«الخاتون»: جيرترود بيل واختلاق العراق الحديث
كانت جيرترود بيل يوم وصولها الى العراق في الثانية والخمسين من عمرها. أثرها في العراق و ساسته كان كبيرًا بسبب شخصيتها القوية ولباقتها ونشاطها الدائب، وكانوا يخاطبونها قائلين: «خاتون»، حتى أصبح ذلك لقبا لها تعرف به، فإذا تحدثوا عنها قالوا: «الخاتون»، وكانت ألف لام التعريف تغني عن ذكر اسمها.
سماها السياسي العراقي عبد المجيد الشاوي -مازحا- بـ «ام المؤمنين«.الآنسة بيل Miss Bell كانت تعمل كمساعد لسير بيرسي كوكس، المندوب السامي البريطاني وقتها في العراق؛ تلك الدولة التي تم تأسيسها حديثًا في المشرق العربي بعد انهيار الدولة العثمانية. الحقيقة أنها لم تكن مجرد مساعدة، ولكنها كانت كل شيء في الدولة الوليدة. «الخاتون» استمدت شهرتها من كونها المرأة التي اخترعت العراق الحديث.
تخرجت جيرترود بيل من «كوينز كوليدج»، ثم التحقت بعد ذلك بأكسفورد لتحصل علي شهادتها في التاريخ الحديث. كانت زيارتها لخالها سير فرانك لاسالز في طهران نقطة تحول في حياتها. أتقنت الفارسية، وقامت برحلات متعددة في الصحراء العربية. أصبحت خبيرة في شؤون القبائل العربية. أصبحت مغرمة بالتنقيب عن الآثار. عشر سنوات من الترحال.
عند قيام الحرب العالمية الأولي طلبت أن تتطوع في بلاد العرب. بعدها، تم استدعاؤها للعمل بالمكتب العربي في القاهرة، المكتب المسؤول عن تنسيق أنشطة الإمبراطورية الاستخبارية في المنطقة. منذ التحاقها بالمكتب العربي في نوفمبر 1915 حتى وفاتها، كانت «الخاتون» هي المرأه الوحيد التي لها كلمة في سياسة الأمبراطورية.
في يناير 1916، تم استدعاء جيرترود بيل لمهمة خاصة من القاهرة الى دلهي. كان نائب الملك في الهند، لورد هاردينج، صديقًا قديمًا. عند انتهاء المهمة، طلب إليها أن تمر بالبصرة في طريق عودتها، بعد احتلالها من القوات البريطانية.
وصفها اللورد هاردينج للسير بيرسي كوكس، كبير الضباط السياسيين في الحملة البريطانية، بأنها «امرأة خارقة الذكاء، ولها عقل رجل، تتكلم العربية بطلاقة وتعرف عن عشائر الصحراء أكثر من أي شخص آخر». كانت الغاية من إرسالها إلى البصرة هي أن تربط بين ما لديها من معلومات عن العشائر العربية، وبين ما كان يصل إلى مقر القوات البريطانية من معلومات. كان وصول جيرترود الى البصرة، فيما كان زيارة قصيرة، بداية علاقة ممتدة بالعراق. علاقة استمرت حتى اليوم الأخير من حياتها.
«الخاتون» كانت شديدة الاهتمام بتأسيس مديرية الآثار العراقية، وتأسيس المتحف الوطني العراقي. الآثار القديمة والمتحف الوطني هما وسيلة أساسية لخلق هوية متخيلة لدولة قومية حديثة التأسيس. تمامًا كما حدث في مصر بعد سقوط الدولة العثمانية من سعي حثيث لخلق هوية فرعونية بديلة.
المتحف المصري في التحرير تم تأسيسه، ومقبرة توت عنخ أمون تم اكتشافها. كانت هناك حاله من الهوس بالماضي الفرعوني للبلاد، للدرجة التي دفعت نجيب محفوظ، الروائي الشاب وقتها، لبدء حياته كروائي بروايات تدور أحداثها خلال الحقبة الفرعونية. لا توجد وسيلة أفضل من علم الآثار القديمة لتأسيس هوية بديلة. حتي لو لم يتقبل عموم الناس الهوية الجديدة، فسيتحمس لها بعضهم مما يخلق شرخًا سيستمر لأجيال.
كان الهدف الأساسي للخاتون خلق شعور بالوحدة ما بين المكونات المختلفة للدولة الجديدة. كان ذلك ضروريًا للحفاظ علي استقرار ووحدة الدولة الجديدة. ليس فقط لاحتواء العراق على موارد نفطية مستقبلية، و لكن أيضًا لأهمية العراق لمواصلات الإمبراطورية للهند.
بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية، تم تكليف الآنسة بيل Miss Bell بتحليل للوضع في بلاد ما وراء النهرين نظرًا لخبرتها الكبيرة بالمنطقة و قبائلها. بعد عشرة أشهر من البحث، قدمت تقريرها الشهير المعنون:«تقرير المصير لبلاد ما وراء النهرين Self Determination in Mesopotamia». عند عودة الصديق القديم، سير بيرسي كوكس، للعراق في 11 أكتوبر 1920، طلب منها أن تستمر في منصبها كسكرتير شرقي، لقيادة الوساطة بين المسؤولين البريطانيين والجكومة العراقية القادمة.
عُقِدَ مؤتمر القاهرة عام 1921 لمناقشة الوضع السياسي والحدود الجغرافية لما عُرِفَ بعدها بالشرق الأوسط كمفهوم جغرافي-سياسي. بالطبع كانت السيده الوحيدة العضوة في المكتب العربي مدعوة للمشاركه للإدلاء بدلوها. وزير المستعمرات، سير ونستون تشرشل، كان معنياً بتخفيض تكاليف إدارة المستعمرات كهدف أساسي بعد انتهاء الحرب، خصوصًا بعد زياده التكاليف المالية والبشرية للانتداب البريطاني علي العراق. لذلك تم تبني وجهة نظر «الخاتون» الداعمة لحكومة عراقية تحت الإشراف البريطاني في مواجهة وجهة النظر التقليدية الداعمة للحكم المباشر.
«الخاتون» وتوماس إدوارد لورانس «لورانس العرب» دافعا بشدة عن وجهة النظر المساندة لتولي فيصل بن الحسين، الابن الأكبر للشريف الحسين، شريف مكة، الذي استمد شهرته من كونه قائدًا للقوات العربية التي دخلت دمشق بعد طرد العثمانيين منها. قام الإنجليز بتنصيب فيصل كملك على الشام، وبعد ذلك أزاحه الفرنسيون لأنهم لم يرغبوا في دمية إنجليزية في نصيبهم من أراضي سايكس-بيكو. «الخاتون» و«لورانس» اعتقدا أن فيصل سيكون قادرًا علي توحيد المكونات المختلفة للعراق.
وصل فيصل للعراق عام 1921 ليُتَوج ملكًا على بلد لم تطأه قدمه قبل ذلك. شاركت «الخاتون» في كل شيء. عرّفت فيصل على شيوخ القبائل المحليين، شاركت في اختيار الوزراء وتعيين المسؤولين المحليين؛ حتى علم الدوله الجديدة، شاركت في تصميمه. كانت الملكة غير المتوجة لبلد قامت بتصميمه.
في رساله لوالدها قالت: «هل تعلم يا أبي ماذا يسمونني هنا؟ أم المؤمنين. وآخر من كان يلقب بهذا اللقب عائشة زوجة الرسول. وهكذا ترى لماذا لا أستطيع أن أترك هذا البلد».
العراق الحديث كان كيانًا متوهمًا في عقل «الخاتون» ككل الدول القومية في عالمنا. كل الكيانات القومية بدأت «متوهمة» وتحولت بمرور الوقت لدول حقيقية غير قابلة للتفكك.
لماذا إذن، دول «سايكس-بيكو»، دون غيرها، لم تُنضج فكرة قومية، وهي حاليا بالفعل تتفكك، العراق، سوريا، ليبيا والباقي في الطريق؟ لماذا تبدو إسرائيل «المزعومة»، أكثر تماسكًا بمراحل من جميع الدول العربية، بالرغم من كل القائمة الطويلة من عوامل التماسك (اللغة، الدين، التاريخ المشترك… إلخ).
هذه قصة أخري.