موضة المسيري
بين الحين والآخر، أطالع مقالا عن الراحل جسدًا الباقي فكرًا وعملا الدكتور عبد الوهاب المسيري (رحمه الله)، تزداد وتيرة المقالات في مواسم بعينها مثل يوم ميلاده، ويوم وفاته، وأوقات احتدام المواقف السياسية وقت الثورة في مصر…إلخ. ومعظم ما يأتي في المقالات المذكورة الاحتفاء بفكر المسيري وما قدمه للمكتبة العربية من أعمال باقية، ما يجب على المثقف العربي عمله من الثبات على عهد المسيري الذي بذر بذرة التجديد والاجتهاد، وأثرى الفكر العربي بعدما أصابه الركود مدة طويلة، ويقف الأمر عند هذا الحد دون الكلام عن فكره تفصيلا والتعرض لما أنجزه نقدًا وتحليلا.
يقف هذا إلى جانب ظهور بعض طلابه في صور لهم معه على صفحات الفيس بوك مع كتابة بعض الكلمات الرقيقة استعادة للذكريات لأنه تبنى – رحمه الله – مفهوم «الأبوة غير البيولوجية» للعديد من الشباب، ضحايا عصر الحداثة وما بعد الحداثة الذين لا يجدون قدوة في زمن طغى فيه الفكر الواحدي المادي على أنماط التفكير ومجريات الأمور.
وتم إعلاء المصلحة على القيمة، وبزغت فيه سيولة المعارف دون تعقل أو إمعان للنظر. تعرفت على كثيرين ممن عاصروا المسيري في فترة إقامة صالونه الثقافي بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، ورصدت الكثير من الأقاويل حول حياته، وحكى الكثيرون مواقف شخصية جمعتهم بالمسيري، واستدعى البعض نوادر وطرائف ربطت بينهم وبينه.
وبما أن المقال ليس للبحث والاستقصاء، فلم آتِ بعناوين لبعض المقالات التي أوردت خلاصة ما فيها من حفاوة بفكر المسيري، وما ذاع فيها من عواطف – لا أنكر صدق كثير منها لتقدير تلامذته له وإخلاصهم لذكراه – لأحللها وأرصد ما فيها من القصور المُتَجَلي في المبالغة، واكتفيت بالإشارة العابرة لمثل هذا النمط السائد في كثير من الكتابات عن المسيري.
ومما لا شك فيه أن المسيري في ثقافتنا العربية الإسلامية له من المكانة ما لهيجل الفيلسوف الألماني الشهير في الفكر الغربي الحديث، والقاسم المشترك بينهما أنه كما يقول النقاد الغربيون أن الفلسفة الغربية قُسمت إلى نصفين ما قبل هيجل وما بعده ؛ فالفلسفة الغربية بعد هيجل أضحى لها نسقٌ مُحكمٌ وقوالب واضحة، وهذا إن جاز التشبيه ما يمكن قوله على المسيري، إذ أن نسق المسيري الفلسفي يفرق الفلسفة العربية الإسلامية إلى ما قبل المسيري وما بعده بعدما وضع كثيرا من القضايا الفكرية الشائكة في نسق فلسفي متسق.
فيجد القارئ لفكر المسيري نفسه كإنسان يتجول في قصر لفنان مرهف الحس، مدقق في التفاصيل، فعلى مستوى البنية اللفظية نجد أنه نحت كثيرا من المصطلحات الجديدة وأدخلها في نسقه الفلسفي حتى تناسب النماذج التفسيرية التي بلورها، مرورًا بالنسق التوليدي الذي تبناه ككل، فتفاصيله منسجمة مع كله وكله متسق مع تفاصيله، وكان هدفه أن يجد الباحث العربي المسلم ما يستطيع به إنجاز عمله البحثي من نماذج «أكثر تفسيرية» وألا يظل فريسة للنماذج التفسيرية واحدية البعد والتي تجهز على الحقل البحثي العربي أو على الأقل لا تأتي بالنتائج المطلوبة.
ولكن إذا ما توقفنا أمام هذا الأمر – أي الحديث عن أمجاد المسيري وبطولاته وقت المواسم – فقد تتحول الذكرى إلى أيقونة نخرجها في أوقات معينة لنتذكر الأيام الخوالي، أو نبكي أمامها لنطهر ما بداخلنا – على مذهب أرسطو للفن الجيد – أو لتنبثق مشاعرنا في لحظة فنريح الضمير من المسئولية التي ألقاها على عاتق هذا الجيل بالجهد الذي بذله في ميدان الفكر…إلخ، أو أن تستحيل الظاهرة الفريدة إلى موضة تُجتَر للحديث عنها وقت المواسم.
وهذا جد خطير، وله من المآلات السلبية الكثير أهمهما في تقديري آفتين: تتجلى الأولى في كون الانبهار الزائد بأي ظاهرة يشبه فلاش الكاميرا، ضوؤه قوي ولكنه يُعمِي. فالمسيري ظاهرة ولا شك ولكنها ظاهرة لا تحتاج إلى الانبهار الذي يعمي عن الإرث الحقيقي الذي ورّثه لجيلنا، ولأنني أقرأ كثيرًا في كتابات المسيري أعلم جيدًا ما أقول، فكتابات المسيري ليست كتابات تثقيفية ولكنها تكوينية؛ فهي تُحدث في ذات الباحث تغييرًا شاملًا في رؤيته للقضايا والأمور.
فأعماله الفكرية تُدمج في ذات الباحث دمجًا يختلط بذاته فكرًا وشعورًا، ولهذا فهي تقرأ مرات عدة نظرًا لطبيعتها التكوينية، وتقرأ بشكل حلزوني لا بغرض الانتهاء ولكن لأن كل دائرة تُستَوعب في الدائرة الأكبر ولا تلغيها، ومع تطور الباحث فكريًا يحتاج لإعادة قراءة أعمال المسيري، ولهذا يأتي الانبهار والاحتفاء المُبالغ فيه ليعمي عن رؤية تفاصيل الصورة، ويحول دون الإدراك الواعي والتعقل المتدرج للقضايا الفكرية المطروحة في نسق المسيري الفلسفي.
أما الآفة الأخرى فهذا الانبهار المُبالغ فيه في ظني يعبر عن كون حالة الانهزام نفسي أمام الآخر -وأعني الغرب- لا زالت متجذرة؛ فكثيرًا بعدما أقرأ مقالات من مثل النوع الذي يحتفي بالمسيري دون نقد أفكاره أو بيان ما تحتاج إليه من استكمال وإضافة، والمسئوليات المُلقَاة على عاتق جيل مثقفي هذا العصر في ظل التحديات الفكرية والثقافية الراهنة.
أرى المسيري قد تلبس حالة أسطورية في أعين ناظريه، دون تعميم، فقد أصبح كالفارس المغوار الذي دخل بجواده في عقر دار الغرب، وجندلهم بل و«عَلم عليهم»، وأشعر كذلك بالعجز، وكأن التدافع قد توقف، فلن يأتي كارل ماركس بعد هيجل في ثقافتنا فيجلي أفكار المسيري، بل وينقدها ويضعها في أنساق أكثر حركية وأكثر تعيينًا.
ومن هنا يجب على الباحثين الجادين المهتمين بميدان الفكر الذي اجتهد فيه المسيري -كنقد العلمانية والحداثة وما بعد الحداثة وغيرها من ميادين الفكر التي صال فيها وجال- العكوف على فكره، كما فعل الهيجليون مع فكر أستاذهم من بعده، والشرب من معينه أكثر من مرة، والاختلاف حوله، فلا مشكلة في ذلك، بل ونقد أفكاره ومعرفة كوامن القصور فيها -مثلما كان حال ماركس مع فكر أستاذه- فعدم الإحاطة شأن أي فكر بشري، حتى تستمر الحركة الفكرية التي أثراها المسيري في نسقه التوليدي الحي مقارنة ببقية النماذج الإدراكية الواحدية المجتلبة من الغرب دون نقد وتمحيص لئلا تتحول ظاهرة المسيري إلى موضة، ولا تستحيل ذكراه إلى أيقونة.
والله أعلم