كلنا حنظلة
كلنا نعرف شخصية حنظلة التي ترمز لشعب فلسطين، وتُجسد طفلًا لا يكبر أبدًا، يُكتِّف يديه خلف ظهره، رافضًا الالتفات، وكأنه يحتقر صمتنا جميعًا، وربما كلمة «كأنه» ليست الكلمة الصحيحة، لأن حنظلة بالفعل يعطينا ظهره رافضًا للتطبيع والحلول الوسط، مُحتقرًا إيانا، تلك الشخصية التي رسمها المناضل الفلسطيني «ناجي العلي» صاحب الأربعين ألف كاريكاتير، وكل منها يُمثِّل فكرة ورأيًا ونضالًا. ورغم قسوة المواضيع المطروحة، فإن له قدرة على تخفيفها ليصبح المتلقي منتظرًا للمأساة الجديدة التي ستُعرض عن طريق رسمة للطفل الساخر حنظلة.
ناجي الذي تم تهجيره من قرية «الشجرة» في فلسطين، وهو ابن العاشرة، لذا قدَّم لنا مثيله الذي يُمثِّل ضميره. حنظلة الذي قال عنه مخترعه إننا لن نرى وجهه إلا حين تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته.
رحل «ناجي العلي» وبقي حنظلة
رغم اغتيال ناجي العلي عام 1987 في لندن، بينما يتأبط لوحاته، كأنها وصيته الأخيرة، كأنها رسالته التي يخشى أن تتركه حتى في لحظاته الأخيرة، حين قُتل بمسدس كاتمٍ للصوت أسفل عينه اليمنى، لكن مع ذلك أثق أنه ما زال مُبصرًا ليومنا هذا، إلا أن رؤية وجه حنظلة ما زالت ممكنة في وجه كثير من أطفال فلسطين المنكوبين الذين يصادفوننا كلما أمسكنا هاتفنا أو نظرنا لتلفاز أو ألقينا السمع إلى راديو.
إن حنظلة لا يكبر في الأسير «أحمد مناصرة» الذي رغم تجاوزه العشرين عامًا، لكننا نراه بنفس نفسية الطفل الذي تم اعتقاله في الثالثة عشرة من عمره، كأن الحياة رفضت أن تمنحه سنين زائدة من الألم في سجون الاحتلال، واكتفت بالمحاكمة الشهيرة التي يمكننا استحضارها بسهولة في أذهاننا، حيث يصرخ أحمد الطفل مُشككًا في قواه العقلية نتيجة للتعذيب النفسي الذي لم يرأف بطفولته: «ما بتذكر شو أنجنيت؟».
على الرغم من بقاء أحمد في سجون الاحتلال وزنزانته الانفرادية، وهو هول قادر على زيادة العمر خمسين عامًا، فإنه كحنظلة، بقي صافيًا بضمير طفل يحاول النجاة، فيخبر الصحافة أنه يشتاق للعودة لمنزله، آملًا حين سُئل: «عندك أمل تطلع، أحمد؟»، فيُجيب بهدوء: «إن شاء الله، الله كريم».
ونرى مرارة لفظ حنظلة الذي اختاره ناجي العلي قائلًا: «دايمًا الحقيقة بتضل مرَّة»، في صراخ الطفل «كمال أبو طير» الذي قصف الاحتلال المنزل الذي لجأ له برفقة عائلته في مخيم خان يونس بقطاع غزة في العاشر من أكتوبر العام الجاري، حيث ظل كمال يصرخ: «الله يرحمه الله يرحمه، مع السلامة»، مُتحسرًا على فقدان شقيقيه «فراس» و«أحمد»، الطفلين اللذين كانا يشكلان حنظلة في مرارة حقيقة الموت، تاركين شقيقهما بيد وقلب مكسورين. ونرى مرارته أيضًا في دفن ناجي بأراضٍ إنجليزية رغم طلبه أن يُدفن في مخيم «عين الحلوة» جوار والده، حاله كحال كثير من أهل فلسطين، الذين يتمنون فقط أن يظلُّوا جوار أرضهم حتى لو كانوا جثثًا.
أين فلسطين؟
قال «ناجي العلي» في لقاء له: «فلسطين جغرافيتها لها شمول إنساني». وفي الواقع هذا أدق وصف لتلك الأرض التي تُخلِّد ذكرى إنسانية أناس لا يربطهم بأهلها أي شيء، كـ «راشيل كوري» الشابة الأمريكية الليبرالية التي استشهدت على تلك الأرض الطاهرة في الانتفاضة الثانية، وأناس رغم قربهم من أهل تلك الأرض في كل شيء، لكنهم قرَّروا خيانتها وطعن سكانها الذين فقط يحاولون الحياة، وذلك عن طريق التطبيع مع الكيان المحتل، وقبوله في شرقنا الأوسط كدولة مستقلة لها سيادة.
ولا يخفى علينا أن سكان غزة يعيشون صراعًا هدفه البقاء، رافعين راية إمَّا نحن أو هم، هاتفين بالحنظل لمن يريد أن يبيدهم من الوجود، واصفًا إياهم بالحيوانات البشرية، وكما نعلم أن قطاع غزة هو الأقوى من باقي القطاعات الفلسطينية، من حيث التجهز للقتال، لذا فإبادته تعني إبادة الحلم وإبادة فرصة حنظلة في إظهار وجهه للعالم، وربما للمرة الأولى سيبتسم سعيدًا غير ساخرٍ؛ لذا نجد الفلسطينيين يقدمون أرواحهم على كفوفهم رفقة جثث أطفالهم رافضين أن يبقوا هوامش غير محسوبة، أو أن يتزحزحوا عن أرض الزيتون، رافضين الخضوع والتسليم للعدو أو لداعميه الذين لا يقلون عنه خسة وحقارة، كما قال ناجي من قبل:
يُجسِّد ناجي في عبارته صمود الفلسطينيين الذين يتم وصفهم على مواقع التواصل أنهم قوم يحبون الموت كما يحب شعب الاحتلال الحياة، ولا يخفى على أي شخص نية بعض مُرددي تلك العبارة في إظهار أن المقاومة هي طريق الموت المظلم الكاره للحياة، لكن تلك العبارة تكتمل بعبارة محمود درويش:
وقد قطع جيش الاحتلال عن شعب فلسطين كل السبل، حتى سبيل الحديث، بقتله صحفيين، كأيقونة فلسطين الخالدة «شيرين أبو عاقلة»، فصار لدينا آلاف، بل ملايين، من حنظلة، بثياب مُرقَّعة وأقدام حافية، تضمهم المخيمات التي تجعلهم لا يرون إلا الأرض التي يجب عليهم استردادها، جاعلة حلمهم إمَّا النصر أو الشهادة.
إنها لحرب حق وباطل، زيف وحقيقة، مرَّة كالحنظل، كحنظلة.