كتاب «لكل المقهورين أجنحة»: التغريدة الأخيرة لرضوى عاشور
الذين عرفوا رضوى عاشور واقتربوا من عالمها، ولو من خلال كتابٍ واحد، سيدركون على الفور أن هذه السيدة الاستثنائية ليست مجرد روائية يقتصر عالمها على كتابة القصص والروايات، وأن عالمها الثري متعدد الأوجه والأطراف يصعب الإحاطة به فعلًا، فهي المثقفة والأكاديمية والمناضلة والباحثة والروائية والمفكِّرة، تسعى للمساهمة والمشاركة في شتى النواحي الإنسانية، بل إنها كانت تفعل ذلك كله منذ شبابها وتفتح وعيها المبكِّر وحتى آخر سنوات عمرها.
حسنًا فعلت دار الشروق وزوجها الشاعر «مريد البرغوثي» بجمع ما تبقى من مقالات مهمة لرضوى عاشور تناثرت على مدى سنوات عمرها المديدة في مواقع وصحف عربية مختلفة، ليرد لهذه الكاتبة والروائية الكبيرة جزءًا من حقها، وليمنح الدارسين والباحثين والمحبين مادةً ثرية وخصبة في شتى مجالات الحياة التي شاركت فيها الأستاذة رضوى عاشور، وليمنحونا المزيد من المتعة مع مطالعة كل كلمةٍ قالتها وكل صفحةٍ كتبتها في مناسبات مختلفة وحول عدد كبير من القضايا والأفكار والمواضيع.
يأتي كتاب «لكل المقهورين أجنحة» بمثابة تغريدة أخيرة لرضوى عاشور التي بقيت في قلوب وعقول محبيها حتى هذه اللحظة، لا زالوا يستعيدون كلماتها ومقولاتها كما شاءوا، ولا تزال تمثل لهم ذلك النموذج الاستثنائي للمرأة التي استطاعت أن تجمع باقتدار بين الفن والأدب والدراسة الأكاديمية والمشاركة بفعالية في نشاطات المجتمع الثقافية والسياسية المختلفة، يأتي هذا الكتاب ليجمع ما تناثر من مقالاتها التي كتبتها في مناسبات مختلفة، وليوثِّق عددًا من الأحداث والمواقف التي عاشتها وشاركت فيها.
يأخذ الكتاب اسمه من حكاية في التراث الشعبي الأفريقي الأمريكي، ترمز بوضوح إلى ما يمتلكه المقهورون من إمكانيات تجعلهم رغم كل معاناتهم وآلالمهم قادرين على النهوض بل الطيران من جديد. قُسم الكتاب إلى 7 أبواب تبعًا لموضوعاته، فيما سيجد القارئ أنه كان من الممكن جدًّا أن يقسَّم إلى أربعة أقسام هي: في اللغة والأدب ـــ فلسطين ـ الجامعة والثورة ــ الرفاق، ويمكن ضم البابين الأخيرين (كلمات قبول الجوائز ــ مقالات مكتوبة بالإنجليزية) ببساطة للأقسام السابقة تبعًا لنوعها.
في اللغة والأدب .. شجون النقد والكتابة
يبدأ الكتاب بأهم الأجزاء اقترابًا من عالم القارئ العربي، وهو ما يتعلق بالكتابة الأدبية والرواية بشكلٍ خاص، ذلك المجال الهام الذي عرَّف الناس على رضوى عاشور وجعلها في فترة بسيطة واحدة من أهم الأدباء في الوطن العربي بشكلٍ عام، يجمع هذا الباب بين الحديث المقالات العادية والشجون الخاصة التي كتبتها رضوى عاشور تعليقًا على أعمالها الأدبية أو قدمت بها حفلات التوقيع الخاصة برواياتها، وكذلك عددًا من المقالات التي تعد دراساتٍ أدبية ونقدية تكشف فيها رضوى عاشور الأكاديمية والناقدة عن عدد من الكتب والمؤلفات الهامة في حقل الرواية العربية وتتناول فيه بعض الظواهر الأدبية والنقدية بالشرح والتحليل.
تتحدث رضوى عاشور عن بدايات الرواية في العالم العربي، وترجع بالفضل لأهله في جيل الرواد ممن حملوا على عاتقهم هم كتابة الرواية في بدايات القرن العشرين، وتلفت الأنظار إلى رواية لم يتم التركيز عليها كثيرًا في الأدب العربي هي «الساق على الساق فيما هو الفارياق» لأحمد فارس الشادياق، وسيلاحظ القارئ أن الحديث عن هذه الرواية يتكرر في الكتابة في الجزء الخاص بالأدب هنا، ثم سيظهر مرة أخرى في المقالات المترجمة عن الإنجليزية، وتتناول بالتفصيل تلك العلاقة الملتبسة بين الرواية والتاريخ.
كما تشير أيضًا بشيءٍ من الإيجاز في هذا الباب إلى عددٍ من المناهج النقدية الحديثة مثل المادية الثقافية والتاريخية الجديدة، وهي لا تتوقف عند تعريفاتها النظرية بل المحاولات التطبيقية التي جرت مؤخرًا باستخدام هذه المناهج، وهو ما يجعل دراسة كهذه مرجعًا نقديًا هامًا لطلبة الدراسات العليا في كليات الآداب. كما تفرد مقالاً/ دراسةً أخرى عن أدب السجون في العالم العربي تمر فيه على روايات «شرق المتوسط» لعبد الرحمن منيف، ويوميات الواحات لصنع الله إبراهيم وكتاب «معتقل لكل العصور » لفوزي حبشي و «تلك العتمة الباهرة» للطاهر بن جلون .. وغيرها.
عن الجامعة والثورة من الخاص إلى العام
لا شك أن شجون الأستاذة الجامعية لا بد ستحضر بقوة في ذلك الكتاب، لاسيما مع التحولات التي شهدتها الجامعات المصرية قبيل اندلاع الثورة وأثناءها، وكذلك الشجون الخاصة بالتعليم الجامعي في مصر، وما تطرحه رضوى عاشور وما ترثيه من تدهور حال عدد من الجامعات المصرية والانتشار المؤسف لظاهرة الكتاب الجامعي وغيرها من ظواهر سلبية مؤثرة في سير التعليم، وكذلك البحث عن استقلال الجامعة الذي كانت رضوى عاشور واحدة من أهم المنادين به والمشاركين في المطالبة بتحقيقه طوال فترة عملها.
في الجزء الخاص بالثورة تنكأ رضوى عاشور ذكريات عديدة وترصد بعينها وخبرتها الميدانية عددًا من مشاهد ومواقف الثورة منذ اندلاعها في الخامس والعشرين من يناير 2011 مرورًا بعدد من الأحداث الهامة التي تستوقفها بشكلٍ خاص لتثبت فيها موقفًا أو تنعى عددًا من الشهداء، حتى تقدم نموذجًا عمليًّا لكيفية تعامل المثقف الوطني المخلص مع قضايا وطنه في كل وقت بفعالية. فتقدم في بداية هذا الفصل شهادة هامة مفصَّلة عن «سرد الربيع العربي» وما يمكن أن يقدمه الكاتب والروائي في مثل تلك الأحداث الهامة، راصدةً عددًا من المشاهد الحية من ميدان التحرير خاصة في أيام الاعتصام الثمانية عشر، ثم تتناول عددًا من الأحداث المأساوية التي حدثت في الثورة وتتوقف عندها بشهادات خاصة، فتتحدث عن مذبحة ماسبيرو والشهيد «مينا دانيال» كما تتناول مذبحة الألتراس في مقال «عصافير النيل» وكيف أن تلك المذبحة الأليمة كانت معدة لضرب ثورة يناير وشبابها بشكلٍ سافر.
المثقفون وفلسطين
من أهم ما يقدمه الكتاب تلك الشهادة التي تحمل بصمة واسم فلسطين، إذ لم يكن الشأن الفلسطيني في حياة رضوى عاشور أمرًا ثانويًّا أو عابرًا، بل موقف مهم وحيوي، تشارك في كل فعالياته بقوة، وتعبر عن انحيازها الكامل للقضية وحق الفلسطينيين فيها، ولذا فهي تذكر في عدد من مقالاتها مواقف هامة تتعلق بالقضية الفلسطينية على امتداد الزمن، تكتب نصًّا شديد الخصوصية يقطر بالألم عن مذبحة قانا، ثم ترصد توثيقًا تاريخيًّا لمذبحة صبرا وشاتيلا 1982 في كتاب بيان نويهض عنها، وتحلل ما جاء فيه وتكشف عن كونه كتابًا مؤلمًا ولكنه شديد الأهمية لأنه يروي عن مذبحة إنسانية مروعة بصدق شديد.
يتناول هذا الفصل أيضًا موقف المثقفين المصريين من معاهدة السلام ثم من التطبيع مع إسرائيل منذ وقت مبكر، وحتى الأيام الأخيرة، تلك القضايا الشائكة التي كانت رضوى عاشور من أوائل الكتَّاب والمثقفين الذين يحسمونها بحدة ووضوح، ولا يقبلون فيها التلون ولا المهادنة، وهو موقف يعرفه عنها الجميع بكل تأكيد، ولكنها تضيف هنا في شهادتها موقف الكاتب والمفكر الكبير توفيق الحكيم الذي اعتبرته موقفًا مخزيًا حيث رحب بمعاهدة السلام حينها، وأرسل برقية للرئيس السادات يعبِّر له فيها عن ذلك.
رد الجميل لأصدقاء العمر
كان من حسن الحظ أن عاشت رضوى وأقامت صداقات قوية مع عدد من المثقفين العرب في مصر وخارجها، اقتربت منهم واستطاعت أن تكشف لنا عن جوانب خفيَّة ومهمة من عالمهم، لذا أتى الفصل الخاص بالحديث عن الرفاق مطعمًا بالحنين والشجن، مع ما تحمله كتابة رضوى عاشور من توثيق وتحليل علمي رصين في آنٍ معًا، من هنا تأتي أهمية ما تكتبه عن إدوارد سعيد، ولطيفة الزيات، ونصر أبو زيد، وفاطمة موسى، وإحسان عباس وناجي العلي وغيرهم .. حيث تعكس لنا مقالاتها جوانب أخرى هامة من حياة هؤلاء المفكرين والأدباء الذين قضوا حياتهم في خدمة الثقافة العربية، كل بطريقته. فنجدها في مقالها/دراستها الخاصة بإدوارد سعيد توجز بشكلٍ مكثَّف مسيرة وحياة ذلك المثقف الكبير وأهم محطات حياته وإشارة لأهم مؤلفاته ودورها في إثراء الثقافة العربية وتعريف الغرب على وجهٍ آخر للمثقف العربي، ودوره الحاسم في الدفاع عن القضية الفلسطينية في مواجهة هيمنة القوى الصهيوينة على المشهد الغربي بصفة عامة. كما تتحدث بشكل حميمي جميل عن عدد من الطلبة الذين تناولوا أعمال إدوارد سعيد بالمناقشة في أبحاثهم العلمية .
كما تتحدث عن الروائية الرائدة لطيفة الزيات بداية بأيام دراستها الجامعية، وحتى انتشار روايتها «الباب المفتوح» وتحولها إلى فيلم سينمائي ناجح وفارق في السينما المصرية وتناولها للمرأة. كما تتوقف عند نصر حامد أبو زيد كيف تعرَّفت عليه، وكيف قرأت باهتمام دراساته وأبحاثه، وكيف كان موقفه حينما اتهم بالردة واضطر بعد ذلك للسفر للخارج، حتى وفاته وما فقده العالم العربي بغيابه. كما تحدثت عن المفكر والمؤرخ الكبير إحسان عباس وغيرهم.
هكذا يتناول الكتاب العديد من المواضيع ويتحدث عن عدد من الشخصيات ويثير الكثير من القضايا الأدبية والفكرية والثقافية، وفي الوقت نفسه يتناول كما أشرنا بالتحليل والنقد عددًا من الأعمال الأدبية الهامة، ولا يمكن بحالٍ اختزاله أو اختصار دوره وأثره الكبير في موضوعٍ أو مقال واحد … ولكن يبقى أن نشير في النهاية إلى أن الكتاب يحوي بين طياته كذلك عددًا من المفاهيم والشروح والآراء النقدية المفصَّلة التي ربما لن تكون مستساغة لدى القارئ غير المتخصص، ولكنها في الوقت نفسه تفتح آفاقًا أخرى للقراءة والفهم والتأويل والاطلاع على قضايا وآراء وأفكار لم يكن قد فكر فيها من قبل.