوارع القاهرة مطالبين ببقاء عبد النّاصر رئيساً لهم – بالرّغم من وجود أسباب للاعتقاد بأنّ مساعدي عبد النّاصر هم من نظّموا هذه التّظاهرات.

وفي حين كانت التّظاهرات في ظاهرها استعراضاً للدّعم، فإنّها قد سلّطت الضّوء على أكبر نقاط ضعف عبد النّاصر. لقد أقنع الشّعب المصريّ أو أجبره على تكليفه بكلّ القرارات الكبرى. في لحظة الأزمة، لم يكن لدى الشّعب ثقةً في فعاليّته.

أهدرت هزيمة مصر في حرب عام 1967 مكانة البلاد الدّوليّة وأثقلت اقتصادها وأنذرت بزوال الاشتراكيّة العربيّة والقوميّة العربيّة، وهو الوضع الّذي تفاقم بسبب سحق إسرائيل لحليف مصر في زمن الحرب، سوريا. وسعى يسار عربيّ جديد لملء الفراغ السّياسيّ، بإيحاء من المقاومة الفلسطينيّة المسلّحة الّتي قادتها حركة فتح بزعامة ياسر عرفات وخصومها الماركسيّين (اسميّاً على الأقلّ)، الجبهة الشّعبية لتحرير فلسطين والجبهة الدّيمقراطيّة لتحرير فلسطين.

عزّزت معركة الكرامة في آذار/مارس 1968 هذا الأفق السّياسيّ الجديد: لقد تسبّب مقاتلون من فتح والجيش الأردنيّ في خسائر فادحة لقوّة إسرائيليّة توغّلت في عمق الأردن. هذا الانتصار العربيّ، بالرّغم من كونه تكتيكيّاً وليس استراتيجيّاً، ألهم المئات من كافّة أنحاء العالم العربيّ للتّطوّع للقتال مع فتح ضدّ إسرائيل.

تخلّى عبد النّاصر فعليّاً عن القيادة المصريّة السّابقة في النّضال من أجل فلسطين للمقاومة الفلسطينيّة المسلّحة. وفي تمّوز/يوليو 1968، أحضر عرفات معه إلى موسكو وقدّمه إلى القيادة السّوفيتيّة. وبعد ستّة أشهر، وافق عبد النّاصر على تولّي عرفات رئاسة الّلجنة التّنفيذيّة لمنظّمة التّحرير الفلسطينيّة.

إرث عبد النّاصر

في 21 شباط/فبراير 1968، شنّ العمّال والطلّاب المصريّون أوّل تظاهرات كبيرة ضدّ نظام عبد النّاصر منذ عام 1954، والّتي كانت مدفوعةً بالأحكام المخفّفة الّتي صدرت بحقّ قادة القوّات الجويّة بعد محاكمتهم على عدم كفاءتهم في حرب 1967. وفي نهاية المطاف، أعرب المتظاهرون عن مطالب أكثر جوهريّة تخصّ حرّيّة التّعبير والدّيمقراطيّة ووضع قيود على قوّة قوى الأمن الدّاخليّ.

استمرّت التّظاهرات قرابة أسبوع: قتل عاملان وأصيب سبعة وستون مدنيّاً في اشتباكات مع الشّرطة. وسواء أمر عبد النّاصر بنفسه سلاح الجوّ بإطلاق النّار على الطّلّاب في الإسكندريّة لقمع التّظاهرات – كما يزعم كاتب واحد على الأقلّ هو هشام السّلاموني – أم لا، فإنّ هذه الطّلقات أكّدت فشل مشروع عبد النّاصر الاشتراكيّ العربيّ.

ومع ذلك، ظلّت هيبة عبد النّاصر الشّخصيّة كبيرة بما يكفي للتّوسّط في اتّفاق القاهرة في تشرين الثّاني/نوفمبر 1969. منح الاتّفاق منظمة التّحرير الفلسطينيّة المسؤوليّة عن ثلاثمائة ألف لاجئ فلسطينيّ في لبنان وحدّد الشّروط الّتي يمكن للسّلطات الّلبنانيّة بموجبها أن تتسامح مع الهجمات الفلسطينيّة على إسرائيل. وفي قمّة جامعة الدّول العربيّة في أيلول/سبتمبر 1970، عمل لساعات طويلة لتأمين وقف إطلاق النّار الّذي أنهى الحرب الأهليّة الفلسطينيّة الأردنيّة ورتّب لإجلاء الجماعات الفلسطينيّة المسلّحة من الأردن إلى لبنان.

أثقلت الدّبلوماسيّة المكثّفة لهذا الجهد على صحّة عبد النّاصر، الّتي، دون معرفة الجماهير، كانت سيّئة لأعوام. وأدّى الإجهاد إلى نوبة قلبيّة مميتة في 28 أيلول/سبتمبر 1970.

جسّد جمال عبد النّاصر تطلّعات البلدان المستعمرة سابقاً في الجنوب العالميّ لتأكيد مصالحها السّياديّة في عالم غير ثنائيّ القطب. وقد حُدّدت ومُكِّنَت في الوقت نفسه إنجازاته الدّوليّة من خلال العصر التّاريخيّ للقضاء على الاستعمار وحدود هذا العصر. لقد أنشأ عبد النّاصر رابطةً عاطفيّةً مع الشّعب المصريّ وحسّن الكثير من حيواتهم. لكن عدم ثقته بهم أدّى إلى فشله كقائد لهم.