علي سعاوي: الديمقراطية حكم الشعب والمساواة
للعالم المفكر «علي سعاوي» مجموعة كبيرة من المقالات والمؤلفات التي تتناول الفكر والسياسة والعلوم والتي ظهرت على صفحات جرائد مشهورة في القرن التاسع عشر في الدولة العثمانية مثل «مخبر»، و«علوم» و«البصيرة»، وهذا المقال الذي نُشر بالتركية العثمانية في جريدة «علوم»(*) في باريس يعرض فيه فكره ورأيه في كيفية الإصلاح السياسي للدولة العثمانية، مركزًا على أهمية الأخلاق وموضحًا رأيه في الديمقراطية والجمهورية، وهل تناسب الإصلاح في الدولة العثمانية أم لا؟ أقدم هنا ترجمتي له إلى العربية.
إن شكل الحكومة في بدايات الإسلام كان ديمقراطيًا أي لم يكن هنالك «ملك»، «سلطان» أو «أمير» إنما كان هنالك المساواة، وإن كلام «خالد بن الوليد» (رضي الله عنه) [في الموقف التالي] كاف لإيضاح [صورة] الحكومة الإسلامية؛ إذ قاتل الصحابة [جيش] قائد الروم الأرمني «باهان» البالغ عدده 60,000 أو 70,000[1]، فقد دعا «باهان» خالد بن الوليد إلى خيمته ليُحدثه ويفهم مراده من كلامه، فلمّا وصل خالد إلى خيمة باهان وبرفقته 100 مُحارب شجاع؛ ألقى باهان خُطبة بالعربية قال فيها:
وهكذا كان الملك هو حاكم الروم والأرمن والإفرنج، وكانت نظرة خالد وأصحابه الكرام إلى أمير المؤمنين بهذا الشكل[2]. إذن كانت الحكومة الإسلامية في ذلك الوقت ديمقراطية وكان هنالك عدالة، والواقعة التالية توضح الأمر بشكل أفضل: فحينما قُسمت الأقمشة من اليمن على الصحابة كان نصيب «عُمر» أمير المؤمنين كنصيب كُل واحد منهم، وفي أحد الأيام صَعَدَ عُمر على المنبر وكان عليه [إزار] من تلك الأقمشة، وكان يشوق الصحابة للجهاد فقام أحد منهم وقال: «يا عُمر لن نسمعُك بعد الآن. فقال عُمر: ولم؟ فقال: إنك لم تساو نفسك بنا وفضلت نفسك علينا، وإنك أخذت من القماش بقدر ما أخذنا إلا أن ذلك القماش لا يخرج منه هذا الإزار؛ وإذن فقد أخذت أكثر منا وتفضلت بذلك علينا. فنظر عُمر إلى ابنه «عبد الله» وقال: قم يا عبد الله وأجب هذا الرجل، فقام عبد الله وقال للرجل إن أمير المؤمنين عُمر أراد أن يصنع لنفسه إزارًا فلم يكف القُماش فأعطيته جزءًا من حصتي. فقال الصحابي: إذن أسمع عُمر [الآن]! وجلس» (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين).
وهكذا فقد تبين مفهوم الديمقراطية وحكم الشعب والمساواة، وإن هذا الحُكم كان في قوم هم أُمة واحدة فيهم الصادق والعابد والمُتقي والذين لا يخشون أحدًا إلا الله، ولم يكن لهم عَمُل سوى خدمة طريق الله، ولم يكن هنالك من ضوابط إلا حُسن الأخلاق إذ كانوا رجال الله، وإن أصول المساواة التي كانت خيالًا لأفلاطون ظهرت عندهم قولًا وعملًا.
إن هنالك جماعات فرنسية تصدح بصيحات الحرية والمساواة التي تزداد يومًا بعد يوم، إذ يريدون القضاء على المَلكية وإقامة المساواة التي هي من أصول الديمقراطية إلا أنه ليس بينهم رجال الله، ولا يملكون قوة قاهرة كالخوف الإلهي في القلوب؛ وإن الحرية بالنسبة لهم هي أن تقول كل ما يَخطُر على بالك، وإجراء كل الرغبات الشخصية بلا مُمانع. وها قد خطر على بال جماعة من الفرنسيين واستهوت قلوبهم إصدار جريدة لإنكار «الله» سبحانه وتعالى في بدايات مايو/ آيار 1870 (في باريس)، وإن كل من يُطالع هذه الجريدة يرى مدى وقاحة لغتها غير اللائقة والتي يستخدمها هؤلاء تجاه المؤمنون بالله. هؤلاء القوم لا يَملكون أخلاقًا تحد من حريتهم داخل المجتمع؛ فإذا لم تتوافر قوة قاهرة تحد من هذه الحرية في دولة «تفتقر للتربية» فكيف سيكون حال المجتمع فيها؟ حيث مما لا شك فيه أن باريس الجميلة التي يحاول العالم تقليدها ستتحول لخرابة خلال سنة أو سنتين.
والديمقراطية والمساواة هي عندليب يُغرد في بستان الأخلاق الحسنة، فهل من الممكن لهذا العندليب المحبوب أن يُغرد في مزبلة قلوب كهذه؟ وإن الأفكار الديمقراطية الفرنسية لا تبقى محصورة في موقعهم [الجغرافي]، بل تنتشر عبر المطبوعات شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا ولذا سيأتي يوم تصبح فيه هذه الأفكار فتنة في «إسطنبول» و«القاهرة» و«طهران» و«بخارى» و«كابُل»؛ لذا علينا الاعتناء بمجتمعاتنا جيدًا.
وإن الأخلاق في مُدننا الكبيرة أصبحت أسوءأ من أخلاق الأوروپيين؛ إذ إننا وصلنا إلى حالة يشار فيها بالأصابع لمن يتمكن من ضبط نفسه عند الخلوة بامرأة لساعتين، ويعد صاحب كرامة. ألم يُذكر في كُتبنا وعلى ألسنتنا نوادر كأنها [كرامات] (أن أبو السعود أفندي قد خلى بامرأة في ليلة في غرفة فضبط نفسه ولم يلمسها). أما في أوروپا فيخلو الرجل بامرأة ثلاثة أيام بلياليها ولا يجد فيها بأسًا، ويعتبر فعله عاديًا. في بُلدنا ننظر لهذا الفجور (سواء كان سببه زيادة الشهوة بارتفاع الحرارة أو كان بسبب الحرص على الستر في المدن والذي لا نراه في القُرى وعند الرُحل أو لأي سبب غير ذلك) هل بإمكان الأخلاق الحميدة تسكين هذا الأمر؟ هذا ما نبحث عنه.
إن جميع أعمالنا وحالاتنا تُقاس على مسألة الشهوة هذه، ولذا فتربية النفس بتهذيب الأخلاق لازم. وفي مملكتنا فإن ما ينتظره الشعب من الحكومة ليست فقط تسوية احتياجاتهم المادية، بل يتطلعون لأن تفي الحكومة بالاحتياجات المعنوية أيضًا، أي أن يتم بعث الأخلاق الحَسنة بيد فوقاني [أي يقصد قوة عُليا] وهذا اليد الفوقاني هو “المَلكية” أي السلطنة.
ولو جاءنا عُمر الآن ماذا سيفعل؟ مثلًا لو قام أحدهم وقال له: «إن النساء بشر أيضًا ومن حقهم الاختلاط بالرجال حتى أنت كُنت تُرسل النساء للحرب مع الرجال؟» لأظهر عُمر درته ولقال: «هؤلاء الرجال والنساء ليسوا أنتم، هم كانوا بشرًا أما أنتم فلا»، أي كان سيحتاج إلى وضع نظام يَحُد من الحرية والمساواة.
من الذي لا يعرف أن أصول الديمقراطية والمساواة [أنسب] حكومة وأكثرها موافقة للشرع؟ لكن من المؤسف أن ليس جميع أهل إسطنبول كالشيخ الگوموش خانلى [هو أحمد ضياء الدين الگوموش خانوي رئيس الطريقة الخالدية الصوفية]، فهو شعب قُطع منه عضو كبير كالجزائر ولم يُحس لهم حَسيس، وحتى صرخات سمرقند وطشقند وبخارى سمعوها وكأنها طنين ذبابة أو ناموس. وقد مر على القصر 39 «عالي پاشا» [رجل من رجال عهد التنظيمات انتقده سعاوي وتولى منصب الصدر الأعظم ويقصد برقم 39 مرور 39 عامًا على احتلال الجزائر حين كتب هذا المقال] وليست هنالك أي بارقة أمل [بخصوص حل قضية الجزائر].
لقد أصبحنا قومًا لو اجتمع فيهم طُلاب أربعة مكاتب [المكتب يشبه المدرسة] لكان لعبهم بحيث يصبح أحدهم مَلِكًا ويتَوزع الباقي على المناصب، ولو اجتمع أربعة من كبار الرجال باسم القومية لأعلن كل منهم رئاسته ولحاول أن يكون القائد. وفي مجتمع هذا حال أخلاقه من يبيع قضية الأخوة والمساواة ومن يشتريها؟
وإن «مصطفى فاضل باشا» [شقيق الخديو إسماعيل] الذي يملك مُلك قارون وله منصب وغير محتاج للمديح كان يصدح حتى البارحة أمام الجماهير باسم الحرية والقومية، وقد انكتم بعد أن أصبح من أعضاء المجلس الخاص، ولا نرى أنه قد تأثر قدر ذرة لآهات وأنات أهالي الإيمان، الذين شجعهم باسم الحرية والقومية والذين تم أسرهم في قلاع «قبرص»، و«رودس»، و«عكا». وأن هذا الشعب الذي يفتقر إلى الأخلاقيات بهذا الشكل يحتاج إلى حكومة تسوي احتياجاته الخُلُقية أكثر من الاحتياجات المادية. وإذا ما طُلب أميرًا كعُمر فيجب أن يكون هناك أيضًا رجال الله كعثمان وعلي وخالد.
وقد عرضوا على الحجاج أصول الديمقراطية في وقته فقال لهم: «تباذروا أتعمر لكم» أي كونوا مثل «أبي ذر» أكن لكم كعُمر (لبئس المولى ولبئس العشير). وإن هذا الكلام لا يقوله الحجاج فقط بل يقوله أيضًا المؤلفون السياسيون الجُدد في أوروپا، فيقول «جان جاك روسو»: «إذا وجد رجال الله فيمكن أن يمثلوا حكومة ديمقراطية». ويقول مسيو «باريو» في كتابه «أصول علم السياسة»: «إن صورة الحكومة الديمقراطية تمتاز بأنها الأكثر أريحية في الجماعات المتمدنة إلا أن هذه الصورة يجب أن تكون في الأزمنة والأماكن التي تسودها التربية الكاملة، ويتم تنظيمها بشكل جيد بحيث [يتم الاكتفاء بالأخلاق]» (ص382).
سؤال: إن الحرية والمساواة من الحقوق البشرية، وإن صورة الحكومة التي تكفل هذه الحقوق هي الحكومة الديمقراطية.
الجواب: ما أجمله من فكر وما أصحه من نتيجة! لا شك أنه كذلك لكن لننتقل مرة واحدة من النظرية إلى التطبيق، ولننظر إن كان تطبيق الديمقراطية ممكنًا أم لا بهذه الصورة وهذا هو مجال البحث؛ وذلك لأن المقياس الصحيح لعلم الفقه وعلم السياسة إمكانية الإجراء والتطبيق والنفع بحيث لا ينفصلون عن بعضهم، وقد قال مسيو باريو ص 386: «إن ما يُدعى صحته إن لم يكن ناضجًا فليس صحيحًا، ولذا فإن الصحيح في السياسة لا يفترق عن إمكانية التطبيق والنفع …». وإن القاعدة الفقهية [التي تقول]: «لا يجوز الإفتاء بالأقوال الصحيحة المهجورة العمل» يرجع لهذه النقطة.
وإن عدم إمكانية إجراء الديمقراطية في المملكة العثمانية لا يعود فقط لفساد الأخلاق، فتواجد المملكة على رقعة واسعة واحتوائها على ألسنة وعادات وأديان مختلفة كان عائقًا دائمًا أمام الديمقراطية فيها، وإن الجمهوريات الباقية حاليًا في الدنيا لا تُعطينا مثالًا عن إمكانية إجراء المساواة في الدولة العثمانية، بل تبين عدم إمكانية ذلك؛ فحاليًا أين نجد الديمقراطية؟ أليست في «سانت مارين» [سان مارينو]؟ إن شعب هذه الجمهورية يساوي 8000 شخص يمثلون أمة واحدة، وجمهور «أندرو» 18000، و«لوبك» 30,000 أما ممالكنا نحن فكم تصل من آلاف؟ إن هذه الممالك التي توازي واحدة من قصباتنا واقعة تحت الحكم الجمهوري، ومع ذلك فإنهم يعيشون تحت حماية الدول [العظمى].
إن أكبر جمهورية في أوروپا هي سويسرا، وهي مكان بقدر ولاية «الدانوب» [عندنا] إذ هي عبارة عن مليونين ونصف من البشر، وإن موقعهم وحالتهم تناسبها هذه الإدارة، وإن الجمهورية هناك عبارة عن عهود ووفاق بين ممالك متعددة، ففي سويسرا اتفقوا على أن تُحافظ كل مملكة على امتيازاتها وإدارتها، وعلى هذا فهي ليست الديمقراطية التي نعرفها، وإن الممالك المتفقة هناك لا يوجد فيها إلا لغتان الألمانية والفرنسية ومن بين مليونين ونصف هنالك ثلاثة أو أربعة آلاف يهودي إذ ليس هنالك إلا الدين المسيحي، ومع هذا فإن الممالك منقسمة لمذاهب مسيحية مختلفة، فمثلًا لا يختلط الكاثوليك بالبروتستانت فهي تسع مدن كاثوليكية صرفة وسبع مدن بروتستانتية صرفة، أي من بين اثنين وعشرين مدينة، هنالك ست مدن فقط يختلط فيها الكاثوليك بالبروتستانت. وفي سويسرا المسيحيون ملتزمون صوفيون، مما يعنى أن هنالك أخلاقًا فهي ليست كفرنسا، وحتى في سويسرا فإن المدن الاثنتين والعشرين المتفقة لم تتفق وتصبح وحدة واحدة إلا في السنين الأخيرة هذه.
وفي القديم فإن الجمهورية كانت عبارة عن اسم فقط؛ لأن صور الحكومات لم تكن واحدة وكانت مُقسمة لثلاث مدن تُدار بواسطة عائلات أرستقراطية، وست مدن ديمقراطية وباقي الممالك تحت إدارة أحزاب فأين المساواة إذن؟
أجل أمريكا في العالم الجديد عبارة عن جمهورية كبيرة وهي عبارة عن ممالك متفقة، لذا لا يمكن لهم أن يعطوا لنا مثالًا. إن الإدارة الأمريكية تكونت نتيجة لاتفاق واتحاد بين ممالك مستقلة كثيرة، ولذا فهي صورة حكومية مناسبة لحالة تلك البلد. إذ تُقسم هذه المملكة إلى ولايات، ومقاطعات، وأحياء وكل مكان فيها يحوي 600,000 شخص يطلق عليه اسم الولاية، وكل ولاية لها إدارة مستقلة وامتيازات مُخصصة، حيث اتفقت 35 ولاية بشرط المحافظة على الاستقلال الإداري والامتيازات، وحسب هذه الاتفاقية فهناك في مدينة «واشنطن» حكومة تتألف من مجلس الشيوخ وشورى النواب، ويتم إجراء انتخابات كل أربع سنين لاختيار رئيس الحكومة الاتفاقية، ويكون هناك نائب للرئيس لا يمكنه التدخل في أمور إدارة الولاية إلا أنه يَنظر في إدارة الأقضية، أما النواحي فتدار بواسطة المناطق الأقرب.
في الحقيقة لا يمكننا السكوت عن المسألة أكثر من هذا وهي أن الديمقراطية عبارة عن خيال. أليست معناها أن يحكم الشعب؟ (مأخوذة من اليونانية ديموس بمعنى الشعب وكراتوس تعني الحكومة)، وإن أصل حكم الشعب يعني أن يجتمع الشعب للاستشارة وإعطاء الرأي في أي قرار ونظام سيتم اتباعه، كما كانوا يجتمعون في الجامع أيام الخلافة [الأولى]، فإن كان من الممكن تطبيق ذلك في المجتمعات الصغيرة كيف لنا أن نجمع الشعب كاملًا في المجتمعات الكبيرة؟ أليس لكل منهم ما يشغله؟
وبناء على هذه النظرة يُمكننا إصدار حكم قطعي عن عدم إمكانية تأسيس ديمقراطية صحيحة، ومن أجل عدم الإمكانية هذه نرى حاليًا في الجمهوريات أنهم عَدلوا عن اجتماع الشعب باجتماع «المبعوثان»، وإن أكثر مجلس «مبعوثان» منظم هو مجلس «سويسرا»؛ فهناك ينتخب كل 20,000 شخص وكيلًا يبعثونه للمجلس، مما يعني أن كل 20,000 يكونون على رأي شخص واحد، ومع هذا ففي مجلس «المبعوثان» يكون الاعتبار لرأي الأكثرية من «المبعوثان» ولذا يتم اعتماده، وفي هذه الحالة ألا يكون رأي الشعب دون أدنى قيمة إن أخذنا رأي الأغلبية؟ من المؤسف أن يكون هنالك حدود بين الإمكانية والتطبيق، وهكذا تم التفريق بين النظرية والتطبيق في المبحث السياسي، لكن تظهر مسألة نتيجة لهذا الإقرار: فلو افترضنا أن حكومة قبلت مجلس شورى النواب؛ فهذا يعني أنها قَبلت روح صورة الحكم الجمهوري.
وفي حال تم فهم المباحث التي ذكرناها حول الديمقراطية، فلنرى كيف يمكن أن نَصل إلى الديمقراطية والمساواة في المملكة العثمانية، وكيف يتيسر لنا جمع وتوحيد كل هذه الأجناس والأديان والمذاهب والألسنة المختلفة، أترى يمكن تشكيل اتفاق كأمريكا وسويسرا؟ إن الحديث عن إمكانية تشكيل كهذا كأنك تتحدث عن إمكان عقد اتفاق بين صربيا في أوروپا ومصر في أفريقيا وبين بلغاريا في شرقي أوروپا وتونس في غربي أفريقيا. يا له من خيال!
إن القضية التي يجب أن نفهمها أن النظام الذي يصلح للدولة العثمانية في موقعها وحالتها هو نظام السلطنة، وفي فرنسا أو إنكلترا أو أي مكان من الجمهوريات، ماذا يحصل حين تحكم الجمهورية؟ لننظر للتطبيق، ففي وقته حين تم اعتماد النظام الجمهوري في فرنسا وإنكلترا أصبحوا منبع فساد للأمم ومُخلي نظام العالم، فجمهورية فرنسا اعتدت على الشرق أولًا، وأجبرت الدولة العثمانية على إجراء اتفاقيات مع روسيا وإنكلترا تَضُر بها.
وكم من الغريب أن مؤيدي الجمهورية في إنكلترا وفرنسا حين يتحدثون عن الديمقراطية والمساواة والحرية لا يرغبون في أن يخلوا قبضتهم عن كندا والهند والجزائر، وخصوصًا الفرنسيين فهم يتحدثون عن الحرية والمساواة ويرغبون بأن يحكموا العالم كله كالقيصر. وما داموا يرغبون بالحرية والمساواة فليسألوا عرب الجزائر الذين لا توجد بينهم روابط لا بالجنس ولا بالدين ولا بالعادة ولا بالموقع، ولنرى إن كانوا سَيرجحون أميرهم وإن كان ظالمًا على فرنسا أم لا؟
سؤال: هل تبقى الإدارة الحالية في إسطنبول كما هي؟
الجواب: كلا. ماذا نفعل إذن؟ لتكن حكومة برلمانية أي تكون حكومة مختلطة قائمة على أصول المشورة كالصورة التي تم قبولها في فرنسا عام 1870 – وما الصورة التي تناسبنا من صور الحكم؟ الخلاصة: أن يتم توسيع المجلس العالي الموجود عندنا وكذلك يُفتتح مجلس لشورى النواب بانتخاب الأهالي ويوضع الوزراء تحت المحاسبة. ومحاسبة الوزراء تعني أن السيرة السياسية للوزراء تُناقش في شورى النواب، فيُحاسبهم أعضاء المجلس وهم يجيبون، وفي النهاية إن تم استحسان الوزير من قِبل الأكثرية في المجلس يستمر في منصبه، وإن كانت أكثرية الآراء ضد الوزير يُعزل من وظيفته.
سؤال: بهذه التدابير هل ستتمكن [وزارة] المالية من إيجاد النقود فورًا وإدارة الممالك والإمارات الواسعة؟
الجواب: إن هذه القضية بكاملها قضية مختلفة، وإن التدابير التي قلناها تُمكن الدولة العُثمانية من تأسيس الممالك على أساس قوي في الروملي [أراضي الدولة في البلقان حاليًا] والأناضول، والتي تتبع حاليًا لنظام الضرائب المباشرة للعسكر، وإن النقود في المالية توفرها إدارة الثروة لأزمنة طويلة. أما قضية التسلط بالقوة القاهرة على الإمارات (فبزعمي) قد مضى الوقت على أن تكتسب إسطنبول قوة قاهرة كتلك، وليس هنالك أي احتمال لذلك. أما حين ننظر لأفريقيا فلو توحدت تونس وطرابلس الغرب ومصر (لو جمعوا عقولهم في رؤوسهم) فسيشكلون أعلى وأقوى دولة إسلامية، ولو لم يحدث ذلك فإن القوة القاهرة لأوروپا ستَحكُم أفريقيا، وما سيحدث في تلك الحالة من المقاومة لن يزيد عما فعلته إسطنبول للجزائر، وبنظرنا أن هذا أمر مُقدر لا حيلة لنا فيه [يقصد أن الاحتلال الأوروپي واقع].
أما إسطنبول، فلو استطاعت أن تَدعُم سياسة توحيد الممالك المتعددة لأفريقيا وفتحت أعيُنها لتوليد دولة أفريقية من الآن، لوجدت لنفسها مساندًا كبيرًا لبقائها، ولذُكرت العائلة العثمانية في التاريخ بهذا الشرف إلى يوم القيامة.
والله أعلم بالصواب.
* نُشر المقال في جريدة «علوم» في باريس، المجلد الثاني، العدد 18، مايو 1870 ص1083-1107. وكل كلام المقال هو ترجمة لكلام علي سعاوي باستثناء الكلمات والشرح الموضوعين بين قوسين بالشكل [ ] فهي إما لشرح قصد الكاتب، أو لإضافة كلمة كي يستقيم السياق العربي.
- كان عدد جيش المسلمين في تلك المعركة 40,000 (الكاتب)
- كان أمير المؤمنين حينها عُمر بن الخطاب. (الكاتب)