فيلم «All Quiet on the Western Front»: أيقونة اللاحرب الألمانية
بهذه الكلمات تم تقديم فيلم «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية» في أواخر السبعينيات، الفيلم المبني على رواية حملت نفس الاسم ونُشرت للمرة الأولى عام 1928، الرواية الألمانية الأشهر على مر التاريخ، التي تُرجمت بعد عام واحد على نشرها لما يقرب من 26 لغة، وحصلت النسخة السينمائية الأولى منها عام 1930 على الأوسكار في أحد أوائل نسخه.
الرواية التي كتبها الألماني إريك روماريك تخبرنا حكاية شاب ألماني ذهب تطوعًا للحرب العالمية الأولى عام 1917 على أمل أن يمشي في شوارع باريس منتصرًا، فوجد نفسه رفقة مئات الآلاف من الجنود في خنادق وأخاديد الجانب الغربي، حيث حارب الألمان الحلفاء والفرنسيين خصوصًا، عالم غرائبي، كابوسي، مات فيه 3 ملايين جندي من أصل 17 مليون قتيل في هذه الحرب. كيف روى الألمان حكايتهم في نسخة الفيلم الأخيرة المتاحة للعرض في خريف عام 2022، وكيف تكتسب الحكاية معنىً جديدًا الآن؟
استعادة الحكاية
أول ما يرتطم بك من الحكاية هي لغتها، الحكاية الشهيرة تمامًا في كل أنحاء العالم، رُوِّيت فيلميًا مرتين بالإنجليزية، والآن يستعيد الألمان حقهم في روايتها بلغتها الأصلية، اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل هنا، ما كتبه إريك روماريك كجندي عاش شخصيًا مأساة الحرب، لا يمكن التعبير عنه بشكل مكتمل إلا بلغته الأم، الألمانية، تلك اللغة الغاضبة، البدائية، والدقيقة للغاية أيضًا، اسم الحكاية ذاته يصبح مختلفًا بالألمانية، فيتحول من «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية» إلى «Im Westen nichts neues» أو «لا جديد على الجبهة الغربية». نعم، ففي حقيقة الأمر لم يكن كل شيء هادئ على الإطلاق. فالجانبان محصنان في خنادقهما، والقتل مستمر، لا جديد.
دانييل برول الوجه الألماني الأشهر في الفيلم، وأحد منتجي الفيلم المنفذين، صرح بشكل واضح بأنهم أرادوا أن يحكوا الحكاية أخيرًا من وجهة النظر الألمانية، وبالتأكيد صنع هذا فيلمًا مختلفًا بكثير عن أفلام الحرب الأمريكية. فيلم يتصدره وجوه شباب مثل فيلكس كامرير الذي يقدم تقمصًا هادئًا وتعبيرًا حركيًا وبملامح الوجه ينقلنا إلى الصفوف الأولى لكابوي الحرب.
أرقام لا أرواح
في أحد تتابعات الفيلم الأولى نتابع بشكل سريع حكاية جندي ألماني يدعى «هاينريش» شاب يتبادل حديثًا قصيرًا ووديًا مع أحد رفاقه، قبل أن يتم دفعه دفع لتسلق أحد الأنفاق للقيام بموجة هجومية على الفرنسيين، يُقتل صديقه بمجرد أن يرفع رأسه خارج الخندق، أما هو فيستمر قليلًا، نتابعه وهو يسقط ويختبئ، ينجح في طعن جندي فرنسي، قبل أن تخترقه رصاصة وتنهي حياته، نتابع عقب ذلك كيف يتم جمع الجثث، كيف يتم تجرديها من ملابسها، رتق الثقوب التي يمثل كل منها رصاصة، ثم غسلها وكيها وتقديمها من جديد لجنود جدد.
بطل حكايتنا الرئيسي في هذا الفيلم هو «باول»، شاب أنهى مرحلة الثانوية «الأبيتور» كما يسميها الألمان، ترفض والدته ذهابه للحرب، فيزور توقيعها ويذهب رفقة أصدقائه في جو ملون وإيفوري، يتسلم باول سترة تحمل اسم «هاينريش»، يعتقد أن هناك خطأ ما، أنها سترة شخص آخر، لكن الضابط يخبره ببساطة أن «هاينريش» وجدها ليست مناسبة لمقاسه. تُزال يافطة الاسم الخاصة بهاينريش في لحظات ويتسلمها «باول».
في هذا التتابع القصير ينقلنا الفيلم لعالم فيه هؤلاء الشباب مجرد أرقام، لا يهتم أحد بأحلامهم أو بكونهم بشرًا، الجنود في الحرب لتموت، يستبدلون ليستمر القتال ويستمرون كقتلى وقتلة.
كابوس
السرد في الفيلم ليس معقدًا، لدينا خطان رئيسان، خط الجنود وما يعيشونه، وخط القادة بين المفاوضات والاستمرار في العناد. خط الجنود له عالم بصري كابوسي دون أدنى شك، استخدام للألوان الرمادية والخضراء الباهته، رماد وحريق ودمار وقتل، كادرات قريبة أثناء القتال، وحشية تملأ الشاشة، وكادرات بعيدة أثناء هرب الجنود أو هرولتهم في أرض المعركة، يظهر فيها هؤلاء الجنود كأطفال وسط جحيم لا ينتهي.
شريط الصوت نفسه يتخلله موسيقى تحمل التهديد والرعب، صوت إلكتروني حاد ومزعج يصنع دفقات غير متوقعة بين الفينة والأخرى، نبدو كما لو كنا في عالم ديستوبي صممه بعناية المخرج إدوارد بيرجر ومدير التصوير جيمس فريند والمؤلف الموسيقي ڤولكر بريتلمان.
الجنود في «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية» لا يخفون خوفهم، يصرخون، يبكون، ولا يستطيعون منع أنفسهم من القيء أو التبول خوفًا في بعض الأحيان.
أوسكار لا حربي ألماني؟
الفيلم الذي أنتجنته «نتفليكس» وعرض بشكل محدود في صالات السينما هذا العام قد رُشِّح ليمثل ألمانيا في سباق الأوسكار، الفيلم يستحق دون شك الوصول للقائمة القصيرة بل ويمكنه خطف الجائزة، لكنها حسبة لا تتوقف على القيمة الفنية للفيلم وحسب، ولكن أيضًا على مزاج لجنة الأوسكار هذا العام.
ما يزيد أهمية عن الأوسكار نفسه، هو أن ألمانيا قدمت هنا نسخة قد تكون هي الأكثر لا حربية وسط كل أفلام الحروب الأمريكية الضخمة التي شاهدناها في الخمسين سنة الماضية، لا بطولات على الإطلاق داخل الفيلم، فقط إحساس بالشفقة يتم تكوينه على مهل لدى المشاهد من تطور أحداث الفيلم، شفقة وشجن من دون حلاوة.
لا بطولات كما فعل ميل جيبسون في الفيلم المتوج بجائزتي أوسكار في عام 2017 (هاكسو ريدج)، الفيلم الذي يبرز ما يراه الأمريكان كبطولة مسعف في إنقاذ جنود أمريكان صنعوا واحدة من أكبر المذابح في حق اليابانيين في الحرب العالمية الثانية، هنا في الفيلم الألماني الكل خائف، الكل جبان، الكل يقتل لكي لا يتم قتله، نرى الفرنسيين والألمان بنفس الدرجة من الحميمية والشفقة، بل إن الجنود أنفسهم يشعرون بهذا بعد قتل بعضهم بعضًا، لا وجود لهدف بطولي في تحقيق مهمة كبيرة، لا وجود لهذا الشجن البطولي الذي يحبه الأمريكان في أفلام مثل (إنقاذ الجندي رايان) لستيڤن سبيلبيىرج، هنا فقط حزن خالص على الجنود، وغضب موجه بشكل واضح تجاه القادة، الذين ما زالوا يبدأون الحروب حتى هذه اللحظة.
الفيلم يكتسب قيمة مضافة في السياق الأوروبي الحالي من دون شك، خصوصًا مع هجوم الروس على أوكرانيا، يلوم بعض المتأثرين بالدعاية الروسية الأوروبيين على عدم التورط في الحرب، يجدون في هذا انعدام للشجاعة، لكن الشجاعة هي آخر ما يمكننا أن نصف به قادة يرسلون شباب بلادهم للموت. والحرب ما هي إلا موت، ولا شيء جديد حتى هذه اللحظة على الجانب الغربي.