كُرِّم المخرج الكبير علي بدرخان من مهرجان الإسكندرية السينمائية في دورته الـ 37، كتكريم مستحق على أعماله التي رصدت فترات مهمة في تاريخ مصر، مثل أفلام «الكرنك»، و«الاختيار»، و«العصفورة»، و«أهل القمة»، وغيرها، ليعبر عن سعادته الشديدة بهذا التكريم؛ لأنه يأتي بعد مسيرة فنية طويلة خاض فيها الكثير من الصراعات، ويعيد إحياء أعماله ليراها الجيل الحالي، مشيرًا إلى أنه بعد تكريمه لا يستطيع أن يروي بنفسه تجربته في السينما، فيجب أن يترك ذلك للجمهور والنقاد.

هو مخرج استثنائي في تاريخ السينما المصرية، صاحب أسلوب مميز، جعل من أفلامه مرآة للمجتمع وثورة على الفساد والظلم، فنشأته الفنية وسط المخرجين والمؤلفين واستوديوهات التصوير، وتتلمذه على يد يوسف شاهين، بعد والده، جعله يعشق الفن ويكوِّن رؤيته وحلمه في توصيل رسائله وأحلامه من خلال أعماله، فعلى الرغم من أن والده المخرج أحمد بدرخان قال له ذات يوم: «اسكت متكلمش»، فإنه لم يسكت أبدًا، وصار علامة فارقة اسمها علي بدرخان الذي كان لـ «إضاءات» معه هذا الحوار:

بدايةً … منذ جملة «اسكت متتكلمش» التي أمرك بها والدك المخرج الكبير أحمد بدرخان كيف خطوت أولى تجاربك؟

والدي أصر على التحاقي بقسم الإخراج السينمائي، على الرغم من أنني كنت أريد الالتحاق بقسم التصوير أو التمثيل؛ لعشقي الشديد لهما، وخصوصًا التصوير الذي كنت أمارسه كثيرًا في حياتي منذ الصغر، فإنني كنت أعيش في الاستوديو طول الوقت، وأمارس التصوير.

ولذلك أنا أدين بالفضل الكبير إلى والدي الراحل أحمد بدرخان، الذي تعلمت منه كثيرًا، وعملت معه أكثر من عمل فني واستفدت منه، وساعدني في دخول مجال الإخراج، ولديَّ فكرة قوية عنه بحكم عمله، واستحضاره للكثير من المؤلفين إلى المنزل للتحضير للأعمال التي يقوم بها، وكنت أجلس معهم وأعلق على بعض الملاحظات فكان يقول لي: «اسكت خالص متتكلمش»، ومن هنا شعر أنني سأكون مخرجًا جيدًا؛ لأن تعليقاتي كانت بها وجهات نظر إخراجية.

ننتقل بعد ذلك إلى علاقتك بالمخرج الكبير يوسف شاهين … كيف بدأت؟

عملي مع يوسف شاهين كان تجربة استثنائية في حياتي ولها مذاق مختلف، فعلى الرغم من أنه كان لا يُعلِّم أحدًا إلا بطريقته الخاصة، وهي التعليم العملي، فإنني كنت دائمًا لديَّ رؤية خاصة وفكرًا مختلفًا، وكنت دائم السؤال، وهو ما جعل علاقتي به قوية.

وعلاقتي بيوسف شاهين بدأت منذ الدراسة، فتعرفت عليه من خلال المعهد، وبعد انتهاء دراستي وتخرجي أردت العمل معه، فذهبت إليه بالفعل، وكنت سأعمل معه في فيلم «الأرض»، وبدأت في التجهيزات معه، ولكن حصلت على منحة من إيطاليا، فسافرت ولم أستطع حضور تصوير الفيلم، وعندما عدت كان يعمل على فيلم «الاختيار»، فذهبت إليه مرة أخرى وطلبت منه العمل معه في هذا الفيلم، فوافق، وقال لي نصًّا: «طيب واقف بتعمل إيه متدخل تشتغل»، فسألته: «أعمل إيه؟» قال لي: «اعمل أي حاجة»، ففي هذه اللحظة وبجملته التي قالها لي: «اعمل أي حاجة» تعلَّمت كثيرًا؛ لأنني عملت مع بتوع الكهرباء والديكور ومساعدي الكاميرا والكلاكيت، وكل شخص داخل الاستوديو.

كيف استطعت أن تكون المساعد الأول ليوسف شاهين؟

يوسف شاهين كان له خاصية غريبة في الكتابة، فكان خطه مثل خط الدكاترة لا يستطيع أحد غيره أن يقرأه، فأعطاني نسخة وكان يعرف أنني لن أستطيع قراءة أي شيء منها، ولكنني ظللت أعمل عليها وأحاول فك طلاسم كتاباته، ونجحت في ذلك، وفي أحد المشاهد عدَّلت عليه حسب ما كان يكتب في السيناريو، فأدرك أنني نجحت في قراءة ومعرفة السيناريو، فأعطاني نسخته الخاصة، وقال لي: «أنت هتكون المساعد الأول بتاعي»، وبعدها تعاونت معه في عدة أعمال.

وماذا عن تجربة فيلم «شفيقة ومتولي»؟ وهل يوسف شاهين تحول إلى مساعدك في هذا العمل؟

لا لم يكن مساعدي في «شفيقة ومتولي»، فقد بدأ في العمل على الفيلم، ووقتها أجرى عملية «قلب مفتوح»، وخرج من المستشفى فبدأ مباشرةً في التصوير، وأنا كنت أساعده حتى لا أتركه وهو في هذه الحالة، وبعد انتهاء أول أسبوع وجدته يكلمني ويقول لي: «كمل أنت الفيلم أنا مش هقدر»، فرفضت في البداية، ولكنه أصر وقال لي: «أنت عاوزني أموت».

وافقت على الفيلم، ولكنني قلت له: «إديني فرصة أراجع على السيناريو»، فاستغرب كثيرًا وقال: «يعني إيه تراجع على السيناريو بتاعي»، فرديت عليه: «مش أنت اللي معلمني كده كل مخرج وله وجهة نظر»، ليغضب قليلًا وقتها ويقول: «أنت هتعدل عليَّ»، قلت له: «لا ولكنني سأضع وجهة نظري»، فسألني: «هتخلص الموضوع ده في قد إيه؟» فجاوبته: «أسبوعين حتى أتمكن من دراسته مع الكاتب الكبير صلاح جاهين»، ولكنه لم يوافق وأعطاني مهلة 10 أيام فقط، واستكملت بعدها التصوير، وكانت مسئولية كبيرة بالنسبة إليَّ، على الرغم من أنني كنت أخرجت وقتها أكثر من عمل.

قدَّمت من خلال فيلمك «أهل القمة» قضية مهمة عن عصر الانفتاح والكسب غير المشروع … فماذا عن هذه التجربة؟

قبل أن نتطرق إلى فيلم «أهل القمة» يجب أن نفسر الفرق بين القصة والنص الأساسي والفيلم، فالأولى جزء من الفيلم، فالفيلم به عوامل أخرى مثل التصوير والديكور والمونتاج والمؤثرات البصرية وقصة، كلها عوامل تنقل النص المكتوب، وتجربتي مع فيلم «أهل القمة» أعجبتني كثيرًا منذ قراءتي للقصة، خصوصًا أنها كانت من الكاتب الكبير الراحل نجيب محفوظ، وكل الأعمال التي تعاونت معه فيها كنت أذهب إلى منزله وأجلس معه ونتناقش فيها، وكان يقول لي: «أنت الفيلم بتاعك وأنا القصة بتاعتي … اعمل اللي أنت عاوزه»، ولكنني كنت أحب أن أستنير به، وأعرف إذا كانت الفكرة نفسها وصلت لي أم لا.

ووجدت في فيلم «أهل القمة» أن قصته بها رسالة ونوع من اليأس والسوداوية، والحكومة وضعت يدها في أيدي الحرامية، فقلت له أنا شخصية مقاتلة ولا أستسلم، فلابد أن يكون هناك بصيص أمل، ويحدث تغيير في النهاية، ولذلك غيرت بشكل بسيط في النهاية عن القصة.

الأعمال التي قدمتها أغلبها يناقش مواضيع شائكة … هل واجهت أي أزمات مع الرقابة قبل ذلك؟

لا، لم أواجه أي مشاكل مع الرقابة؛ لأنني أستطيع إقناعهم جيدًا بما أريد تقديمه.

كيف ترى الأعمال التي تقدم في السينما في الفترة الحالية؟

الأعمال في السينما الآن كلها استهلاكية، وبعضها مسروق من الخارج، وتكون ضعيفة؛ لأنها لا تشبه مشاكلنا أو مجتمعنا، ولكن فيها تصويرًا وإخراجًا وتمثيلًا وديكورًا جيدًا، وهذه العوامل ليست الوحيدة لإخراج عمل سينمائي جيد، فالسينما المصرية الآن فاشلة في تقديم  قصة وسيناريو جيدين، كلها قصص باهتة وتفتقد الكثير من التفاصيل وتحتاج إلى تركيز كبير من المخرجين، والمنتج شغلته في النهاية هي أن يكسب المال، وإذا كسب المال فسيكون قد نجح، أمَّا الفيلم نقلة أم لا فهذا ليس موضوعنا، ولكن الشيء الإيجابي أن لدينا عددًا قليلًا من المخرجين نجد فيهم أملًا كبيرًا.

هل ترى أن صناع السينما هم السبب في انهيار الذوق العام؟

لا، فالذوق العام أصبح «منيل كدا كدا»، المنتجون وصنَّاع السينما ليسوا وزارة الثقافة، أو وزارة إعلام، والدليل على ذلك الإعلانات في الشوارع التي أصبحت جميعها باللغة الأجنبية، وإذا وجدت إعلانًا باللغة العربية، فستجد لغة عربية تعتبر لغة «الحلمنتشي»؛ لأنها لغة ركيكة.

هناك العديد من الاتهامات التي نالت محمد رمضان بإفساد الشباب … ما رأيك؟

الإعلام يتحدث عن أن محمد رمضان يعمل على إفساد الشباب طوال الوقت، وأرى أنه كلام فارغ و«عبيط»؛ لأن محمد رمضان مُستغَل من المنتجين ويرونه نجمًا يحقق أرباحًا فيستغلونه في أعمالهم ونجاحاتهم، فالأفلام التي يقدمها ليس هو من كتبها، فهناك سيناريو ومخرج ومجموعة من الفنانين غيره، فلماذا نحمله المسئولية، محمد رمضان فنان جيد جدًّا، والسبب وراء وقوعه في الخطأ هو الهجوم الذي يتلقاه ويضطره إلى الرد عليه بهجوم، هذا هو الخطأ الوحيد لديه، ولكنه ممثل شاطر وموهوب جدًّا.

تجربة السبكي في مصر أنقذت السينما أم أفسدتها؟

تجربة السبكي ليس لها دور في انهيار الذوق العام، فهم أنقذوا منازل العديد من السينمائيين، التي كانت مهددة بالجوع، ولكن ليس لهم دخل في سقوط الذوق العام، ففيلمه كان يفتح 60 بيتًا، في وقت توقفت فيه الدولة عن الإنتاج وهرب عدد من المنتجين؛ وعندما وجدنا أشخاصًا ينتجون وينشطون الصناعة في مصر ويدعمونها نهاجمهم ونصدر ضدهم الأحكام، بأي منطق ذلك؟!

مَن هم المخرجون الحاليون الذين نستطيع أن نقول إنهم على خطى أبناء جيلك؟

هناك مخرجون مبدعون بشكل كبير خرجوا على الساحة خلال الفترة الماضية، وأنا أدعم الجيل الجديد لأنه يتميز عنَّا بأنه أدرى بالتقنيات الحديثة، والأبعاد الثلاثية وغيرها، ويستطيع أن يستخدم تلك الأمور بشكل لم نستطعه نحن، وأيضًا هناك ممثلون جدد ممتازون، والديكورات أيضًا أصبح فيها طفرة، والتصوير والمونتاج والصوت وغيره، لكن عندما نأتي لكتابة السيناريو هناك مشكلة أن الذي يسيطر على الصناعة الآن شغلته أن يربح فقط، وأنا لا أطلب منه أن يأخذ دور وزارة الثقافة والإعلام، ولكنني أحثه على أن يختار بشكل أفضل.

مثل مَنْ من المخرجين؟

شريف عرفة، ومروان حامد، وشادي الفخراني، وتامر محسن، ومحمد علي، وأحمد الجندي، وكاملة أبو ذكري.

ما هي الشروط الواجب توافرها لتقديم عمل فني جيد؟

نص جيد وإنتاج متحمس، هذا ما ينقصنا، فلا بد أن يفهم المؤلفون أن الدراما صراع، عندما يكون هناك شخص طيب وأخلاق فقط فليس هناك دراما، ولكن لا بد أن أواجهه بشرير وأواجههم بفساد حتى يكون هناك صراع ودراما.

كيف ترى دور النقابات الفنية في مصر؟

لا توجد نقابات في مصر، لا فنية ولا غير فنية، فهي أماكن كارتونية لتقديم معاشات وتأمين صحي، فالنقابات الفنية زي قلتها، دور النقابة الحقيقي هو فتح آفاق جديدة للفنان وتوفير أماكن عمل جيدة، ولكنهم لا يفعلون شيئًا لحماية صناعة السينما، فعلى سبيل المثال: «نقابة المهن السينمائية لم تعقد اجتماع جمعية عمومية منذ 6 سنوات».

ما رأيك في المنصات الرقمية مثل «نتفليكس»؟

شيء محزن جدًّا أن تتحول صناعة السينما إلى المنصات الرقمية، فالأفلام التي تقدمها منصة «نتفليكس» أفلام الدرجة الثالثة، والمنصات تضر بصناعة السينما، والأفلام التي تقدمها تخاطب غرائز الجمهور، وأعمالها خيالية تناقض القضايا الحقيقية.

هل يستطيع علي بدرخان أن يعود إلى الإخراج السينمائي من جديد؟

بالتأكيد، فأنا أستطيع النزول وتصوير أفلام، وليس فيلمًا واحدًا، ولكن شركات الإنتاج حاليًّا لها توجهات معينة في أفلامها، كما أنه يُعرَض عليَّ حتى الآن سيناريوهات كثير جدًّا، ولكن جميعها أفلام تشبه الأجنبية، لا تمس مجتمعاتنا وقضايانا.

وهل لديك أي موضوعات أو قضايا تريد تقديمها؟

المجتمع في تطور وأزمات جديدة، لذا فالأفكار تتغير كل فترة، وأنا حاليًّا أمتلك العديد من المشاريع، أحدها عن القضية الفلسطينية، وعام 48 عندما تم الاستيلاء على فلسطين، وآخر عن المشكلة الكردية، وهذه المواضيع تحتاج إلى دعم دولي، لذا توقفت بسبب الظروف المحيطة والإنتاج.

في ندوة تكريمك بالإسكندرية السينمائي كان هناك استغاثة بالدولة … فماذا تريد؟

أطالب الدولة بالتدخل ليكون لها دور في إنتاج بعض الأعمال التي قد لا يتحمس لها منتجو القطاع الخاص، فأنا وغيري من المخرجين الجالسين في منازلهم نريد تقديم أفلام تطرح قضايا تهم المجتمع مثل التعليم والصحة، يجب على الدولة أن تعطي فرصة للمنتجين والشركات للعودة إلى العمل مرة أخرى.

أخيرًا … هل تريد أن تقول كلمة عن الفنانة الراحلة سعاد حسني؟

حياتي مع الفنانة سعاد حسني خط أحمر، لا أريد الحديث عنها كثيرًا، فهي فنانة قدمت مشوارًا فنيًّا كبيرًا ومهمًّا، كما قدمت العديد من الأعمال التي ستظل محفورة في وجدان محبيها وعشاقها في الوطن العربي.