الكونكتوم: عقل الإنسان المتغير دائمًا
تكلمنا في المقال السابق عن الكونكتوم، كفكرةٍ ومفهوم حديث النشأة، ننتقل الآن للحديث عن الرجل الذي نشر مفهوم الكونكتوم بشكلٍ أكبر، سبستيان سيونغ، الذي درس الفيزياء والعلوم العصبيّة ويدرس الآن الكونكتوم لتطوير وبناء (أو التقاط صورة) لكونكتوم بشريّ كامل. وفي مقابلةٍ تمّت معه عن الموضوع تحدّث عن عدة محاور، بعضها تطرّق إليها مسبقًا في محاضرته في مؤتمر تيد، ومنها السؤال المكرر كثيرًا لسبستيان:
كيف يبدو الكونكتوم؟
الكونكتوم هو خريطةٌ للدماغ كشبكة من العصبونات، إن أردت أن تتخيله، فيمكنك أن تفكر بخريطة رحلات الطيران التي تراها في المجلات وبدّل كل مدينةٍ بعصبون وكل رحلة باتصال بين العصبونات، ثم قم بمضاعفة هذه الخريطة لتتضمن 100 مليار مدينة وأكثر من 10 آلاف رحلة طيران من كلّ مدينة، تقريبًا الكونكتوم يبدو كذلك!.
عندما يحاول الناس التفكير في مخطط لوصلات المخ العصبيّة، ربما يتخيلون أداة إلكترونيّة ومخططًا لا يتغير، لكن الكونكتوم كائن متغيّر ومتبدّل، بعكس ما كان يُعتقد سابقًا، فقد كان الاسم القديم له: مخطط الوصلات العصبية Neural Wiring Diagram، وهو توصيف جيّد فعلًا، لكنه يجعل الكونكتوم شبيهًا بوصلات الأجهزة العصبية التي لا تتغير، أما الكونكتوم فيتغيّر فعلًا عبر حياتنا، مع كل تجربةٍ تمر بها، ونحن نعتقد أيضًا أنّ التجارب والذكريات السابقة موجودة ومخزنة بشكلٍ فيزيائي في الدماغ، فإنّ فرضيةً تقول أنّ «العقل mind» هو نتيجة نشاط الكونكتوم.
كيف يتغير الكونكتوم؟
تغيرات الكونكتوم تقع في أربعة محاور؛ إعادة الكتابة والترجيح، إعادة التوصيل، إعادة التشابك، والتجدد. إعادة الكتابة والترجيح تعني تغيير قوة اتصال عصبيّ موجود، أما إعادة التوصيل فهي تعني خلق وصلات وشبكات جديدة أو التخلص من القديمة، وإعادة التشابك هي زيادة النمو أو تخفيف الاتصالات بين الاستطالات المختلفة للعصبونات المختلفة، وهكذا يبقى التجدد، كطريقة لخلق عصبونات جديدة أو التخلص من أخرى قديمةٍ كليًّا.
نحن نعرف أن هذه الأربع عمليات تحدث بشكلٍ مستمر وتؤدي لتغير الدماغ، لكننا لا نعلم ما هي علاقة هذه العمليات بالتعلم والذاكرة، كذلك فإننا لا نعرف مقدار استمرارها عند البالغين وكبار السن. فإعادة الكتابة والترجيح تحصل في معظم أوقات الحياة، ولذلك نبقى كائنات متعلمة طول عمرنا، وكنا نعتقد أن إعادة التشابك تتوقف عند البالغين، لكن هناك دلائل جديدة تقترح استمرارها فيما بعد، أما التجدد وإعادة التوصيل فما زلنا محتارين حول هاتين الخاصتين.
ما هي المعلومات التي يحتويها الكونكتوم؟
عرّفنا الكونكتوم بأنّه مجموع الخلايا العصبية والاتصالات فيما بينها. ما الذي يحدث هناك فعلًا؟، كلّ شيءٍ تقريبًا، كل ذكرياتك، تجاربك، كلّ المعلومات التي تكتسبها في حياتك تُخزّن في هذه العصبونات والخلايا العصبيّة. وبما أنّ الكونكتوم يتغيّر مع كلّ تجربةٍ نمر بها، فقد يعني هذا أن هذا التغيّر فعلًا هو أثر التجربة على الكونكتوم، لتسجّل حدوثها حقًا، وقد يقودنا هذا للتفكير فعلًا في جملة سبساتيان المشهورة «أنت مجرد كونكتوم».
ولكن هل يمكننا قراءة هذه الذكريات من الكونكتوم؟، حتى الآن لا نستطيع فعل ذلك ولا يمكن أن نؤكده أو ننفيه، لكن الفكرة لا تزال قائمةً بشكلٍ كبير، ومع أنّ الفكرة نفسها تبدو صعبةً، فالذكريات تتشكل بشكل سلاسل معقدةٍ متشابكة، أي أننا نحتاج لبرامج تساعدنا في إعادة ترتيب هذه الصلات قبل إمكانية قراءتها، كل ذلك للأسف بعيدٌ عنا حاليًا.
ولكن إن كنت فعلًا تصدق أنّك الكونكتوم، فهل يعطيك هذا فرصةً للحلم بالخلود؟. إن كنت من أولئك الذين يدفعون حوالي مئة ألف دولار لحفظ جثثهم بعد الموت في النيتروجين السائل، انتظارًا لحضارةٍ متقدمةٍ تستطيع إعادة الحياة للجثث المحفوظة، ربما قد يحالفك الحظ. وبشكلٍ علمي، علينا أن نعرف هل يتغير الكونكتوم ويتعرّض للأذية بعد تجميد الدماغ؟، نحن نعلم أن ذلك قد يحصل للدماغ بعد الموت وخلال عملية التجميد، وإذا ثبت أنّ الكونكتوم يتأثر بهذه العملية، فذلك يعني أنّ هذه المساعي محكومةٌ بالفشل، قد تسترد الجسد، لكن لن تسترد المعلومات المخزّنة على الكونكتوم أو الكونكتوم ذاته.
ماهي المشاكل التي قد تحصل للكونكتوم؟
الشيزوفرينيا في التوأم الحقيقي وأثرها على الدماغ.
نظريًا فإنّ سبب بعض الاضطرابات النفسية هو خطأ في “توصيلات” الدماغ، أو توصيلات الكونكتوم نفسه، وهذا يعني طريقة اتصالٍ مرضيّة بين العصبونات. أحد أصعب التعقيدات في الاضطرابات النفسية هي عدم وجود باثولوجيا عصبيّة محددة لكل مرض. في الجهة الأخرى، عندما تأخذ دماغ شخص ميت مصابٍ بالزهايمر أو باركنسون، فإنّ العصبونات تبدو متأثرةً بشكلٍ واضح وقابل للرؤية، نعم قد لا نملك علاجًا شافيًا حتى الآن لهذه الأمراض؛ لكننا على الأقل نستطيع رؤية الخطأ في الدماغ. أما في حالات الفصام فإننا لا نرى السبب المباشر في الدماغ؛ لأنّ العصبونات نفسها قد تكون سليمة، وقد يكون الخطأ هو طريقة توصيلها فحسب، وهذا ما لا نستطيع أن نراه.
أين تبدأ إذن؟
في البداية نقوم برسم مخططات الاتصالات الموجودة في مليمتر مكعبٍ واحد من الدماغ، أي بكسلٍ واحد في صور المرنان لكن هذا البكسل عالم كامل فعلًا، يعيش فيه أكثر من 100 ألف عصبون بأكثر من مليار اتصال، وبواسطة مجهر إلكتروني نستطيع أن نصور أكثر من مليار صورة (بيتا بايت تقريبًا). في المستقبل سيصبح كل ذلك أسهل بكثير. بعد التقاط الصور تأتي المهمة الأصعب؛ تحليل المعلومات الموجودة فيها. فلنفرض مثلًا أننا نستطيع تصوير مليمترٍ مكعبٍ واحد من الدماغ خلال أسبوعين فقط، لملاحقة كل عصبونٍ واتصالاته داخل هذا المليمتر بشكلٍ يدوي، نحتاج إلى ما يقارب 100 ألف سنةٍ فقط. ما الحل إذن؟ نقترح أن نأتمت (من automtion، وتعني استخدام معايير محددة باستخدام نظمٍ حاسوبيّة للقيام بتلك العمليات دون مشاركة البشر بشكلٍ مباشر) هذا الفعل. لكن لم يصل الذكاء الاصطناعي إلى مرحلةٍ يقوم بتلك المهمة وحده، يمكننا فقط تسريع مهمة البشر وليس استبدالهم. حتى وإن استطاع ذكاء اصطناعي أن يقوم بهذه المهمة، فإن ذلك سينقص المدة بنسبة 99% من 100 ألف سنة إلى ألف سنة.
إذن، الحلّ هو جلب متطوعين!. هل تعرف مثلًا أن لعبة Angry Birds تستنزف 600 سنة من التركيز البشري كلّ يوم؟، إذا استطعنا جعل تخطيط الكونكتوم سهلًا وممتعًا كتلك اللعبة فإننا سننتهي من مليمتر واحد خلال يومين اثنين فقط!. نحن نحتاج إلى العديد من الأشخاص لمساعدتنا في تحليل هذا المليمتر، كما أنّ الذكاء الاصطناعي الذي نستخدمه ما زال في قيد التعلّم، وهو يتعلّم في كل مرةٍ يتفاعل فيها مع الأشخاص، هذه هي الطريقة الوحيدة الممكنة حاليًا لرسم خريطةٍ للكونكتوم، لمليمتر واحدٍ فقط من الدماغ البشريّ، ثم بناء نموذج الكونكتوم البشري كاملًا عبرها.
حتى الآن لم نستطع سوى القيام ببناء كونكتوم كائن واحد، لدودة صغيرةٍ يتكوّن جهازها العصبيّ من 300 عصبون، حيث قام العلماء في سبعينات وثمانينات القرن الماضي برسم خريطةٍ لكل هذه العصبونات وكل السبعة آلاف اتصال عصبيّ بين هذه العصبونات، أما بالنسبة للكونكتومات الجزئيّة، فقد استطاع العلماء تشكيل كونكتوم القشرة البصرية الأولية وكونكتوم الشبكيّة عند الفئران، وتتوفر هذه المعلومات بشكلٍ عامٍ على موقع مشروع الكونكتوم المفتوح، بحجم 12 تيرابايت فقط.
قد يبدو هذا كله نوعًا من الخيال العلمي بعيد الأمد، لكن مع التقدّم العلمي السريع الذي نشهده في جميع مجالات التقنية والعلوم، فإنّ كلّ شيءٍ ممكن بكثير من الجهد والعمل، والانتظار أحيانًا.