علي الزيبق: الشعب يريد إسقاط «ابن طولون»
في أواخر العصر المملوكي وأوائل العصر العباسي، لمع اسم علي الزيبق، أشطر شطّار مصر، الذي خاض جولات مطوّلة ضد عددٍ من الحكام الظالمين داخل مصر وخارجها.
أضيفت هذه الحكاية إلى باقي قصص السير الشعبية للأبطال القادرين على تحدّي السُلطة، التي حقّقت رواجًا كبيرًا بين الناس. وهو ما برّره الأديب فاروق خورشيد بأن الوجدان الشعبي نظر إلى على الزيبق باعتباره «الفارس النبيل».
استغلت قصة الزيبق هوس المصريين القديم بالقصص الشعبية؛ بحسب كتاب «وصف مصر»، فإن المصريين كانوا يجتمعون بالآلاف في المقاهي للاستماع إلى رواة القصص الشعبية. وفي أواخر القرن التاسع الهجري نشرت الصحف مقالة للإمام محمد عبده يشتكي من إقبال المصريين على شراء كتب «ألف ليلة وليلة» حتى إن الطبعة الواحدة منها تنفد في أيامٍ قليلة
الحكاية الشعبية
رسميًا، لا نكاد نعرف شيئًا عن علي الزيبق، إلا من فقرة صغيرة رواها ابن الأثير ضمن وقائه عام 444هـ، قال فيها: «حدثت فتنة بين السنة والشيعة ببغداد، وامتنع الضبط وانتشر العيارون وتسلّطوا على الأسواق، وأخذوا ما كان يأخذ أرباب الأعمال، وكان مقدمهم الطقطقي والزيبق».
أما شعبيًا، فلقد احتلَّ الزيبق مساحة معقولة ضمن حكايات ألف ليلة وليلة، قبل أن يُسلخ منها على أيدي الرواة المصريين، ويجعلونه بطلًا مصريًا خالصًا بعدما أضافوا إلى روايته عديدًا من التفاصيل اللازمة لاستكمال الحبكة.
وبحسب الباحث علي شادي، فإن الصياغة المصرية لعلي الزيبق ظهرت في القرن الثامن الهجري، واستُكمل العمل عليها خلال العصر العثماني.
سبب ذلك هو شيوع ظاهرة «الشطار» التي ارتبطت بنظام الفتونة الذي عرفته عدد كبير من الدول الإسلامية؛ تعبيرًا عن الفتيان الذين امتلكوا قدرًا من القوة دفعهم إلى تدبير عدة تظاهرات احتجاجية ضد فساد الحكام.
عُرفوا في العراق بِاسم «العيارين»، وفي الشام بِاسم «الأحداث»، وفي المغرب بِاسم «الصقورة»، وفي مصر بِاسم «الشطار».
تكرّرت انتفاضات الفتيان الأقوياء في عددٍ من الأقاليم الإسلامية لا تستهدف إلا تحقيق الأمن وتُطالب بالعدالة الاجتماعية. فشلت جميع هذه الحركات في إسقاط نظام الحُكم إلا أنها نجحت في تخفيف الظلم الاجتماعي على الفقراء، ودائمًا ما حظي زعماء الفتيان بإعجاب العوام، وباتوا ضيوفًا وأبطالاً دائمين في حكاياتهم الشعبية.
من ضمن هؤلاء كان «علي الزيبق»، الذي كان في الأصل عيارًا عاش في بغداد خلال القرن الخامس الهجري، إلا أن الحكاية الشعبية حوّلته إلى شاطر مصري شهد نهاية حُكم المماليك وبداية سيطرة العثمانيين.
بحسب الحكاية، فإن الفارسية دليلة سيطرت على البلاط العباسي وعلى رأس الخليفة هارون الرشيد، فدفعته لعزل المقدم حسن قائد الدرك، من منصبه.
سافر المقدم حسن إلى الفيوم، وهناك تزوج من فاطمة ابنة القاضي، ومنها رُزق بطفلهما «علي».
كوّن المقدم حسن عصابة اعتادت الاستيلاء على قوافل كبار التجار وتوزيع أموالهم على الفقراء، لذا أمر ابن طولون من رجله الأمني وذراعه الباطشة صلاح الدين الكلبي بقتله.
ربّت فاطمة ولدها على قاعدة واحدة، وهي ضرورة الثأثر لأبيه. تعلّم الابن الفروسية والمبارزة وبرع فيهما، ثم أتقن ما هو أخطر وهو فن التنكر، الأمر الذي مكّنه من التسلل إلى القصر الملكي أكثر من مرة.
وبحسب القصة، فإن الزيبق أدرك أن أمن مصر مرتبط بأمن الشام، فسافر إلى دمشق وبغداد وبذل جهودًا كبيرة للقضاء على الفساد في هذه الحواضر الكبرى.
في بغداد، وقعت معركة مباشرة بين الزيبق وبين دليلة لكنه ينتصر عليها.
سر التسمية
أوردت الحكاية الشعبية سببًا مباشرًا لتسمية علي بـ«الزيبق»، وهي أن عليًا بعد ولادته وُجد «في رقبته عقد ومدهون بشيء من الزيبق».
إلا أن دكتور محمد صفار لم يقتنع أن هذا الأمر هو السبب الوحيد، وأورد في دراسته «تحليل مفهوم السياسة في سيرة (على الزيبق)» سببًا آخر هو أن كلمة الزيبق تحمل دلالة عامة على مسار القصة، وهي السيولة الهائلة، التي ميّزت أغلب شخصيات الحكاية، وليست شخصية البطل علي بمفرده.
تقدّم الحكاية علي كشخصٍ خارق يستطيع التنكر والتخفي بشكلٍ لا مثيل له، تمامًا مثل الزئبق المعدن الوحيد الذي يفتقر إلى الصلابة ويتّسم بالسيولة.
وبحسب صفار، فإن حالة السيولة تلك لاحقت السيرة الزئبقية من بدايتها حتى نهايتها؛ فالحدث الواحد قد ينقلب من النقيض إلى النقيض من دون تمهيد أو تبرير، كما أنها لم تُصغ في القالب الدرامي المعتاد المتمثّل في البداية والوسط (العُقدة) ثم الحل.
تاريخ من ليس له تاريخ
قال دكتور محمود إسماعيل في أطروحته «صور المقاومة في المخيال الشعبي»، إن الخيال الشعبي أبدع خلال العصور الإسلامية الوسطى أدبًا ينبض بالحيوية ويستهدف تجييش الشعوب ضد الأنظمة الظالمة.
لذلك اعتبر إسماعيل أن الأدب الشعبي سجل تاريخي للمقاومة التي حُرّم عليها الوجود في كتب التاريخ الرسمي الذي كان يُسّطر بمعيّة الملوك.
من ناحيتهم، قام مؤرخو البلاط بكل ما يستطيعون لتشويه صورة حركات المعارضة الشعبية في كتبهم؛ فوصفوهم بـ«أهل البدع والضلالات» يقودها «خبثاء مارقون قادوا العوام لإضرام فتن ضد من جعلهم الله ظلاًّ له في الأرض».
يضيف محمود: «لم يتورعوا عن نعت الثوار بنعوت الأراذل والسفلة والغوغاء، كما اعتبروا أن نضالهم محض سلب ونهب وتطاوُل على أولي الأمر، غايته الوحيدة هي الفساد واللصوصية وقطع الطريق.
هذه النظرة استمرّت حتى وقتٍ قريب العهد، نسبيًا، فخلال عهد الملكية المصرية اتخذت الحكومة قرارًا بمنع نشر كتب السير الشعبية، قرار دعّمه الشيخ محمد عبده قائلاً «حق على العاقل بإبادة هذه الكتب لما تحتويه من الغش والخداع؛ خدمًا للفضائل والآداب الإنسانية».
ربما يُمكن فهم هذا الموقف، من مشروع الإمام عبده الكبير الذي حاول فيه تخليص التراث الديني والاجتماعي من الخرافات الشعبية السائدة.
استغلال سياسي
كتابة قصة علي الزيبق، تضمنت محاور سياسية واضحة، فالصراع بينه وبين «دليلة» هو في حقيقة الأمر تعبير عن الاقتتال بين العرب والفرس على العرش طيلة الفترة العباسية.
كما أن تمجيد تصرفات الشطار تضمن لمحة اشتراكية قحة، وهي ضرورة مصادرة أموال الأغنياء وتوزيعها على الفقراء.
وهنا يجب ألا نغفل أن عصر المماليك اشتهر بكثرة فرض الضرائب على المصريين. تقول بسمة بن سليمان في بحثها «قراءة في سيرة علي الزيبق المصري»،: نشأت سيرة على الزيبق خلال فترة حُكم المماليك الذين أثقلوا الناس بالجبايات، فعاشوا البؤس والفقر وحياة التشرد؛ إذ تم فرض ضرائب متنوعة حتى وصلت إلى وضع رسوم على الملح والفراريج والأفراح والمواكب وعمل النائحات وبضائع الحجّاج.
ويُلاحظ تسمّية أبطال الجانب الخيّر من الحكاية بأسماء علوية مثل «علي» و«الزهراء» و«الحسن» و«زينب»، وكلها أسماء تنتمي إلى آل البيت الذين عاشوا في موقع المعارضة لمئات السنوات.
كذلك فإن تبنِّي/ أو عدم تبني نشر قصة علي الزيبق، لم يخلُ من دلالات سياسية في بعض الأحيان.
يحكي المخرج المسرحي عبدالرحمن الشافعي في مقالته «الشاطر على الزيبق»، أنه خلال عام 1972م، وبينما كان الحزن يخيّم على مصر جرّاء النكسة بدأ المسرح المصري في تقديم أعمال تحضُّ على روح البطولة والشجاعة، مثل «قولول لعين الشمس» لنجيب سرور، و«جيفارا» لميخائيل رومان، و«أنتَ اللي قتلت الوحش» لعلي سالم، و«الشاطر على الزيبق» ليسري الجندي.
قدّم الكاتب مسرحيته من مُنطلق فرضية دقيقة؛ وهي أن علي الزيبق مهما أُوتي من شطارة وذكاء فإنه لن يحرّر جموع الشعب ويقودهم من الهزيمة إلى النصر وحده، لأن الفردية بطبيعتها وتاريخها مُحبطة.
ولهذا حرص صنّاع العمل على أن تنتهي المسرحية بموالٍ شعبي يقول: (مُحال محال، نبقى احنا والاحتلال، يا إما ما احناش رجال، ولا فينا راجل يا بلد، من ضهر أبوه).
لخّص الشافعي رؤيته لذلك التناول المسرحي الجديد لشخص علي الزيبق قائلاً «إن علي الزيبق البطل يعلن -لأول مرة- أنه يرفض على الزيبق الشاطر، وأن حقيقة البطولة في المجموع وليس الفرد».
مع النجاح الكبير الذي حقّقه هذا العرض، جرى تجهيز سيارات للفرقة لتقدّم عروضها في قصور ثقافة الأقاليم؛ فسافروا إلى أسوان وقنا وسوهاج وأسيوط.
في المنيا، أُعجب المحافظة بالعرض بشدّة حتى إنه أمر بنقلهم إلى استاد المنيا حيث أقيمت لهم منصة عالية في منتصف الملعب قدّمت خلالها الفرقة عروضها أمام 10 آلاف متفرج في اليوم الواحد، وهو ما دفع أهالي المنيا لتسمية هذا الحدث بـ«مولد علي الزيبق».