«وصية الترابي» هل تُخرج البشير من متاهة العصيان؟
لقد أدخل البشير نفسه في ورطة كبرى عندما رفض وماطل في تنفيذ خارطة طريق الاتحاد الأفريقي، التي وقعتها المعارضة في 8 أغسطس/آب الماضي، وظن أن توقيعه السابق على الاتفاق غير ملزم، وأنه بالإمكان الحصول على اتفاق أفضل بالمماطلة وكسب الوقت مع المجتمع الدولي كما فعل في اتفاقاته السابقة مع المعارضة المسلحة في دارفور والشرق.
ورطة البشير تتمثل في إخلافه للوعد الذي قطعه مع الزعيم السياسي السوداني الراحل حسن الترابي؛ بأنه سوف ينفذ بنود الحوار، وأنه زاهد في السلطة وأن ما يشغله من هي الأيادي (الآمنة) التي سوف يسلمها السلطة عندما يقرر التنحي. فقام الدكتور الترابي رحمه الله وصمم له الحوار الوطني ليهبط بسلام ويترك الشعب السوداني يقرر مصيره بسلام متجنبًا السيناريوهات الكارثية والتي كان أخطرها السيناريو الصومالي والذي كان ممكنًا جدًا في بلد فيه ثورة مسلحة عرقية في الهامش، تتوعد المركز وثقافته بالويل والثبور بسبب ما اقترفته يداه منذ يوم الاستقلال حتى اليوم.
تذكرني ورطة الرئيس البشير بقصة إغريقية لطيفة هي من ميثولوجيا اليونان، تقول هذه القصة إن الملك مينوس الإغريقي ملك جزيرة كريت بنى متاهة حشر فيها وحش (المينوتوروس)، و قد بنى له المتاهة المهندس ديليدوس لكي لا يقوم هذا الوحش بالاعتداء عشوائيًا على سكان الجزيرة، وكانت المدن اليونانية ملزمة بدفع جزية لملك كريت وهذه الجزية هي من أبنائها وبناتها قربانًا لذلك الوحش الذي يلتهم البشر، لكن الملك غضب على مهندسه ديليدوس فأمر بسجن ابنه إيكاريوس في المتاهة مع الوحش، وكان ديلديوس نفسه لا يعرف كيفية الخروج من المتاهة رغم أنه صممها.
و لكنه قال لابنه إيكاريوس عليك بجمع الريش الذي تلقيه الطيور، ثم ادهن جسدك بالشمع والصق عليه الريش فسوف تستطيع الطيران وتخرج من المتاهة، لكن عليك يا بني ألا تطير منخفضًا فتفسد الرطوبة الشمع وتقع من جديد في المتاهة ولا تطير مرتفعًا فتذوب أشعة الشمس الشمع و تسقط في المتاهة!
إنما عليك الطيران في مدى معتدل ما بين العلو والانخفاض، وما إن وضع إيكاريوس في المتاهة حتى لاحقه الوحش فتذكر نصيحة أبيه و قام بجمع الريش ودهن جسده بالشمع وطار خارج المتاهة، وما إن طار إيكاريوس قليلًا حتى زاد غروره فأراد أن يرتفع لأعلى أكثر فارتفع وارتفع و ذاب الشمع وسقط إيكاريوس على الأرض واندق رأسه ومات.
اقرأ أيضًا:السودان الآن: بداية عصيان مدني يهدد نظام البشير
لقد بنى حسن الترابي المتاهة ووضع لابنه البشير خريطة الخروج منها، ولكن الرئيس البشير مثل إيكاريوس عصى الترابي الذي صنع له أجنحة من الريش ألصقها بشمع الحوار الوطني ليخرج البلاد من مأزقها ويسلّم السلطة لحكومة مدنية. ولكن البشير ما إن توفي الترابي وتدخل مع الخليجيين في حرب اليمن وفكك علاقاته مع إيران، حتى بدأ يحس أنه خرج من متاهة الحصار السياسي والاقتصادي بالتحالف الإستراتيجي مع الخليجيين والتعاون مع الأوروبيين في مكافحة الهجرة غير الشرعية.
ولذلك فإن الرئيس السوداني يعتقد أن نظامه قوي وأن الإقليم والعالم يحتاج إليه، فهو الوحيد الذي يستطيع الحفاظ على استقرار السودان الهش أمام أربع دول جوار فاشلة تصدر اللاجئين إلى المتوسط؛ وهي إرتريا وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى وليبيا. ولهذا فالرئيس عمر البشير يعتقد أنه في مركز قوة ليس في حوجة ليقدم تنازلات أكثر من التي قدمها في حوار الوثبة والتي كانت من نوعية استحداث منصب رئيس وزراء وإعطاء بعض الحقوق الثقافية للمجموعات المهمشة.
ولكن نظامه ليس بصدد إقامة نظام برلماني رئاسي على الطريقة الفرنسية ولا حتى على الطريقة العربية المشوهة في (تونس ومصر)، والتعديلات الدستورية التي أودعها في المجلس الوطني لا تتضمن حريات الرأي والصحافة والتعبير التي اتفق عليها في حوار الوثبة ولا النصوص التي تتحدث عن جهاز الأمن ودوره كجهة معلومات فقط بل تتضمن صلاحيات إضافية للرئيس واستحداث منصب رئيس الوزراء.
لماذا لا يبدو البشير قلقًا من الحراك الشعبي ضده؟
كل من يلحظ حركة الرئيس البشير أمام العصيان المدني الأخير يراه رجلًا في منتهى الثقة أو الغرور، يسافر إلى المغرب وهناك حراك شعبي غاضب عليه في «السوشيال ميديا» و يعود إلى السودان ليسافر إلى الإمارات في أول أيام الدعوة للعصيان، ليشاهد سباق «الفورميلا ون»، وترجع أسباب ثقة البشير الشديدة إلى عدة أمور :
أولها: وحدة صف الجيش السوداني خلفه، فليس هناك أي تحرك معارض من داخل الجيش ضد نظام البشير منذ محاولة الانقلاب للضابط الإسلامي العميد ود إبراهيم 2012م. ومنذ هذه المحاولة الفاشلة فالجيش متوحد خلف الرئيس البشير، ولا توجد أي ملامح لأي تحرك معارض لحكم الرئيس البشير.
ثانيها: ضعف أحزاب المعارضة، وفشلها وخلافاتها التي لا تنتهي، والتي هي من صنع عملاء الأجهزة الأمنية داخلها الذين قاموا بتفكيك أحزاب المعارضة. فحزب الأمة تتجاوز عدد الأحزاب المنشقة عنه 11 حزبًا، وحزب الاتحادي الديمقراطي ستة أحزاب، والشيوعيون يمزقهم انشقاق منذ المؤتمر الأخير والإسلاميون فهم فرق متناحرة؛ إخوان مسلمون ومؤتمر شعبي وإصلاح الآن وأنصار سنة و….، وكل حزب من هؤلاء فهو منقسم في داخله لتيارات متناحرة تمزق بعضها.
ثالثها: جهاز الأمن وهو جهاز صنعه نظام الإنقاذ؛ ليكون جهازًا مواليًا تمامًا وهو ليس جهاز معلومات فقط، بل يملك سلاحًا قتالي ومدرعات ولا يوجد فرق بينه وبين الجيش سوى في السلاح الثقيل والطيران، وكان له دور كبير في محاربة التمرد في دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة وهم الأقدر على مواجهة أي نمط قتالي غير نظامي يعتمد على حرب الغوريلا والعصابات .
اقرأ أيضًا:الثائرون بلا ضجيج: بعض مما لا نعرفه عن السودان
رابعها: المجاهدون أو السائحون وهم قدامى المحاربين المتطوعين، وهم إن كان أغلبهم الآن ضد سياسات النظام فإنهم في لحظة الحقيقة سوف ينحازون إليه خصوصًا أن هناك أصواتًا كثيرة في المعارضة تتوعدهم بالمحاسبة؛ بسبب دورهم سابقًا في تثبيت النظام خصوصًا في التسعينات (أيام الإنقاذ الأولى).
خامسها: أن الدول التي يمكن أن تدعم تحرك المعارضة أصبحت مؤيدة للبشير وهي دول الخليج ومصر، فالخليجيون ينظرون بقلق لأي تغيير في السودان يدفع بانشغال السودان بنفسه عن مساعدتهم في مواجهة إيران، ومصر فرغم أنها تستضيف الصادق المهدي على أرضها ولا تشعر بالراحة للنظام الإسلامي في الخرطوم لكنها تدرك جيدًا أن عمر البشير أفضل لها من الصادق المهدي الذي إن عاد إلى السلطة لن يختار دور الوسيط في قضية مياه النيل، بل سيوقع اتفاقية عنتيبي ويضع مصر في الزاوية. ولو كانت مصر تضمن لها جهة (آمنة) تستلم السلطة ما بعد الإنقاذ لكانت دعمتها، ولكن حتى دولة جنوب السودان التي دعمتها مصر وقعت اتفاقية الحوض الإطاري ومستعدة للتوقيع على عنتيبي.
البشير يعتقد أنه ما دام يمتلك كل هذه العوامل في يده فلن يخيفه أي عصيان مدني أو تحرك جارف في الشارع؛ لأن الحراك المدني يحتاج لحسم ولا تمتلك المعارضة أيًا من أدوات الحسم.
و ختامًا، كل هذه العوامل التي تطمئن البشير هي نفسها التي كان يمتلكها حسني مبارك في 2011م. وكان ينقص مبارك ما ينقص البشير، وهو الشعبية، فنظام البشير انهارت شعبيته بصورة كبيرة منذ انفصال جنوب السودان وأصبح لا يمتلك أي قدرة على الحشد والتعبئة. وكانت انتخابات 2015م الماضية الدليل الأكبر على ذلك، فقد قاطع الانتخابات الجميع حتى العضوية المسجلة في المؤتمر الوطني والبالغة مليون ونصف قاطعت الانتخابات ولم يذهب للانتخابات إلا أعداد هزيلة كانت مصدر حرج كبير للنظام.
الحل الوحيد للرئيس البشير إن أراد إنقاذ نظامه هو تطبيق ما اتفق عليه في الحوار الوطني، وما وقّعت عليه أحزاب المعارضة في أديس أبابا؛ وبذلك ينتقل السودان بشكل آمن للنظام الدستوري الديموقراطي دون حدوث الفراغ أو الفوضى ويحقن بذلك دماء السودانيين دون الذهاب إلى السيناريوهات السوداء والتي من أبشعها السيناريو السوري والصومالي.