«ألواح جزولة» وأحوال الفقه في المغرب الأقصى
قلتُ: لنأخذ استراحة من القراءة والكتابة عن أوقاف أسرة محمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة؛ لا للكف عن القراءة أو الكتابة، وإنما لنثري معرفتنا بشيء من أخبار بلاد المغرب الأقصى في الفقه والاجتماع والتاريخ والثقافة العامة التي تميز أهل هذا الصقع بما لهم من تراث حضاري عريق في تاريخ الأمة الإسلامية.
وقد اخترت لذلك كتاباً نطل منه على تلك الجهة، وهذا الكتاب كان صديقي المغربي الدكتور عبدالغني يحياوي الأستاذ بجامعة تطوان قد نصحني به، ثم أهداني صديقي الأصولي المقاصدي الأستاذ لحسن الرحالي نسخة منه في أثناء زيارة علمية لي إلى المغرب الأقصى في صيف سنة 2016م، وهو كتاب «ألواح جزولة والتشريع الإسلامي: دراسة لأعراف قبائل سوس في ضوء التشريع الإسلامي» (منشورات وزارة الأوقاف والشئون الدينية بالمملكة المغربية، 1425هـ/2004م). وكنت قد حفظت الكتاب في خزانة كتبي لسنوات، ثم لما حان وقت قراءته، قرأته وتدبرت ما فيه، ثم قارنته بغيره من الكتب التي قرأتُها لبعض علماء المغرب الأقصى، فوجدته كتاباً مختلفاً في موضوعه، وفريداً في منهحه. ثم إنني لم أقف على مثيلٍ له من كتب علماء بلاد المشرق العربي؛ لا في موضوعه ولا في منهجه، فيما علمت.
كتاب «ألواح جزولة»؛ مختلف وفريد في موضوعه، وهو يختص بمنطقة مختلفة من ديار المسلمين وفريدة في طبيعتها أيضاً. وما أقدمه هنا -وفي مقالات تالية إن شاء الله- لا بد أن يكون مختلفاً وجديداً على القراء الذين يعيشون في المشرق العربي بعامة، ومنهم القراء المصريون بخاصة؛ الذين لا يهتمون إلا قليلاً بما يصدر عن بلاد المغرب الكبير من مؤلفات علمية وثقافية وأدبية رفيعة المستوى، وقد لا يبادلهم أهل المغرب الكبير هذا الموقف؛ الذي تكررت الشكوى منه منذ عقود دون الوصول إلى حل لهذا العسر في التواصل العلمي.
هذا «الكتاب المختلف» لمؤلفه الفقيه الأستاذ اْمحمد العثماني بن عبدالله بن محمد العثماني (1340هـ/1922م – 1404هــ/1984م)؛ يعالج أحكام الشريعة الإسلامية وهي قيد التطبيق، أو وهي تحكم وقائع الحياة اليومية، وليس باعتبارها نصوصاً أو اجتهادات فقهية نظرية وحسب. وهو يبينُ كيف أن قبائل «جزولة» التي تسكن منطقة «سوْس» قد أدمجت أحكام الشريعة في تقاليدها وأعرافها التي توجه سلوكياتها، وتنظم شئون حياتها، وقد سجلتها في «ألواح» من الخشب أو من الصفيح أو من الجلود، أو الورق، وعلقتها في الأسواق والمساجد والزوايا والساحات العامة تارة، واحتفظت بها في خزائن البيوت وعند الأعيان والوجهاء والعلماء تارة أخرى. ويوضح الكتاب كيف تفاعلت «الأعراف» الاجتماعية القبائلية مع الأحكام الشرعية والاجتهادات الفقهية على أرض الواقع وفي الممارسات والتصرفات الفردية والجماعية.
ما يعطي هذا الكتاب أهمية استثنائية أن مؤلفه هو واحد من علماء «سوس»، وهو ابن عائلة عريقة توارثت العلم والأدب والفقه عبر ألف سنة دون انقطاع كما ورد في كتاب «المعسول» في تاريخ المغرب لمؤلفه العلامة محمد المختار السوسي الإلغي. ثم إن المؤلف هو أحد تلامذة العلامة علال الفاسي المجاهد الكبير وأحد قادة الاستقلال في تاريخ المغرب ومؤلف الكتاب اللامع المعروف: «مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها». وكان من حسن الطالع أثناء زيارة علمية أخرى قمت بها للمغرب الأقصى في سنة 2018 أن الدكتور سعد الدين العثماني -نجل المؤلف ورئيس الحكومة المغربية- أهداني نسخة من كتابه القيم: «التصرفات النبوية السياسية» (طبعة الشبكة العربية للأبحاث والنشر 2017)، وهو يستحق التعريف به في مناسبة أخرى.
ينصب موضوع كتاب «ألواح جزولة» إذنْ على أعراف أهل منطقة «سوس»، وهي منطقة مختلفة بما حباها الله من طبيعة خلابة وفريدة في بلاد المغرب الأقصى المعروفة بأنها من أعرق بلاد «العلم والعلماء»، وهي منطقة سهلية يحدها من الشمال جبال الأطلس الكبير، وجنوباً الأطلس الصغير، وتطل على الواجهة الأطلسية بسهل منفتح. وتشتهر بالسياحة والفلاحة وإنتاج زيت شجرة أركَان النادرة جداً. أي أنها تجمع بين السهل والجبل، والبحر والصحراء. وتقع وسط /جنوب المغرب؛ حيث تمتد من المحيط الأطلسي غرباً إلى الحدود الجزائرية شرقاً. وتبلغ مساحتها 70.880 كيلومتراً مربعاً أي ما يمثل نحو 10% من المساحة الإجمالية للمغرب. وتنقسم إدارياً إلى تسعة مراكز حضرية هي: عمالة أكادير إداوتنان، وإقليم تارودانت، وإقليم تنغير، إقليم تيزنيت، وإقليم زاكورة، وإقليم سيدي إفني، وإقليم شتوكة آيت باها، وإقليم ورززات، وعمالة أنزكان-آيت ملول.
وعندما تُذكر «سوس» تذكر أيضاً «قبائل جزولة»، فهما وجهان لعملة واحدة. وأغلبُ أهلها من البربر، الذين يتحدثون اليوم اللغة البربرية، واللغة العربية، إضافة إلى الفرنسية التي تداخلت مع اللغتين في الاستعمال اليومي لأغلب سكان المغرب بفعل الاحتلال الفرنسي. ومعروف عن «سوس» تشبث أهلها الشديد بالدين، وعنايتهم بالعلوم الشرعية، وعلوم اللغة العربية وآدابها وتدريسها ونشرها والتأليف فيها. يقول الدكتور سعد الدين العثماني، في تقديمه لكتاب أبيه «أقام السوسيون نحو مائتي مدرسة علمية اصطلح على تسميتها بالمدارس العتيقة، وكثيرٌ منها لا يزال يؤدي دوره إلى اليوم… ولقد ركزت الحماية الفرنسية منذ دخلت المغرب على فصل البربر -ومن بينهم سكان سوس- عن العرب، إثارة للتفرقة بين المغاربة، وتسهيلاً لإنفاذ سيطرتها… كما كانت تهدف إلى سلخ المنطقة عن الإسلام، لأنه ضمان وحدة المغاربة، وموقد جذوة مقاومة الاستعمار».
ما معنى «جزولة» وماذا عن أهلها ومجتمعها؟ وما تلك «الألواح» التي درسها سي امحمد العثماني في هذا الكتاب البديع نادر المثال؟
أما «جزولة» فهي أحد أقسام قبائل البربر القديمة، وقد عرفت بهذا الاسم من قديم جداً. وأمةُ البربر التي تسكن مجموع الأقطار الأفريقية الممتدة من آخر حدود مصر شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، إلى الصحراء جنوباً، يجمعُها باتفاق علماء الأنساب أصلان عظيمان هما: برنس، ومادغيس الملقب بالأبتر. وجزولة قسم من أقسام «البرانس». وبرنس والأبتر قيل هما أخوان لأبٍ واحد، وهو بَرُّ بن قيس، وقيل: بر من ولد مازيغ من ذرية حام، والأبتر من ولد بر بن قيس من ذرية سام.
وكلمة «البربر» فيها أقوال. قيل إنها «يونانية» أصلها بارباروس، ومعناها: الصوت الذي يصدره الألثغ، ثم صار علماً على كل من لم يتكلم بلغة اليونان كما ذهب إلى ذلك أمين الريحاني في كتابه بعنوان «المغرب الأقصى». وقيل أيضاً: إن «البربر» كلمة مغربية لا صلة بينها وبين الكلمة اليونانية، ومعناها: الشعب المغربي الكنعاني الذي ينتسب أهله إلى جده الأعلى الذي يسمى «بَر». ويقول ابن خلدون في كتاب «العبر»: إن إفريقش بن قيس بن صيفي من ملوك التبابعة لما غزا المغرب وإفريقية، ورأى هذا الجيل من الأعاجم وسمع رطانتهم، تعجب من ذلك وقال: «ما أكثر بربرتكم» فسموا بذلك! وفي لسان العرب: البربرة هي: اختلاط أصوات غير مفهومة، ومنه يقال: بربر الأسد إذا زأر بأصوات غائمة وغير مفهومة.
«جزولة» إذن هو أبو قبيلة من قبائل البربر العريقة، ولما نزل ببلاد سوس سمي المكان الذي نزله باسمه. وقد تباينت آراء المؤرخين في تعريف موقع «جزولة» الجغرافي. وانتهى الأستاذ العثماني مؤلف الكتاب بعد البحث والدرس والتدقيق إلى أن: جزولة هي ما يطلق عليه اليوم عمالة (محافظة) أكادير، باستثناء ملحقة «إيموزَّار إيداوتنان»، وملحقة «تافنْكُلت»، وكلتاهما بالأطلس الكبير.
وللاستئناس في القراءة هنا، يحسن إمتاع الأسماع بما ورد في الكتاب من وصف إقليم «جزولة» ببلاد سوس المغربية كأنك ترفل بين جوانبه: فجزولة تتكون من سهول وهضاب وصحار، وتجاور البحر غرباً وجنوباً. وهي متسعة المساحة، رحبة الجوانب، وغالب أرضها تنبت الأعشاب والأشجار: تلالها، وجبالها، وشعابها، وأوديتها، وسهلها، وحزْنُها. والمنطقة الصحراوية منها مكتظة بالواحات وبعيون جارية وجوفية، ومزينة بالقرى والقصور الفخمة، وبساتين النخيل، وبأشجار أخرى متنوعة. وأقوى شجر جزولة الأشجار المسماة «أركَان»، فقد خصت بها، وله ثمر في حجم حب الزيتون، ويُستخرج منه زيت أطيب مذاقاً من زيت الزيتون. ومن أشجارها شجر اللوز الموجود بكثرة، خصوصاً في الجبال. وتتحلى جزولة في أيام الربيع بحلة سندسية تفوق في جمالها الجواهر واليواقيت في التيجان، وسبحان من قال في كتابه «وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج» (الحج: 5).
وينتظم أهل «جزولة» النظام القبلي، شأن بقية البربر في بلادهم جميعها. وهو يرتكز على النظام العائلي. ومجموع العائلات التي من أصل واحد يسمى «أفوس» باللغة الشلحية البربرية (اليد باللغة العربية). وأفوس وحدة عائلية تخضع لسلطة كبير العائلة. ومجموع «إفاسن» (الأيدي) يؤلف القبيلة. والقبيلة وحدة متضامنة متآلفة. ومجموع القبائل يتألف منها «أَمْقُّون» (الحلف)، وهو أكبر تجمع في النظام القبلي البربري.
وقبل أن ننتقل لقصة «الألواح»، يحسن أن نزيد هذا التكوين العائلي القبلي لبربر جزولة بياناً؛ فالقبيلة عبارة عن جماعة تقيم في مكان واحد، يرتبط أهله برابطة النسب والدم، ويسعون لما فيه مصلحة القبيلة، ويراعون مصالح جيرانهم أيضاً. ولم يكن للقبيلة شرطة خاصة أو جيش خاص، بل كل فرد منها يقوم بدور الشرطي والجندي كل في محيطه (يشبهه نظام أمن الجيران في بعض ولايات الولايات المتحدة الأمريكية اليوم). و«الإنفلاس» (أعيان القبيلة) يجتمعون مرة كل أسبوع للتشاور في الأحوال العادية للفصل في الأمور التي تهم القبيلة؛ بما في ذلك شئون الأمن والدفاع. وقرارتهم ملزمة. ومن هنا نشأ العرف أو «اللوح» عندهم وقام مقام القانون بمعناه الحديث.
ولغة أهل «جزولة» هي «البربرية»، وهي من اللغات السامية، ولها حروفها الخاصة، ولحروفها أشكال تشبه الأوضاع الكونية والكائنات الطبيعية، وعددها أربعة عشر حرفاً يسمونها «تيفيناغ»: أي الحروف المقدسة. وقواعدها قريبة من قواعد اللغة العربية. والنوع الذي يتكلم به سكان جزولة من اللغة البربرية يسمى «تاشليحت»، وتتضمن ألفاظاً عربية كثيرة. وهي أحد الأقسام الثلاثة للبربرية وهي: تاشليحت لأهل الأطلسين الكبير والصغير، و«تامازيغت» لأهل الأطلس المتوسط، و«تاريفيت» لأهل الشمال والريف المغربي.
وقد دُونت جميع العلوم والفنون والآداب المتداولة في «جزولة-سوس» باللغة «الشلحية»؛ من فقه، ومواريث، وتوحيد، ونحو، ومواعظ، ومدائح وما إلى ذلك، وهي لغة التخاطب اليومية، فيما عدا خطبتي الجمعة والأعياد فإنهما تكونان بالعربية غالباً. وكان علماء جزولة القدامي يتبارون في التأليف باللغتين العربية والشلحية، وإلى ذلك أشار علامة سوس الشيخ الجشتيمي في كتابه ذائع الصيت «العمل السوسي»، فقال: [الحمد لله الذي سخَّر لي النظامين ولا مفتخراً. أنظم طوراً باللسان العربي وتارة بالأعجمي الأعذب]. ويعتقد أهل جزولة أن لغتهم فيها «حُسْنٌ غير مجلوب»؛ أي جمال رباني غير مصطنع.
بقي أن نتعرف في مقالة أخرى إن شاء الله على ملامح الحياة الاجتماعية في «جزولة»، وكيفية تكوين الأسرة في ظل أحكام الشريعة، ودور المرأة الجزولية في الحياة العائلية، ودور العلماء ونظام القضاء وطرائق الفصل في الخصومات، ومحفوظات أهل جزولة من «الألواح» التي أدمجوا فيها الأحكام الشرعية والاجتهادات الفقهية، حتى غطت هذه الألواح جوانب الحياة ومرافقها المختلفة وانتظمتها في خمسة أنواع هي:
- ألواح المساجد والزوايا.
- ألواح الأسواق والمواسم.
- ألواح الحصون الدفاعية.
- ألواح القبائل المتحالفة (إيمقّان).
- ألواح القبائل غير المتحالفة.