الحرافيش: حينما رأى نجيب محفوظ المهدي المنتظر
بطل منتظر
انتظر البشر طويلًا في كل أوقات الكروب والمحن ظهور ذلك الفارس الهُمام الذي يقضي على الظالمين ويملأ الأرض عدلًا، تمنته قلة حيلتهم، واخترعه خيالهم، فصار أبديًا في أساطيرهم، ومهما تعددت الثقافات والأساطير سيظهر يومًا علي الزيبق أو سيف بن ذي يزن أو أبو زيد الهلالي، فلا بد من ظهوره حتمًا ليقضي على الطغاة ويقيم ميزان العدل المكسور، فالحل الوحيد دائمًا وأبدًا هو أن ننتظره فهو آتٍ لا محالة.
واليوم نرى ما كتبه نجيب محفوظ حول ذلك البطل الملهم الذي يرحم الضعفاء، ويكسر الأقوياء، ومن ثم يملؤها عدلًا.
من رحم المجهول جاء
«الحرافيش» هي الملحمة التي بدأها نجيب محفوظ بـعاشور الناجي ثم أنهاها أيضًا بـعاشور الناجي كأن الزمان في فلكه الأبدي لا بد من دورته ليعيد نفسه، أو لينظر البشر في أخطائهم التي يكررونها دون توقف.
بهذا تبدأ أولى قصص ملحمتنا في زمن مجهول وحارة مجهولة من حواري القاهرة، ويكأن الكاتب يخبرنا بأن الناس هم الناس ليس بالزمان ولا بالمكان، بل بطباعهم المعهودة وأفكارهم المتكررة، فتبدأ الملحمة بمشهد الميلاد من المجهول، فالبطل الذي لا يُعرف أصله وجده الشيخ الضرير عفرة زيدان طفلًا باكيًا جوار سور التكية، فقرر أن يربيه هو وزوجته العاقر فيكون الدين والرحمة هما الوعاء الذي شبّ فيه عاشور الناجي.
تمر السنون على الفتى الذي تعلّم من شيخه الدين ولزم التكية، وينشأ عاشور ضخمًا قويًا مهيب المنظر بشاربين يقف عليهما الصقر، ولكن قلبه مع كل ذلك «قلب عصفورة» كما كان يسخر منه رجال الفتوة.
ثم أتى الطوفان
حفظ الفتى عهد الشيخ فلم يجعل قوته في خدمة الشيطان أبدًا، لكنه أيضًا لم يسخّرها لخدمة الناس، فقد انطوى على نفسه منعزلًا عن الظلم لا مشاركًا فيه ولا مدافعًا ضده، حتى أتى الوباء الذي أباد جميع أهل الحي كأنه طوفان نوح المطهر للأرض من ظلم أهلها.
فقد رأى عاشور أباه يرشده في رؤيته ليخرج من الحي ويعتصم بالجبل، وهو ما يلمح له محفوظ برؤية الناس الأزلية لقدسية البطل، فلا بد من الرؤية وكشف الحجب كي يمضي الفتى لما هو مقدر له أن يكون.
ويخرج عاشور بزوجته وولده شمس الدين طائعًا لرؤيته، ثم ينعزل في الجبل شهورًا عديدة يُفني فيها الوباء كل من كان على تلك الأرض، ويطهرها لعهدها الجديد، عهد عاشور الناجي.
الناجي
ذلك اللقب الذي اكتسبه عاشور وذريته، فقد بدأ العهد الجديد بعد التطهير، وهو ما أسسه عاشور على الفتونة القائمة على حماية حقوق الضعفاء، والأخذ من الأقوياء لهم، والضرب على يد الظالم، بل أسس تلك المعالم الجديدة كالمسجد والسبيل الذي أصبح من رموز الحي العتيقة جوار السور العتيق والتكية المباركة، وأضحى الحي خلال عشرين عامًا من فتوة عاشور كأنه جنة لا مكان لظالم فيها أو متكبر مهما حدث.
خرج ولم يعد!
وانتهى الحلم الجميل الذي عاشه الفقراء والضعفاء على يد الناجي بخروجه يومًا ليصلي، ثم لم يعد عاشور للحارة من بعدها أبدًا. أين ذهب؟ هل قُتل؟ هل اعتزل؟ هل انضم للتكية؟ لا أحد يدري، فالغموض قد أكمل الأسطورة وجعل نهاية عاشور مبهمة كما هي أناشيد التكية، وإن كان لكليهما لذة للنفس وإجلال في الروح لا يختفيان أبدًا.
ميراث الحكم أم فلسفته؟
وكما يتوارث الأمراء المُلك خلفًا عن سلف، ورث شمس الدين أباه عاشور في الفتونة، فهل يكون الابن جديرًا حقًا بميراث أبيه الثقيل أمام أعين الناس؟ هنا السؤال الذي طرحه محفوظ مستترًا، فعاشور الناجي أسس فلسفة في الحكم قوامها سلطة الفرد البطل الأوحد، ونبّوت الفتوة هو مصدر السلطة، وشرعية وجودها أيًا كان هذا الفتوة المنشود.
وشمس الدين الناجي على نهج أبيه دون فهم ولا وعي، فهو يرفض محاولة الأعيان شراء ولائه وتملق سلطته، ويعيش على درب عاشور فقيرًا معدمًا حافظًا للحقوق، وتبقى السلطة دائمًا وأبدًا للنبُّوت وحده.
ثم بدأ الانحدار وضاعت السلطة
النبّوت لا يتغير، ولكن الأشخاص يتغيرون، وطالما أن فلسفة الفتونة قائمة على النبوت وحده فمن البديهي أن تتغير الأساليب والمناهج بتغير الأشخاص فالنبوت لا عقل له، ولكن المنهج هو الوحيد المعبر عن العقل هنا.
وبعدم وجود ذلك المنهج من الأساس أخذت القصة منحى جديدًا حينما يموت شمس الدين، ويتولى من بعده ابنه سليمان الناجي الذي يبدأ سيرة أبيه وجده ولكن، بعدت المدة وتطاول الزمن وتأكدت فلسفة الحكم للنبوت فقبل سليمان العروض، وتزوج من الأعيان وأنجب أبناء يرفلون في الحرير والذهب، وأعطى رجاله من أموال الإتاوة واختفت مبادئ عاشور الواهية.
بذلك تغيرت الأحوال، ثم بدأ انحدار آل الناجي الأول بخروج الفتونة من بين أيديهم بعد شَلَل سليمان كمدًا على غياب ابنه.
بخروج الفتونة من آل الناجي وانهيار خيوط العنكبوت التي أقام عليها عاشور فتونته، أرانا محفوظ تقلب آل الناجي من محنة إلى كارثة، ومن سيئ إلى أسوأ، فاليوم أصبح منهم السكّير، واللص، بل وقاتل أخيه، وفوق كل ذلك حينما عادت الفتونة لبيت الناجي في أحايين كثيرة نسي من وصل منهم إليها عهد الناجي الأكبر وسار سيرة الظلم بل والفحش في الناس.
ويتنقل آل الناجي على مدار سبعة أجيال كاملة إما في كنف فتوة منهم ظالم شديد البأس عظيم الجنون وساعٍ وراء المستحيل، وإما في الاضطهاد والتنكيل من فتوة آخر يخشى أن يخرج عليه أحد من بيت الناجي.
وانتظروا البطل
أما الحرافيش وعامة الناس فالحل عندهم موجود ومتأصل، فهم يعجبون ويدعون أن ما يحدث لبيت الناجي ما هو إلا اللعنة التي حلت عليهم لمخالفتهم عهد عاشور، وأن يومًا ما سيعود عاشور من غيبته الطويلة فينتقم من كل من خالف عهده ويعيد الحق والحياة للحرافيش المقهورين المظلومين، فإذا ما اشتد الظلم والقهر كانت الإجابة دائمًا: «عاشور هيرجع»، فيرينا بذلك محفوظ ما يمكن أن يصل إليه وهم البشر في الصبر على الظلم والهوان، والحل دائمًا في البطل وليس فيهم، فهم وكما قال علي ابن أبي طالب:
وإذا ما حدث وتساءل السائل عن عاشور ولم يسكت عن هذا الظلم:
وبرغم اشتداد الهوان يصبرون بل ويزداد أملهم أكثر كما يخبرنا نجيب محفوظ:
أين الخطأ؟
تستمر حكايتنا حتى نصل للجيل العاشر، والحكاية العاشرة من ملحمة «الحرافيش» مع عاشور ربيع الناجي.
عاشور الحفيد الذي وإن بدا ضخمًا قويًا يُذكر الناس بجده، إلا أنه لم يملك من قوته وحزمه شيئًا، وفي ظل أشد المحن على آل الناجي بوجود الفتوة حسونة السبع، وأمر القاضي على آل الناجي بالطرد من الحارة نهائيًا، بدأ الحفيد بالبحث في موطن الخلل في فلسفة جده الأكبر، والسؤال الملحّ عن علة عدم استمرارها، ومن ثم يصل لما أراده محفوظ من ملحمته، فالخلل في نفس موطن القوة وهي تلك الفكرة والملحة: البطل، المنقذ، العادل.
إن الخلل يكمن في النبوت نفسه، وفكرته في أن الفرد هو دائمًا من يقوم حوله الأمر، ويكأن محفوظ يقولها بوضوح أن لا استمرار لعدل ولا حق طالما ظل الأمر معلقًا بفرد واحد أيًا كان. ثم يتجلى الأمر في الرؤيا التي يرى فيها عاشور جده الأكبر يمد إليه يده قائلًا: «بيدك أم بيدي؟ فيرد: بل بيدي يا جدي».
وبذلك يبدأ عاشور الحفيد في جمع الحرافيش فيقوي من عزائمهم، ويعلمهم أن الحق لن يعود بفتوة ولا ببطل منتظر، بل سيعود الحق بأيديهم هم، وسيحميه الحرافيش أنفسهم إن حمل كل فرد منهم النبوت مدافعًا عن نفسه ساعيًا وراء حقه ومحافظًا في نفسه على العهد.
وينتهي الأمر بعاشور مؤسسًا لعهد أنقى من عهد جده مرتفع القامة أكبر من المئذنة والسور العتيق، «وتم له أعظم نصر، وهو نصره على نفسه».
يقف الناجي الحفيد إذن ناهيًا أسطورة البطل، ذلك البطل الذي مات ومن مات لا يرجع أبدًا.