الأغنية البديلة: ثورة الأغنية المصرية في السبعينيات
تسيطر على الميديا ومواقع التواصل الاجتماعي حالة من الحنين الجارف «نوستالجيا» لفترة السبعينيات والثمانينيات تحديدًا على صعيد الفن والموسيقى، يعاد اكتشاف تجارب غنائية لم يسلط عليها الضوء بشكل كاف أو دخلت طي النسيان ومنحتها تلك الحالة فرصًا جديدة بالتزامن مع بث قناة ماسبيرو وانتشار مجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي مهتمة بالرصد والتأريخ لتلك الفترات.
شهدت تلك الفترة العديد من المتغيرات الاجتماعية والسياسية نتج عنه ثقافة جديدة مغايرة على صعيد الأغنية، كانت مرحلة مخاض تولد عنه أغنية مختلفة تم وصفها لاحقًا بالبديلة حيث حلت كبديل للأغنية الكلاسيكية الطويلة، لكن قبل البدء في الحديث عنها لابد أن نتلمس الطريق حولها لماذا ولدت، وكيف ظهرت، وهل اشتقت معالمها من تجارب غنائية سابقة أم كانت ثورة شاملة حطمت كل ما كان قبلها؟
الصخب لم يدخل المدينة بعد
كان المشهد الغنائي الرسمي في الخمسينيات مستقرًا نسبيًا خلف عدة قوالب غنائية كانت هي الشكل السائد لأغلب تجارب الغناء، مونولوجات وطقاطيق عاطفية قصيرة تواكبت مع العصر الذهبي للسينما الغنائية، قالب القصيدة الغنائي، الأغنية المسرحية الطويلة التي تجمع بين قالب المونولوج والطقطوقة،تجارب غنائية كثيرة لأصوات مصرية وشامية مع سيطرة شبه كاملة للصوتين الأشهر في تلك الفترة «أم كلثوم – عبد الحليم حافظ».
مع بداية الستينيات ظهرت أغنية «تحت الشجر يا وهيبة» والتي كانت شكلًا جديدًا للأغنية الشعبية صاغ كلماتها عبد الرحمن الأبنودي ولحنها عبد العظيم عبد الحق وغناها محمد رشدي، كسرت تلك الأغنية هدوء الوسط الغنائي وكانت إعلانًا لبداية حقبة جديدة من الغناء المستمد من الفلكلور الشعبي المصري، ولاقى هذا الاتجاه دعمًا مكثفًا من مؤسسات الدولة التي رأت أن صوت رشدي الأقدر على الوصول والتلاحم مع طبقات الشعب من عمال وفلاحين والتعبير عنهم بل إن رشدي نفسه صرح في حوار مع عمار الشريعي بأنه كان يعد كي يكون مطرب المرحلة الذي أتى من الشعب ويغني للشعب ليعكس نفس المفاهيم التي كانت تصاغ عن عبد الناصر البطل الذي يمثل الشعب.
في تلك الفترة كان بليغ حمدي يبحث عن مشروعه الفني الخاص كي يتحرر من فلك المقارنة مع الكبار ويبدو أنه وجد ضالته في تطوير الفلكلور فكان يقضي الساعات يستمع إلى الألحان والثيمات الشعبية التي دونها وسجلها زكريا الحجاوي ويبني عليها ألحانًا جديدة قدمها مع شادية ورشدي ومحرم فؤاد حتى التقطه عبد الحليم حافظ الذي بدأ يغار من نجاح رشدي ليقدم معه أغنيات “التوبة – على حسب وداد قلبي – مداح القمر – سواح”.
سيطر تيار الفلكلور على ساحة الغناء أفضى إلى معارك فنية ساخنة بين المطربين والملحنين على أولوية استخدامه من جهة ما بين اتهامات بالسرقة والاقتباس من جهة أخرى حيث ظهرت أغنيات تتشابه مقدمتها الفلكلورية مثل «خدني معاك» التي ظهرت بأصوات “شادية – محرم فؤاد – محمد رشدي – ثناء ندا” موشح «قدك المياس» الذي غناه عبد الحليم بلحن بليغ حمدي وغناه محرم فؤاد بلحن محمد سلطان، وظهرت أصوات معارضة لهذا التيار برمته حيث كان يرى أن كثرة استخدام الفلكلور يعتبر ردة إلى الخلف وإفلاس فني.
وكعادة أصيلة في مشهد الغناء المصري حيث يتم حلب أي تيار غنائي جديد حتى آخر قطرة، تفحش تيار الفلكلور بعد نكسة يونيو حيث كان الشعب بحاجة إلى أغنية بسيطة ترفيهية يهرب بها أو تلهيه عن آثار الهزيمة، ولاقى هذا التيار رواجًا شديدًا من رواد الملاهي الليلية وظهرت أغنيات تندرج تحت بند الإسفاف والابتذال مثل «العتبة جزاز – الطشت قالي- ما اشربش الشاي» حتى وصلت الأغنية المصرية إلى مرحلة انهيار فني أفضى في نهاية الأمر إلى ظاهرة “أحمد عدوية” الذي سيصبح في ما بعد نجم ثورة الكاسيت الأولى.
على الطرف الآخر من النهر
على هامش المشهد الرسمي الستيني كانت هناك عدة مشاهد فرعية تحاول أن تبني مسيرة مختلفة، ظهرت أغنيات الفرانكو أراب بأصوات شابة مثل كريم شكري – سمير الإسكندراني – برونو موري- التي كانت تمزج الثقافة الموسيقية المصرية بالموسيقى الغربية، حققت أغنياتهم نجاحًا ملحوظًا مثل «يا مصطفى يا مصطفى – Take me back to Cairo» ثم أسس المطرب والممثل محمد نوح فرقة النهار كأول الفرق الغنائية التي تنتهج نهجًا غربيًا في التنفيذ الموسيقي وكان أول مطرب يغني بالعربية على فرقة غربية، وحققت أغنياته شهرة كاسحة بعد النكسة خصوصًا أغنية «مدد مدد مدد» امتلك نوح كاريزما بصوته الجهوري الأجش وأدائه المسرحي وكان قادرًا على إثارة حماس المستمعين.
تجربة نوح غير المكتملة كانت البذرة الأولى في صياغة الأغنية المصرية الحديثة حيث أدخل عليها مضامين غنائية جديدة معظمها سياسي وطني بعيدًا عن خطاب الدولة الرسمي في الأغاني الوطنية ذات الشعارات الحنجورية الطنانة.
على نفس الهامش كان هناك نشاط مكثف للفرق الغنائية التي تعيد تقديم أشهر الأغنيات الغربية للأجانب في مصر داخل الفنادق والملاهي الليلية، تأثرت تلك الفرق بقرارت التأميم حيث رحل معظم أعضاء تلك الفرق الأجانب من مصر وكان لا بد من تعويضهم بعازفين مصريين.
لو تتبعنا مسيرة الفرق الغنائية الغربية في مصر فلا بد أن نبدأ من عند شخصين جمعهما بالصدفة أنهما كانا ضابطين في الجيش المصري، الأول هو “صلاح رجب” الذي أسس فرقة “نايل دياموند” أوائل الستينيات وتعتبر أول فرقة جاز مصرية على العكس مما يروج له أحد الفنانين الذي يعطي لنفسه الريادة في إنشاء فرق الجاز في مصر.
بعد نكسة يونيو انتقل صلاح رجب من سلاح المدرعات إلى الموسيقات العسكرية حيث أسس فرقته الأشهر “كايرو جاز باند” التي قدمت عديدًا من الحفلات الناجحة في الأوبرا وفي قاعة إيوارت بالجامعة الأمريكية.
أما الشخص الثاني فهو “نبيل جرجس” الشهير بـ”ناندو” حيث بدأ حياته مطربًا غربيًا في فرقة صلاح رجب ثم اعتزل الغناء سريعًا تجنبًا للصدام مع النظام العسكري حيث كانت تطارده يوميًا الشرطة العسكرية وقرر التفرغ لتأسيس وإدارة الفرق الغنائية أشهرها على الإطلاق فرقة “Le Petit Chat” وكان ينظم مسابقات أوسكار الفرق الموسيقية الغربية في مصر في فندق فلسطين في الإسكندرية ثم أصبح وكيلًا لعديد من الشركات العالمية التي تصنع الآلاّت الموسيقية وأجهزة الصوت.
كانت هناك منافسة شديدة بين عديد من الفرق مثل «Black Coats، Cats ، The Strangers، The Wrong Notes» تلك الفرق تأثرت كثيرًا بثورة الروك البديل في أمريكا وأوروبا وكانت المتنفس الوحيد للأغاني الغربية في مصر بعد حظر استيراد الأسطوانات من الخارج، كونت تلك الفرق جمهورًا عريضًا من شباب الجامعات وأبناء الطبقة فوق المتوسطة.
رغم الشعبية التي كونتها تلك الفرق إلا أن ظهور الكاسيت قلص من أسهمهم كثيرًا في ظل رفض شركات الإنتاج إنتاج شرائط لهم وخرج أغلب عازفي تلك الفرق كي يبنوا مسيرتهم وتأسيس فرق تغني بالعربية مثل “عزت أبو عوف – هاني شنودة – عمر خيرت”
موت وميلاد
شكل رحيل أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ارتباكًا شديدًا في مشهد الغناء المصري وبدأت محاولات وراثة عرش عبد الحليم من “محرم فؤاد – ماهر العطار – هاني شاكر – عماد عبد الحليم” وكلها محاولات باءت بالفشل الذريع حيث انتفض الوسط الغنائي ليعلن انتهاء حقبة الأغنية الكلاسيكية وسيادة نغمة الغناء الجماعي مع توالي ظهور الفرق الغنائية مثل “الفور ام – الجيتس- الأصدقاء – طيبة – الحب والسلام” لينتهي عصر المطرب النجم وأصبحنا فى عصر نجومية الفرق.
بعد رحيل عبد الحليم سيطرت على الملحن بليغ حمدي فكرة إيجاد خليفة له، بدأ في تبني عديد من الأصوات الشابة مثل “عفاف راضي- على الحجار – محمد منير – محمد الحلو – توفيق فريد – سوزان عطية”، لم يكتب لمحاولاته النجاح باستثناء تجاربه مع “عفاف راضي – على الحجار” لأنه لم يستوعب أن ذائقة الجمهور بدأت تتغير وتنصرف نحو الموجة الجديدة من الغناء يتزعمها أحمد عدوية من جهة ومن جهة أخرى الفرق الغنائية التي بدأت تزحف لصدارة المشهد الغنائي والأهم من كل ذلك أن تجربة عبد الحليم لا يمكن استنساخها بأي حال من الأحوال.
تصدر مشهد الفرق الغنائية فرقة “المصريين” التي كونها هاني شنودة الذي بدأ يغير في شكل الأغنية المصرية بعد نجاح تجربته مع المطربة “نجاة” المحسوبة على تيار الغناء الكلاسيكي، قدم شنودة خطابًا غنائيًا جديدًا للأغنية المصرية تناول فيه العاطفة من منظور جديد تخلص فيه من أغاني الصد والهجر وسهر الليالي وقدم عديدًا من الأفكار الفلسفية التي تعكس مفهوم حرية الفرد في بناء خبراته الشخصية بنفسه مثل أغاني “حرية – لما كان البحر أزرق – هزني” وقدم عديدًا من الأصوات الجديدة أهمها “محمد هندي” الذي سيعرف لاحقًا بـ”عمر فتحي” بعد أن خرج من الفرقةوقدم تجربة ثرية جدًا رغم عمرها الزمني القصير، لكن يحسب له أنه أول من حطم الشكل الكلاسيكي للمطربين حيث كان يظهر بحلة بسيطة دون تكلف.
في نفس الفترة بدأ علي الحجار بداية كلاسيكية بعض الشيء مع بليغ حمدي في أغنيته الأشهر «على قد ما حبينا» ثم قدم رباعيات جاهين بصوته، وخرج ليبني مسيرة مختلفة بعض الشئ معتمدًا على فرسان الرهان في تلك الفترة “عصام عبد الله – مودي الإمام – فتحي سلامة – أحمد الحجار – خليل مصطفى – هاني شنودة – عزت أبو عوف” وحقق طفرات فنية في شرائط «اعذريني – الأحلام – ولد وبنت – متصدقيش»، أما رفيق دربه المطرب محمد منير فظل رهين مكتب بليغ حمدي ثلاث سنوات منتصف السبعينيات وكان من المفترض أن يقدمه بليغ في نفس الحفل الذي قدم فيه “علي الحجار” لكن فاروق منير شقيقه الأكبر كان يرى في مشروعه اتجاهًا مختلفًا لما يراه بليغ لذا قرر مع الشاعر عبد الرحيم منصور والملحن أحمد منيب الذهاب إلي هاني شنودة الذي قدمه في شكل غنائي جديد بدأ في شريط «أمانة يا بحر» الذي لم يحقق نجاحًا لكن نجاح فرقة “المصريين” بقيادة شنودة جعلت ملاك شركة سونار يواصلون الرهان عليه في الشريط التالي” بنتولد”، الذي حقق نجاحًا عوض فشل الشريط الاول، واستغلت الشركة هذا النجاح في إعادة إصدار الشريط الأولى تحت عنوان جديد «علموني عنيكي» الذي أصبح الآن من كلاسيكيات منير المهمة.
نجحت تلك الأصوات الجديدة في صياغة شكل جديد للأغنية أعلن عن بداية حقبة الأغنية البديلة، التي سوف نتعرف على معالمها ومسيرتها في الجزء الثاني.