منوّرة بأهلها: حكاية ملفتة أوشكت أن تفُسد ذاتها
منذ شهرين عُرضت الحملة التسويقية لمسلسل «منوّرة بأهلها» إخراج «يسري نصر الله»، وتأليف «محمد أمين راضي» من قِبل منصّة شاهد الأصلية. الميعاد الأول لعرض المسلسل كان 6 فبراير/ شباط. بسبب خلاف بين الممثل «محمد صبحي» و«تركي آل شيخ»، شارك الممثل «باسم سمرة»، الذي يؤدي دور «عادل الشهاوي» في المسلسل برأيه في الأزمة لصالح الفنان محمد صبحي. كرسالة تحذير، حُذفت بوسترات المسلسل على منصّة شاهد، وكذلك صفحة المسلسل على فيسبوك، وتلاشت حملة الإعلان. بعد اعتذار باسم سمرة بشكل شبه مباشر، أُعيد تحديد ميعاد جديد للمسلسل ليبدأ في أول مارس/ آذار.
يعود المخرج يسري نصر الله بعد غياب طويل، ويشارك لأول مرة في إخراج عمل درامي، من تأليف محمد أمين راضي، الذي يحظى بتقدير جيّد في كتابة دراما مطعّمة بتعدد الحبكة وتداخل الحدث الأشبه بمتاهة. يبدو المسلسل مكتملاً من ناحية أدوات العمل عليه، مخرج له حضور تاريخي متميز ومؤلف له أسلوب كتابة خاص، مجموعة من نجوم الدراما المصرية حاليًا، ليلى علوي وباسم سمرة وغادة عادل وأحمد السعدني. كذلك تبدو التكلفة الإنتاجية حاضرة في الفيلم، والتي تظهر في إتقان ديكورات المكان المختلفة، بسبب تداخل السياق الزمني للمسلسل منذ 1994 وحتى 2010.
كل هذه العوامل الإيجابية لصالح المسلسل، حتى تأخيره المتعلّق بالأزمة، جعلته ملفتًا ومحطًا للأنظار، هل استطاع المسلسل أن ينتج عملًا على قدر أدوات إنتاجه؟ وماذا عن حضور يسري نصر الله في الدراما؟ بالنسبة للسيناريو، هل يمكن أن تضيع حلاوة الفكرة في متاهات تداخل الحدث وتعدد الذروات؟
من السينما إلى التليفزيون: الإنتاج بأدوات جيل جديد
بدأ يسري نصر الله عمله في السينما كمساعد مخرج مع يوسف شاهين في أفلام «وداعًا بونابرت» و«حدوتة مصري»، وشارك في كتابة مع مساعدة شاهين في إخراج فيلمي «اسكندرية كمان وكمان» و«القاهرة منورة بأهلها» المقتبس منه اسم مسلسله. تعددت مشاركات نصر الله كمخرج مساعد وكاتب، ليس فقط في مصر، لكنه عمل كمساعد مخرج مع المخرج الألماني فولكر شلندروف والمخرج السوري عمر أميرلاي.
تنوّع تجربة نصر الله في عمله كمساعد مخرج ومشارك في الكتابة، ساعدته على خلق سينما حيوية وبها تجريب وقراءة لتركيبات المجتمع الثقافية والاجتماعية وتطور الحدث التاريخي وانعكاسه على طبقات المجتمع، صحيح لم تخلُ بعض أفلامه من سلبية تخمة الأفكار المعالجَة، وبشكل ما، التصق بأسلوبه أدوات فنيّة تنتمي إلى العالمي أكثر من المحليّ وبسبب ذلك ظهرت بعض أفلامه مفككة على مستوى الرؤية النقدية للمجتمع، لكن يظل نصر الله علامة مميزة في السينما المصرية.
واكبَ صاحب فيلم المدينة أساليب وحيثيات صناعة السينما منذ أول أفلامه، ويعتبر واحدًا من أكثر مخرجي جيله قدرة على التماهي مع كل مرحلة حسب تغيراتها، والقدرة على خلق لغة مشتركة مع الوضع المعاصر. عمل نصر الله في أفلام مختلفة النوع وكيفية الصناعة، عمل مثلًا بطاقم تمثيل غير مشهور في «سرقات صيفية»، وفي «مرسيدس» استعان بيسرا أيقونة هذه المرحلة، مع الحفاظ على اختبار وجوه جدد مثل باسم سمرة. أخرج نصر الله نصوصًا شارك في كتابتها، وأخرى مقتبسة من أعمال أدبية مثل «باب الشمس» المقتبس عن رواية الياس خوري، وأخرج فيلم «احكي يا شهرزاد» كتابة الراحل «وحيد حامد».
على مستوى سبل الإنتاج، عمل نصر الله على أفلام بدعم خارجي، وأخرى بإنتاج مؤسسي من الداخل، وأخيرًا قام بإخراج منورة بأهلها المعروض على منصّة أونلاين. تعددية تجربة نصر الله في كل نواحي صناعة وعمل الفيلم، تشير إلى قدرته على المرونة وتجاوز الفوارق الجيلية، على عكس معظم مخرجي جيله الذين توقفوا، أو لم يجدوا قدرة كافية على التعامل مع أسلوب عمل الفيلم/ المسلسل في الوقت الحالي.
أحالت خبرات نصر الله المتعددة السابقة في خلق عمل ممتع، حتى مع بعض التحفظات خاصة على سيناريو العمل سنتناولها لاحقًا. ثمّة تناغم في تركيب العناصر، توليف الجانب البصري مع سردية القصة، الحفاظ على التوازي بين سينماتوغراف ثريّة بصريًا تتسق مع تتابع المشاهد وعدم تحوّل العمل إلى مصدر مقتصر على جمالية الكادر، والأهم هو خلق توليفة ممثلين ممتازة رغم اختلافهم.
منورة بأهلها، يجمع نماذج من الممثلين كل منهم آتٍ من مرجعية تمثيل مختلفة. ليلى علوي من جيل أقدم من بقية ممثلي وممثلات العمل، معظم مشاركاتها كانت في إطار سينما محافظة، ليس على المستوى الأخلاقي ولكن على مستوى التجريب واستقطاب أساليب جديدة. غادة عادل، تقع في مساحة البين بين، شاركت بدور مقارب لدورها في المسلسل، مع المخرج محمد خان في «في شقّة مصر الجديدة»، في دوري غادة عادل، مع خان ونصر الله، اختلاف جوهري رغم التشابه المبدئي في الشخصية، كلتاهما قادمة من إقليم بعيد وضروري أن تنغمس في عالم القاهرة المركزية، لكن شخصية خان تعيش على هامش حميمية القاهرة المفقودة، بينما الأخرى الموجودة في منورة بأهلها، تقع في هوّة القاهرة الوحشية وطبقاتها غير المرئية، الساكنة في الأعالي.
يتواجد باسم سمرة –وهو اكتشاف يسري نصر الله- في المسلسل، ليكمل تجاوز أفق القولبة في الشخصية السينمائية المصرية، كل شخصية أدّاها سمرة مع نصر الله لها ميزتها، لكن تقمّص باسم لشخصية «عادل الشهاوي» في المسلسل خرج باقتدار وصنعة أدائية تفوق كل أدواره السابقة. خلف كل هذه الكوادر التمثيلية يوجد «محمد حاتم»، لم يحظَ ببطولة مسلسل من قبل، ويتواجد في «منورة بأهلها» كشخصية بارزة في سياق الأحداث.
ظهرت قدرة نصر الله في التمكن من حيثيات صناعة عمل متقن إخراجيًا، لكن هل الإخراج الممتاز يكفي؟
الكتابة عن كل شيء
خلال العشر سنوات الفائتة، ظهر للمؤلف محمد أمين راضي ستة أعمال درامية، ومسلسل «كل ما نفترق» انسحب من العمل عليه في مراحله الأخيرة. خلال مسحة زمنية سريعة لأعمال أمين راضي، نرى أنها تشترك جميعها في طموح كتابة نصوص مكدّسة بدلالات الكتابة المركّبة، لذلك السبب، انتهت على فقدها لشيء جوهري كي تكون أعمالاً متقنة بالفعل. بافتراض أن تجارب أمين راضي السابقة، على اختلاف المخرجين، يكمن جزء من سلبياتها في عدم قدرة مخرجي هذه الأعمال على الاشتباك مع النص كفاية، وبالتالي يتعامل المخرج مع إحدى طبقات النص الدرامي، أو على الأقل لا تنفذ رؤيته إلى ما وراء الحكاية الظاهرة، فتنتج عملاً يفتعل العمق.
حينما نحيل تركيبات العمل الدرامي جانبًا، وننظر إلى نصوص محمد أمين راضي بشكل مجرّد، فإنها تشترك في آفة حشر النصّ حدّ تجاوز الامتلاء، إحالات ودلالات ذاتية وفنّية وإعادة إنتاج مربك لحبكات جديدة، وخلق شخصيات بالضرورة لديها حضور، مميزة ومفوهة ولا بديل عن التعلّق الأولي بها.
في آخر تجاربه قبل «منورة بأهلها»، كتب صاحب العهد جزئي «مملكة إبليس»، رغم طزاجة الفكرة، وإيحائها المبدئي بقراءة دواخل التطور السياسي/ الاجتماعي للشارع المصري بعد ثورة يناير والسنوات الفارقة التالية لها، لكن الفكرة المبدئية تستحيل إلى تعقيد مربك، ومن ثم يعطي المسلسل انطباعًا بالتجريد، واستعادة أحداث إعجازية دينية وإعادة إنتاجها كمواد درامية.
جميل أن تخلق عملاً ثريًّا، متداخلاً ومفعمًا بتعددية مصادر الحكاية، لكن الأهم من ذلك هو القدرة على الانتهاء من كل هذه التوليفة لتظهر في شكل «متّسق». مملكة إبليس كان حكاية تبحث بعشوائية عن تشكّل ذاتها في منتصف الأحداث، لا تعرف كيف تستوفي إنهاء كل هذه المسارات المفتوحة، لذلك ظهرت أحداث المسلسل الأخيرة مهترئة، وكأن هذه المسارات الدرامية التي فتحت، لم يعد يناسبها سوى أن تتيه في تداخلات مستدامة ولا تنتهي عند نقطة نهاية.
نفس الرغبة الملحّة في تناول كل شيء ظهرت في مسلسل «منوّرة بأهلها». بدأت الحلقات الأولى بفرشة درامية جديرة بأن يتسمّر المشاهد أمام الشاشة حتى ينتهي من العمل، مصوّر يترك مدينة السويس ليعمل في مجلة بالقاهرة، وفي نقلة زمنية للأمام، يصبح نفس الشخص مقتولاً مرتين في شقته، ومتورطًا مع جماعة تقوم بأعمال مشبوهة غير معلومة، بينما هناك وكيل نيابة يلصق مجموعة قصاقيص صور مع بعضها، وصلته من المجني عليه، وتجميع هذه القصاقيص بمثابة حل القضية.
عقب هذه البداية «اللذيذة»، وبسرد متداخل للزمن ما بين 1994 و2010، استحال المسلسل خلال عشر حلقات فقط إلى مسارات تلزم ثلاثين حلقة على الأقل كي تنتهي.
على ذكر ثيمة الكتابة غير الخطيّة في الدراما، تسير نوعية هذه الكتابة على شعرة حادة، تتكوّن من عاملي التكثيف والاختباء. حضور التكثيف ضروري لخلق مساحات الفراغ الزمنية طويلة المدى، وحالة الاختباء معنيّة بتبديل المشاهد مع بعضها، بحيث يكون المشهد المعروض في زمن ما، يتستّر على زمن آخر، ويمهّد له بصورة مستترة، حتى لا تصبح هذه التداخلات مجرد مشاهد متفرقة تجمعها وحدة حكائية خارجية والسلام.
تتجاوز حكاية منورة بأهلها سلبية غياب الوحدة المشهدية، لكنها مع غياب إيقاع التكثيف في المشاهد تتداخل في إيقاع مربك. جزء كبير من المشاهد كان يمكن إيجازها لصالح مسارات أخرى، وجزء آخر لم يكن العمل بحاجة له من الأساس.
في الحلقات الأخيرة، يعود الزمن الدرامي بالشخصيات إلى الوراء، لإيضاح دوافع أفعالها الحاضرة، وعلى الرغم من ثبوتية نوع «الإيحاء المشهدي» بحيث إن سوابق الشخصية يتم إدراكها بأحداث عمومية سابقة، غير مباشرة، إلا أن الشخصية الأكثر أهمية في هذا السياق «سلوى شاهين» (ليلى علوي) تحكي تاريخها كله لفظيًا في مشهد فارق مع زوجها وابنها الباقي الوحيد، تسرد سلوى شاهين في عدة دقائق تاريخًا شخصيًا طويلاً، كان جديرًا باستعادته صوريًا عن أحداث كثيرة أخرى غابت في دوشة التداخل.
التلاعب السردي لعبة جميلة، وتم تنفيذها مبدئيًا في المسلسل بشكل لذيذ، لكن مثل معظم تكوينات القصة، تفرعت الذروات الوهمية واحتمالات الحقيقة من عدمها إلى مساحة شديدة العشوائية، حتى أصبح توجّه الشخصيات واندفاعاتهم تجاه الأحداث، وردود أفعالهم تجاه كل شيء، منصبًا بالضرورة تجاه خلق التواءة درامية جديدة، بعيدًا عن كون ذلك مشكّلاً لأي تطور ينعكس على الحكاية ككل أم لا.
شخصيات أيقونية
لم تمنع كل فخاخ هواجس التخمة والامتلاء في النص الدرامي من خلق أمين راضي شخصيّات أيقونية. في مسلسلات راضي السابقة، ثمّة خصوصية مميزة في كل شخصيّاته التي تنتهي عند اعتبارها علامة، لكنها كانت تصيب في عمل وتخيب في آخر، وبعد مشاهدة منوّرة بأهلها تبيّن أن ما ينقص حلاوة هذه الشخصيات المكتوبة بصنعة متناهية، هو مخرج «صنايعي» يستطيع أن ينقلها بتركيبتها متعددة الطبقات.
يؤدي باسم سمرة في المسلسل شخصية (عادل الشهاوي)، وهي بشكل ما أفضل شيء في المسلسل عن آخره. تقع ميزة عادل في قدرته على الموازاة بين قطبي الخير والشر بداخله، الشخصيات الأخرى تبدو في حالة شد وجذب، لكن عادل استطاع إيجاد التماهي بين قطبيه، بحيث أنه يستطيع، بأريحية وتلقائية، أن يلقي فكرة لا تخرج إلا من جوف إبليس، وعلى مستوى آخر، لا يزال عادل قادرًا على الحب، وعلى التعبير عنه بطريقة أو بأخرى، غير أنه الشخصية الوحيدة التي لم يتم العودة لماضيها مثل بقيّة الشخصيات، ومع التقشّف في عرض طبائع هذه الشخصية، إلا أنّها ظهرت الأكثر اتساقًا مع صراعها الداخلي.
على مستوى عمومي، اتسمت شخصيات أمين راضي بالحيوية والقدرة على السخرية، مهما بدى فسادها الواقعي وتحكماتها في «الآخر» الأقل قدرة، تظل شخصيات طبيعية، من ناحية أنّها متجاوزة «للتضخّم» الظاهري كي تملأ موقعها الدرامي، في الأخير هي شخصيات تتحكم بشيء من ناحية، وعلى نفس القدر من الأهمية، تفتقد القدرة على التحكم بأشياء أخرى مقابلة، وهو ما يجعلها، مهما تداعى شرّها أو خيرها، شخصيات نابعة من هواجسنا الذاتية.
رغم فرادة شخصيات راضي، وقدرتها النافذة على مواجهة هواجسنا البعيدة، التي تمثّل مخاوفنا الكبرى من نسخ سيئة ربما نكون عليها لاحقًا، تظل هذه الشخصيات واقعة في فخ تجاوز حيّزها الواقعي عند مراحل تطورها القصوى، وهي ذاتها مشكلة راضي في كل أعماله، أن يبدأ العمل بمستوى بديع، ومن ثم تتفاقم تطوراته حتى يتجاوز حيّزه الذاتي. جميع شخصيات راضي مفوهة، أدبية وقادرة على التعبير، انتقاؤها للألفاظ عادة نابع من طبيعة حكي شعبية، ابنة الشارع وسجالات الطبقة المتوسطة، وذلك يجعلها دائمًا شخصيات فارقة، ثمّة افتقار للعادي، الذي لا يقل أهمية عن ما نشاهده من شخصيات فارقة ومميزة وخاصة جدًا. إن كانت هناك أهميّة في ترجمة الهاجس الواقعي في دماغ المشاهد، فهناك أهمية موازية بنفس القدر، أن تكون هناك شخصيات تحاكي ما يبدو عليه المشاهد الآن.
سواء اتفقنا أو اختلفنا على جودة المسلسلات التي كتبها محمد أمين راضي حتى الآن، يظل المؤلف جديرًا بتقدير مجهوده في تناول الأفكار، والتي بدت جميعها بعيدة عن الاستسهال والدخول في سياق الكتابة الجماعي المنتشر. يبحث راضي عادة عن العمل بطرقه الخاصة، بشكل أحيانًا لا يكون فقط بديلًا للسوق، بل يتحوّل إلى ضد له. دفاعات الكاتب عن مواضيعه حاضرة في كل مسلسلاته، و رغبته الكاملة في خلق عالم يعنيه، قبل التفكير في مدى اتساقه مع كونه شعبيًا أم لا، تجبر الواحد على تقدير تجاربه.
المنصّات و أفق الحرية في الإبداع
ما ذُكر سابقًا، لا ينفي أن «منوّرة بأهلها» مسلسل «جميل» عمومًا، لا يخلو من صورة جميلة وحيوية وذات دلالات، وكذلك القصة رغم هفواتها تظل حدوتة ملفتة. الدراما المصرية حاليًا، بسبب مدى فقرها، في حاجة لأعمال تستقطب أسئلة حول ما هو جيّد وما هو سيئ، وتفتح مساحة نقاش حول الأعمال الجديدة لمشاهدين جدد.
على ذكر المشاهدين الجدد، تختلف الدراما المصرية الآن عن شكلها السابق في أي مرحلة. منذ الثمانينيات وحتى 2010، العمل التليفزيوني يتخذ من «البيت» جمهوره الأثير والمركزي، بداية من مسلسلات أسامة أنور عكاشة وحتى الخلطة التجارية الكبيرة، والتي ظهرت منها أعمال جيّدة خلال الألفينات. منذ 2010 وحتى الآن، ظهرت المنصّات في السنتين الأخيرتين كنتيجة منطقية للتطور المطلوب، ولسدّ الحاجة الملحة في مراوغة الكود الأخلاقي المجتمعي، لأن الجمهور المتابع الآن لم يعد البيت فقط، ولم تعد المسلسلات مناسبة أولًا «للعائلة».
اتسعت بقعة استقطاب الدراما لأفكار جديدة، نظرًا لتطلّب المشاهد الجديد، الذي أصبح متصلًا بالمنتج الدرامي العالمي ككل، باتت هناك صفحات على فيس بوك تعرض مراجعات سريعة لمسلسلات عالمية، وكذلك وفرّت المنصات مساحة استقطاب أوسع، ولدينا نتفليكس الآن في مصر، منافس إنتاجي ومنصّة عرض توزّع استثمارها التجاري في أعمال درامية وسينمائية.
وفرت منصّات العرض هامشًا أوسع للحرية ضد التعسّف الرقابي، أو ربما بشكل ما خلقت مراوغات جيّدة بفعل بعد هذه المنصّات عن مؤسسيّة الإنتاج المصري. مسلسل منورة بأهلها مفعم بالإيحاءات الجنسية، والتي بدت مقبولة لأنها ابنة الحوار المصري الدارج، أو بشكل أكثر توضيحًا، لأن ذلك ما نسمعه عادة في الشارع وفي حواراتنا اليومية.
أزمة العلاقة بين التعسف الرقابي والحريّة الإبداعية لا تتعلق فقط بقبول سبّة أو مشهد تعرٍّ، لكن أفق الأعمال الحالية يحاول تغيير أشكال القوالب الثابتة، مثل ثبوت «شكل مسبق» للطبقات الاجتماعية، أو ضرورة وضع نهاية للمسلسل الأكثر أهمية فيها أن تكسب مساحة إعجاب واسعة، حتى يكون مقبولاً لمشاهدات المقهى والمنزل والتكتّلات الجماعية، أصبحت هناك حاجة ملحّة لاختبار ما هو محتمل أن يكون إضافة للمشاهد، فكرة جميلة لم يتم «هرسها» في أعمال كثيرة سابقة مثلًا.
لا نبحث عن أن ينتهي صنايعي يومية أو موظف في مصلحة حكومية أو ربّة منزل من عملهم، ثم يشاهدوا في الليل أعمالاً تحاكي هذه الموجة الدرامية النخبوية، لكن نفس هؤلاء الأشخاص مشبّعين بمحبة مسلسلات مثل ليالي الحلمية وزيزينيا وأرابيسك، وهي الآن تعتبر أعمالاً مرجعية وتعاد مشاهدتها.