علي شريعتي: سيرة معلم الثورة المغدور
يقال إن المفكر الإيراني الشهيد علي شريعتي (1933-1977) قد قصد بتلك العبارة الجدلية الاستهزاء بالتهم المتناقضة الموجهة إليه، وكذا الاستهزاء بما يستنكره عليه الآخرون من حرية فكرية، لكن حتى مع كونها عبارة استهزائية، يظل شريعتي شخصية جدلية بقدر تلك العبارة أو أكثر.
كان شريعتي قائدًا كاريزميًا غير تقليدي بصورة تثير القلق، مفكرًا إسلاميًا عظيم التأثير إلى حد مثير للشحناء، منظرًا شديد الأصالة بدرجة تغري بالتشويه. رغم أن شريعتي لم يكمل الخمسة وأربعين عامًا في هذه الدنيا، إلا أنه استطاع تطوير وجهة نظر جديدة حول تاريخ وعلم اجتماع الإسلام، وخلق حراك ثوري رهيب، وشحذ عقول جمع غفير من الشباب، سيكون له دور رئيسي في الثورة الإيرانية التي ستعقب وفاته بعامين.
معرفة الإسلام
ولد علي شيعتي بقرية مزينان قرب مدينة مشهد بمحافظة خوراسان. كان شريعتي يرى نفسه فرعًا عن سلالة شريفة كريمة مناضلة، يجد في حكاياتها ما ينبؤه بأن وجوده كان أسبق على مولده، مثلما كان يؤمن بـ«وراثة الأمانة» عقيدة وفلسفة إسلامية أصيلة، تمتد منذ الجد الأول – آدم – مرورًا بالحسين «وارث الدم»، ما يعني أن جميع الحوادث الماضية والآتية غائية وذات ترابط موضوعي تام سيستمر إلى نهاية الزمان.
وتتلمذ شريعتي على يد عمه الذي أورثه علوم أجداده الحكماء، لكن الشعلة الحقة التي استمد منها شريعتي وهجه كانت الأب العالم الديني ذا التوجه اليساري محمد تقي شريعتي، مؤسس «مركز نشر الحقائق الإسلامية» في مشهد وصاحب الجهود في تفسير القرآن، الذي تلقى عنه ولده علوم العربية والشريعة أيضًا.
بناء الذات الثورية
في فترة مبكرة من عمر شريعتي، انضم مع والده إلى حزب «عباد الله الاشتراكيين» التي تمثل المحاولة الإيرانية الأولى للمصالحة بين المذهب الشيعي والاشتراكية الأوروبية عن طريق إعادة قراءة النصوص الدينية والماركسية على السواء. أتم شريعتي دراسته الثانوية والتحق بمعهد إعداد المعلمين مقتفيًا أثر والده.
بدأ شريعتي في كتابة عدد من مؤلفاته المبكرة وإلقاء المحاضرات في مركز والده الذي ازدان بذلك الشاب متقد الروح واللسان. جذبت مجالس شريعتي الشباب المتحمس والقلق الباحث عن إجابات على السواء. في الفترة نفسها، ترجم شريعتي إلى الفارسية كتاب «أبي ذر الغفاري» للكاتب المصري عبد الحميد جودة السحار عن العربية، كما ترجم كتابًا معنون بـ«الدعاء» عن الفرنسية.
أسس شريعتي في عام 1952 اتحاد الطلبة المسلمين، وانضم بقوة إلى الحراك الاجتماعي والسياسي الغاضب عقب انقلاب 1953 على حكومة محمد مصدق – المنتخب ديمقراطيًا – بتدبير من عناصر المخابرات البريطانية والأمريكية، ما أدى إلى اعتقاله مرتين.
في عام 1956 انضم شريعتي محب الأدب والشعر إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة مشهد بنفس الروح الثائرة، حيث أسس جمعية أدبية ونشر المقالات، كما التقى بالسيدة بوران شريعت رضوي ستجمعهما زيجة تثمر عن ولد وثلاث بنات.
الإسلام ومدارس الغرب
بعد فترة من تعنت السلطات في منحه إذنًا بالسفر وهو صاحب المرتبة الأولى على جامعته، التحق شريعتي ببعثة السوربون للدراسات العليا في علم الاجتماع والتاريخ. هناك تعرف شريعتي على آخر المدارس الفلسفية والاجتماعية، وقرأ لكبار الأعلام واتصل بهم، من أمثال ماسينيون وسارتر. وخلال فترة دراسة شريعتي بباريس، اشتعلت جذوة الثورة الجزائرية، ولم يكن لمناضل مثله أن يظل بمنأى عن الأحداث.
تعاون شريعتي في باريس مع جبهة التحرير الوطني الجزائرية، كما ربطته علاقة خاصة بإنتاج فرانس فانون المفكر والطبيب النفسي ابن جزيرة مارتينيك المساند لحركات التحرر في العالم الثالث، وقد ترجم شريعتي مختارات من أعماله إلى الفارسية.
اعتقلت السلطات الفرنسية شريعتي في العام 1961 بتهمة الاشتراك في مظاهرة تضامن مع باتريس لومومبا رئيس وزراء الكونغو الذي اغتالته الاستخبارات البلجيكية. وأسس شريعتي مع جماعة من رفاقه جريدة ناطقة بالفارسية، سيذيع صيتها في أرباع أوروبا وستكون بمثابة مرآة صادقة تنقل ما يلاقيه الشعب الإيراني المناضل.
مسؤولية المثقف
ألقت السلطات الإيرانية القبض على شريعتي عند عودته إلى موطنه، وظل حبيسًا عدة أشهر بسجن «قزل قلعة»، ثم رفض طلبه للتدريس بالجامعة ما اضطره إلى التدريس في مدارس مشهد الثانوية، إلى أن اضطرت الحاجة كلية الآداب إلى استقدامه أستاذًا مساعدًا في التاريخ، كانت تلك بداية أكثر فترات شريعتي خصوبة ونضجًا.
في عام 1969 بدأ شريعتي الخطابة في حسينية الإرشاد بطهران إلى جانب أنشطته الأخرى، حيث ظهر ما يمكن اعتباره نوعًا من تجليات نشأته في كنف حزب عباد الله الاشتراكيين. هاجم شريعتي النظام بشكل مبطن، وهاجم المثقفين المستغربين والماركسيين التقليديين.
كال شريعتي الضربات إلى أئمة التشيع الصفوي، وهو المصطلح الذي صكه لتمييز تشيع الدولة الصفوية عن التشيع العلوي أي التشيع الصحيح، فالأول – الصفوي – طقوسيّ فئويّ مذهبي عصبي، يعيش التاريخ أكثر مما يعيش الحاضر، يحصر الدين في الجانب الطقوسي ويخمد في التشيع جذوة الثورة الأصيلة. وانتشرت كلمات شريعتي كالرصاص مكتوبة ومسموعة ومتناقلة على الشفاه.
أقيل شريعتي من الجامعة بعد خمس سنوات حامية الوطيس، فتفرغ للخطابة والمحاضرة بالحسينية إلى أن استفحل خطرها وصار مريدوها من آلاف الشبان، فأغلقتها الحكومة عام 1972. لجأ شريعتي إلى التواري عن أعين السلطات فترة، لكنها قبضت على والده المسن لتضطره إلى تسليم نفسه، وهو ما تم بالفعل ليسجن انفراديًا ثمانية عشر شهرًا تعرض فيها لصنوف العذاب.
العودة إلى الذات
أطلق سراح شريعتي أخيرًا إثر وساطة جزائرية لدى الشاه محمد رضا بهلوي، لكنه كان سراحًا غير تام، إذ ظل رهين الإقامة الجبرية بضعة شهور قبل أن يسمح له بالسفر إلى العاصمة الإنجليزية لندن عام 1977، ليقضي نحبه قبل أقل من شهر واحد، في الرابعة والأربعين من عمره، فيما شخصته التقارير أزمة قلبية، وأعلنته الأسرة والمريدون عملية اغتيال خسيسة.
زادت وفاة شريعتي من الغضب في الشارع الإيراني، مثلما أججت كلماته وخطبه الخالدة الغضب. لاحقًا، بعد عامين من وفاته، سترفع الثورة الوليدة صوره، وتهتف باسمه معلمًا للثورة وثاني اثنين إلى جوار اسم المرشد الأعلى روح الله الخميني، ثم لن يلبث قادتها إلا أن ينقلبوا على أفكاره بل ويغمزونه ويحذرون منه. ولعل شريعتي قد استشرف ذلك الانقلاب حين كتب في «الإسلام ومدارس الغرب» قائلًا: