«التجربة الأمازونية»: البارون بيزوس يتنحى عن عرشه
الولايات المتحدة عام 1994.
شاب أمريكي في الثلاثين من عمره، يفشل في إقناع أغلب عائلته وأصدقائه بالاستثمار في فكرته الثورية بإنشاء أكبر مكتبة إلكترونية لبيع الكتب، ربما أحبطه ذلك فحمل شغفه وذهب إلى أحد مديري الموارد البشرية للحصول على تمويل من شركته، فوجد المدير حاملًا في يده كتابًا من الكتب الخمسة الأكثر تأثيرًا في مجال الأعمال «مفاتيح نابليون هيل للنجاح». سأله المدير السؤال «الكليشيه»: «كيف يمكنك بيع هذا الكتاب لي؟»، فأجاب الشاب الثلاثيني بثقة: «سأنشره على أكبر مكتبة إلكترونية على الإنترنت أؤسسها بنفسي».
ربما كان من المستحيل حينها أن يتخيل المدير أن هذا الشاب سيحقق ما قاله، بل إن اسمه -فقط- سيساوي 200 مليار دولار!
البداية كتاب
ربما يصلح المشهد التخيلي السابق كبداية لتتبع مسيرة حياة بارون التكنولوجيا «جيف بيزوس» الذي جذبه التدريب على بيع الأشياء في متاجر التجزئة التقليدية، فظهرت مهارته في البيع، وصقلها بدراسة الأرقام ثم الفيزياء، وانتهى به المطاف في برينستون لدراسة علوم الكمبيوتر، ليبدأ بعدها مسيرة قصيرة ومربحة في أروقة «وول ستريت».
لكن الجانب الحالم من المراهق بيزوس كان يسعى لشيء أسطوري، فبدأ تأسيس «أمازون» كأكبر مكتبة إلكترونية لبيع الكتب عبر الإنترنت في مرأبه في سياتل عام 1994، وفي أقل من خمس سنوات أصبح شخصية رئيسة على صفحات فوربس كرجل أعمال يستثمر مليارات في سلاسل مكتبات كبرى، وعلى مدى عقدين متتاليين أحدث ثورة في التجارة الإلكترونية والبيع بالتجزئة مدفوعًا بإيمانه بقوة الإنترنت، وتوسعت أمازون لتشمل التخزين السحابي والأفلام والمتاجر الذكية، وصارت شركة عملاقة تضم أكثر من 1.3 مليون موظف، ومبيعات 126 مليار دولار في الربع الأخير من عام 2020.
«التجربة الأمازونية»: خط زمني من النجاحات
بعد ثلاث سنوات من البداية ضمَّت أمازون أكثر من 2.5 مليون كتاب، وحققت مبيعات سنوية بلغت 148 مليون دولار، حينها صرَّح بيزوس بثقة بأن مكتبته لا يمكن أن توجد في العالم المادي؛ إذ لا توجد منطقة تتسع لمكتبة تحوي مليوني عنوان!
بحلول سنة 1998، توسعت أمازون لتشمل الأقراص المضغوطة وأقراص الفيديو الرقمية والملابس والألعاب والمنتجات المكتبية، وانتقلت من «أكبر مكتبة على مستوى الأرض» إلى بائع تجزئة عبر الإنترنت يقدم «أكبر اختيار للأرض»، ليعيد العملاق الأمازوني تشكيل صناعة البيع بالتجزئة لأي شيء يمكن شحنه، وأصبحت كلمة «Amazon» مرادفة لـ «متجر».
غيَّرت أمازون مفهوم بائع الطرف الثالث، ففي عام 1999، سمحت للبائعين بإدراج بضائعهم في سوقها، ومنافسة منتجاتها، فانتقلوا من منافسين إلى مساهمين في نمو عملاقة التجارة الإلكترونية، بأكثر من 50٪ من مبيعاتها.
في عام 2005، أُطلقت Amazon Prime، لتمكِّن العملاء من الحصول على شحن مجاني لطلباتهم لمدة يومين، مع وعود بتقليل المدة إلى يوم، ما أعاد تشكيل سوق التسوق عبر الإنترنت، ووضع أمازون على قمته بأسطول نقل ينافس مكاتب البريد الدولية.
في عام 2006، بدأت أمازون «إعادة تدوير» قدراتها على الحوسبة والتخزين السحابي وتحليل البيانات، فقدمت Amazon Web Services كعمل تجاري مستقل يقدم خدمات حوسبة سحابية للشركات، وسرعان ما حققت مليارات الدولارات باجتذابها عملاء كبار أمثال وكالة ناسا ونتفليكس وكوكاكولا، وكانت أبرز أعمالها أثناء استكشاف مسبار كاسيني الفضائي لكوكب زحل، حيث تمت معالجة بيانات حوالي 200 ألف صورة بخدمات أمازون خلال ساعات، في حين أن أنظمة ناسا كانت تستغرق أكثر من 15 يومًا في القيام بمهمة مشابهة.
عام 2018 افتتحت أمازون أول متاجر Amazon Go، لتتيح للمتسوقين أخذ المنتجات والمغادرة دون انتظار مسح ضوئي أو «كاشير»، لتصبح أمازون رائدة الدفع الآلي عبر تقنياتها التي تستفيد من الكاميرات والذكاء الاصطناعي لتسجيل ما يضعه المتسوقون في عرباتهم، فتزود الشركة بكميات هائلة من البيانات، وتتجمع عمليات الحوسبة والخوارزميات لتحديد المشتريات والعميل، ومن ثم ترسلها لخدمات أمازون للدفع، وتربطها بخدمة Prime وامتيازاتها، ليبدو الأمر بمثابة «الجهاز العصبي المركزي» لأمازون، يربط كل شيء في الشركة، ويعزز أعمال البيع بالتجزئة الأساسية، ومن هنا يمثل Go «كُل ما هو أمازون».
ثروة بيزوس الحقيقية
تمثل أمازون «كُل ما هو بيزوس»، وتعد انعكاسًا لأفكاره وتجسيدًا لمسيرة النجاح والريادة التي جعلته أحد أبرز أعضاء قائمة أثرياء الكوكب، منذ ظهوره الأول بالقائمة عام 1998 بثروة قدرها 1.6 مليار دولار، جعلته يحتل المرتبة 102 فيها، وفي عام 2017 اعتلى القمة.
وفي مساء 26 أغسطس 2020، بلغت ثروة بيزوس 204.6 مليار دولار، ليصبح أول شخص في العالم تزيد قيمته عن 200 مليار دولار، مع توقعات بأن يصبح أول تريليونير على الكوكب مع استمرار تضخم ثروته بارتفاع أسهم أمازون بنسبة تقارب 80٪ في ظل اعتماد ملايين الأشخاص عليها في توصيل الأشياء لمنازلهم في أوقات الحظر والحجر الصحي المصاحبين لجائحة «كوفيد- 19».
يمكننا تخيل قيمة ثروة بيزوس الواقعية إذا طالعنا تقرير الجارديان عن أن ثروته تمكِّنه من شراء البنوك الأربعة الكبرى في بريطانيا، وأنه أكثر ثروة من شركات كبرى، مثل Exxon Mobil وNike وMcDonald’s، ويمكنه احتلال مكانة بين أكبر 50 اقتصادًا على مستوى العالم.
جدير بالذكر أن هذه الثروة حققها بيزوس رغم خضوعه لأغلى تسوية طلاق في التاريخ، عندما انفصل عن زوجته ماكينزي سكوت، في يوليو 2019، ومنحها ربع حصته في أمازون (ما قيمته 63 مليار دولار)، لتصبح ثاني أغنى امرأة في العالم، فضلًا عن تبرعه بمبلغ 1.7 مليار دولار كهدايا خيرية، و10 مليارات دولار لمكافحة تغير المناخ عبر مبادرة «صندوق بيزوس للأرض»، وتبرع بـأسهم قيمتها حوالي 26 مليون دولار إلى منظمة غير ربحية.
داخل عقل بيزوس: «الإرث الأمازوني»
في تحليل بعنوان «آلة أفكار أمازون»، أوضح خبير فوربس المخضرم جورج أندرس أن بيزوس أدار أمازون بمهارة رائد أعمال وشغف مراهق يكتشف المتعة، وعلى مدى تاريخه فكك أحد الألغاز العظيمة للأعمال، وهي معرفة ما يريده العملاء قبل أن يطلبوه، ثم جعْلُه مطلبًا أساسيًّا لهم، معتمدًا على مقاييسه النموذجية الرافضة للتأخير والعيوب، والمهتمة بالعميل لدرجة كبيرة ترصدها إحدى مديرات أمازون خلال معاينة إعلانات جهاز Kindle قبل إطلاقه، حيث تضمن الإعلان تحوُّل قارئ يحمل Kindle إلى مصارع شجاع يقذفه ثور في الهواء، وهنا ضحك الجميع باستثناء بيزوس الذي قال بحدة: «أعلم أنه لطيف ومضحك، لكن الزبون تُركل مؤخرته. لا يمكننا تركه يتأذى».
هذا الاهتمام البالغ بالعميل هو ما ترجمه بيزوس من خلال «الكرسي الفارغ»، حيث يترك بيزوس مقعدًا خاليًا على طاولة الاجتماعات لينوب عن العميل، وهذا ما يجعل عمليات وإجراءات وخوارزميات أمازون تتعلق بأهداف العملاء.
كما أشاد أندرس بقدرة بيزوس على التغلب على تحديات الاحتفاظ بمديرين تنفيذيين طامحين إلى اعتلاء مقعده؛ لأنه يعرف متى يتجنب التدخل حتى يتمكن مرؤوسوه من إيجاد طرقهم الخاصة، كما أنه يهتم بالبريد الإلكتروني الذي يعتبره معظم الرؤساء التنفيذيين فوضى لا طائل منها، ويحوِّل الاقتراحات غير المرغوب فيها إلى تحسينات في الميزات، ويرى أن رسائل البريد الإلكتروني الغاضبة تعبر عن عملاء صادقين.
في تحليل لأسرار نجاح بيزوس أوضح راندال لين، كبير مسؤولي المحتوى بمجلة فوربس، أنه بسبب مهاراته ونجاحاته تمتَّع بمصداقية السوق، وأعاد استثمارها كما أراد، وقد سمحت له هيمنته على خدمات البيع بالتجزئة والأعمال الرقمية بالانتقال إلى أي عمل تجاري؛ لأن هاتين الصناعتين تمسَّان كل صناعة أخرى تقريبًا.
هنا تنبع قوة بيزوس من قدرته على استغلال أدواته وإعادة تدوير مهاراته ونجاحاته بشكل مثالي، لم يكتفِ بامتلاك متجر الكتب الرقمية الأول عالميًّا، إنما مكَّنه إتقان بيع الكتب من بيع أي شيء، وبعد هيمنته على صناعة البيع بالتجزئة استغل أدواته في المجالات التكنولوجية واللوجستية الضخمة، وبدلًا من استغلالها كمهارات من تراكم الأعمال، جعلها أعمالًا تجارية قائمة بذاتها، فإتقان جني الأموال من عمليات الشراء أنتج Amazon Pay، وبناء قدرات هائلة للتخزين السحابي أنتج AWS، وكل ذلك حقق إيرادات بمليارات الدولارات.
سر آخر من أسرار نجاحه يظهر من قدرته على التعامل في المواقف المختلفة، فعلى الرغم من ملكيته لصحيفة واشنطن بوست لم يدخل بيزوس في معارك إعلامية تضيِّع وقته، لا يعلن عن مبادراته قبل اكتمالها، ولم ينجرف لمشاكسات ترامب على تويتر، وكان هادئًا في التعامل مع قرصنة هاتفه وابتزازه وانفصاله عن زوجته، ولم تقع منصاته في فضيحة تسريب بيانات، كل ذلك لأنه يضع هدفًا نصب عينيه، هو العميل، الذي تأتي قدرة بيزوس على جذبه من إدراك واقعه بدقة، فإذا كانت جوجل تعرف ما تهتم بشرائه، وفيسبوك تستنتج ما قد ترغب في شرائه، فإن أمازون تعرف ما اشتريته بالفعل.
نقطة ومن أول السطر
لنعد ترتيب الأوراق الماضية:
- رائد أعمال يحقق ثروة تفوق 200 مليار دولار.
- شركته الرائدة ترتفع أسهمها بنسبة تفوق 70%.
- مبيعات قياسية تفوق مليار دولار في ربع السنة.
لو أردنا إكمال هذه الحكاية لتوقعنا أن يخرج علينا بيزوس بابتكار جديد يفوق الواقع، لكن حدث ما لا يُتوقع.
في أحد أيام التاريخ المميزة (02/ 02/ 2021)، وفي إعلان مفاجئ، أعلنت أمازون أن بيزوس سيتنحى عن منصب الرئيس التنفيذي للشركة، ليحل محله آندي جاسي رئيس خدمات الويب بالشركة.
بالتزامن، نشر بيزوس بيانًا على موقع أمازون أكد فيه: «كونك الرئيس التنفيذي لشركة أمازون هي مسؤولية عميقة ومرهقة … يصعب عليك التركيز على أي شيء آخر … لم يكن لديَّ المزيد من الطاقة من قبل»، وهو ما دفعه للتنحي عن منصبه؛ ليركِّز طاقاته واهتماماته على ابتكاراته الجديدة وشغفه، وفي الوقت نفسه سيظل منخرطًا في مبادرات أمازون، لكنه سيوجِّه تركيزه نحو أعماله الأخرى (صندوق اليوم الأول، وصندوق بيزوس للأرض، وبلو أوريجين، وواشنطن بوست)، قائلًا: «أنا متحمس للغاية بشأن التأثير الذي أعتقد أن هذه المنظمات يمكن أن تُحدثه»، وهو ما يوضح أن بيزوس أنهى صفحة أمازون ليعيد تدوير مهاراته ونجاحاته في مكان آخر.
أما بعد: الخطوة التالية هي … ؟
أجاب بيان بيزوس عن السؤال البديهي: لماذا تركت أمازون؟ وترك لنا استنباط الدوافع، التي يمكن أن يكون من أهمها أنه وصل لأبعد من أقصى ما يمكن الوصول إليه، في ظل أن النتائج المالية واللوجيستية لأمازون تؤكد ريادتها كأحد أضخم الشركات العالمية، لذا ربما حان الوقت لمسيرة جديدة.
وفيما يخص «أمازون ما بعد بيزوس» فربما ستحصل أمازون على دماء جديدة تواجه تحديات جديدة وتتصدر مجالات جديدة، فسوابق الأعمال تؤكد أن تنحِّي رئيس تنفيذي لعملاق تكنولوجي هو أمر غير مقلق، خاصة بعد أن يكون قد عزَّز ثروات شركته، فعلى الرغم من تباين مواقف عمالقة التكنولوجيا بعد رحيل روادها إلا أنها لم تسقط، ربما حدث بعض التذبذب في أسهمها أو تراجع لفترة، لكنها عادت لوضعها مرة أخرى، وليس أدل على ذلك من تنحي بيل جيتس عن مايكروسوفت، وتنحي ستيف جوبز عن آبل، وبالنظر إلى الأرقام التي حققتها أمازون خلال «جائحة كورونا» سيصعب تعطيل زخمها، كما أن آندي جاسي الرئيس التنفيذي القادم هو قائد بارز في الشركة، ويحظى بثقة بيزوس الكاملة؛ لذا على الأرجح لن يكون تنحي بيزوس الحدث الذي يُسقط أمازون.
فيما يخص بيزوس نفسه فهو لن يغادر أمازون بصورة نهائية، إنما سيتخفف من المسؤولية ليوفر مساحة لابتكاراته، وتنحيه عن منصبه لن يبعده عن ريادة الأعمال؛ فتاريخه الشخصي والعملي الحافل يفوق دوره كقائد لأمازون، فهو أحد أشهر قادة الأعمال الأسطوريين، ويملك قوة البارون في الثروة والسياسة والإعلام، كل ما في الأمر أن هذه القوة ستتحول من الشركة إلى الفرد، ومن الواضح إلى الخفي.
إلى جانب ذلك فإن عمله في تسويق الرحلات الفضائية عبر Blue Origin يخطو بنجاح، وهناك صحيفة واشنطن بوست التي عززت ريادته، حيث قاد تحولًا تجاريًّا جعلها قوة إعلامية مهيمنة، ظهر ذلك في حملات الصحيفة في قضايا شهيرة، كمقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، واتهامات ترامب للصحيفة بالاحتيال لإبقاء ضرائب أمازون منخفضة، ومحاولة ابتزاز بيزوس المرتبطة بانفصاله عن زوجته، كما أن جهوده الخيرية ستجعل وجوده ملموسًا في مجالات عدة، وربما يقوده شغفه إلى أحد المجالات الترفيهية كالسينما أو الرياضة بعد تداول أخبار عن اهتمامه بشراء أحد فرق السوبر بول.
وربما يكون بيزوس أقرب إلى مجال الرعاية الصحية التي تعد أكبر صناعة في أمريكا بنسبة 18٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وتمثل سوقًا واعدة لأفكاره. يعضِّد ذلك أنه في عام 2020 أعلن بيزوس مع وارن بافيت وجيمي ديمون عن تحالف شركاتهم في مبادرة لتقديم رعاية صحية لموظفيهم، كبادرة لإنشاء نموذج قابل للتطوير والاستنساخ، وهنا يجب أن نعلم أننا بصدد كيان ضخم؛ فهذه الشركات توظف ملايين الأشخاص، لذا فنحن نتحدث عن مشروع صحي تجريبي لعدد من الأشخاص يقترب من عدد سكان ولاية أمريكية، ما قد يكون نواة لمنظومة جديدة يقودها بيزوس.
في النهاية فإن بيزوس يجسِّد مسيرة أسطورية رائدة لمَّا تنتهِ بعد، والشاب الثلاثيني الذي بدأ ببيع الكتب وتربع على عرش التجارة الإلكترونية والثروة خلال أقل من ثلاثين عامًا، ها هو يبدأ مرحلة جديدة وهو على مشارف الستين، لينتظر العالم أن يغزو «البارون بيزوس» ممالك أخرى يعيد فيها التجربة الأمازونية الفريدة.