في قصر الحمراء: 4 لوحات خلَّدت المجد الغابر
الأندلس دون غيرها دائمًا تجذب الانتباه، بالتأكيد بسبب ما تُدُوول في التراث عن تاريخها وإرثها التليد، والحياة الرغدة التي كان ينعم بها الأندلسيون، وما وُصِفَ في طريقة عيشهم ورقيهم فيها، والبيوت وما بها من بساتين بهجة، فكُتُب التراث تذخر بالكثير عن الأندلس حتى أصبحت كقصص ألف ليلة وليلة، لكن لم يتبقَّ منها إلا القليل الذي بالكاد يرسم لنا صورة عن الحياة فيها، وتحديدًا عن الحياة الاجتماعية.
قصور الحمراء: الإرث الأخير
قصر الحمراء الذي يقع على ربوة عالية يجذب انتباه سكان مدينة غرناطة هو البناء متعدد الطوابق والقصور والقاعات، كل قاعة منها تذخر بفنٍّ رفيع المستوى، يُعبِّر عن فترة تاريخية مهمة عاشتها الأندلس.
هو أحد أعظم الأعمال التي أُنشئت في الأندلس في عصر أسرة بني الأحمر، هنا في هذا القصر كان معقل آخر مملكة إسلامية في الأندلس، التي أبت الرحيل إلا بعد أن خلَّفت عدة نقوش عبَّرت بصدق عن الحياة الاجتماعية والسياسية في الأندلس.
الحياة السياسية في الأندلس، وتحديدًا في عصر بني الأحمر أو بني نصر آخر ملوك غرناطة، كانت مضطربة إلى حد كبير، فالصراع بين ملوك قشتالة وبني الأحمر كان كبيرًا؛ إذ بعد سقوط مدن الأندلس الرئيسية كقرطبة وسرقسطة ومن قبلهما طليطة وإشبيلية، لم يتبقَّ إلا غرناطة التي أسَّس فيها محمد بن يوسف بن نصر دولته.
حاول ابن نصر لمَّ شمل وفتات الإرث الأندلسي التليد، ورأى الأندلسيون فيها الأمل الأخير لبقائهم على الجزيرة الخصبة، فأصبحت تلك المملكة الصغيرة – مقارنة بممالك الجزيرة الأخرى – الأمل الذي تعلَّق به الأندلسيون والمسلمون من حولهم على حد سواء في مواجهة القشتاليين.
قصر الحمراء
يرجع إنشاء قصر الحمراء إلى القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي، وهو العصر الشهير باسم عصر ملوك الطوائف، على يد حاكم غرناطة وزعيم البربر في ذلك الوقت باديس بن حبوس، عندما تمكَّن من حكم غرناطة بعد صراع طويل بين العرب والبربر، فأنشأ مقرًّا لحكم المدينة فوق الهضبة العليا لها، سُمِّيت بِاسم القصبة الحمراء.
أما تسميتها الحمراء فيرجع إلى لون تربة تلك الهضبة المرتفعة، وكانت تضم في بداية الأمر قصرًا ومركزًا للحكومة يحمي الأمير من أي غزو أو ثورات داخل المدينة.
لكن قصر الحمراء لم يرتبط بتلك الفترة بقدر ما ارتبط بفترة ملوك غرناطة بني الأحمر، آخر حكَّام لغرناطة، وكان هذا عندما تغلب محمد بن الأحمر النصري أول ملوك بني نصر على غرناطة في القرن السابع الهجري الثالث عشر الميلادي وحكم المدينة، واتخذ تلك القصبة مقرًّا للحكم وأنشأ داخلها قصره المحصن واتخذه قاعة للملك، وأنشأ حوله العديد من الأبراج كمقرات للقيادة وسكنى للحاشية، وبنى حوله سورًا ضخمًا يلتف حول الهضبة كلها.
توالت الإنشاءات في القصر على مدى تاريخ تلك الأسرة، فقامت القصور والأبراج والحدائق كذلك، ليظهر في النهاية بهذا الشكل المبهر.
في قاعة الملوك 3 نفائس
عبر بهو الأسود شرقًا مرورًا بأحد الأقواس المميزة التي تحملها أعمدة قصر الحمراء الرشيقة، تصل إلى قاعة الملوك «Sala de los Reyes» وهي القاعة الأكثر رمزية في قصر السباع، أو كما يطلق عليها أيضًا في بعض الأحيان قاعة العدل «Sala de Justicia»، ظنًّا من المؤرخين أنها كانت مخصصة لجلسات العدالة التي كانت تعقد في تلك القاعات لتقديم المظالم إلى السلطان.
في تلك القاعة توجد ثلاث لوحات بديعة على ثلاثة أقبية؛ الأولى في المركز وتُعرف بلوحة الملوك، وهي التي سُمِّيت بها القاعة، ثم الثانية وهي لوحة الحب والقتال، وأخيرًا اللوحة الأخيرة وتسمى بلوحة الحياة اليومية.
لوحة الملوك
أكثر ما يميز تلك اللوحة تفرُّدها من حيث نوع الزخرفة؛ إذ إنها ليست معهودة في الفنون الإسلامية، والتي تميزت بالتجرُّد والبُعد عن المحاكاة الطبيعية ورسم الأحياء، لدرجة أن بعض الباحثين نسب تنفيذ تلك الصورة إلى عُمَّال قشتاليين عملوا في القصر وليس إلى فنَّانين مسلمين.
تعكس هذه الصورة نمط الحياة الذي كان يعيش فيه ملوك بني نصر، بدايةً من ثيابهم الأنيقة التي أطلق عليها الأندلسيون اسم «الحلة»، وتتكون من قطعتين؛ «الرداء» و«الإزار»، وعادة ما كانت تُصنع من الكتان أو الحرير بخيوط ذهبية. يظهر أيضًا في اللوحة زيٌّ آخر هو رداء ذو أكمام واسعة يُسمَّى بـ«الجبة»، وهي عادة التزم بها أمراء وملوك الأندلس على طول تاريخهم.
من اللافت أيضًا في هذه اللوحة هو لبس جميع أفرادها لـ «العمائم»، والتي تعكس الأصل العربي لبني الأحمر تأثرًا بنسبهم العربي المتَّصل بسعد بن عبادة زعيم قبيلة الخزرج.
أما السيوف التي يحملونها في أيديهم فلقد اشتهر صُنعها في تلك الفترة، وتشبه السيف الأشهر في غرناطة وهو محفوظ حاليًّا في أحد متاحف مدينة طليلطة، ويُنسب إلى آخر ملوك بني نصر أبي عبد الله الصغير، وهو سيف مزخرف وعليه عبارة «ولا غالب إلا الله». تلك السيوف لم تكن مخصَّصة للحرب بقدر ما كانت مخصَّصة للزينة والتباهي، فهي مطعَّمة بالذهب والفضة.
ويظهر في تلك اللوحة جميع ملوك غرناطة إلا أبا الوليد إسماعيل الأول وأبا عبد الله محمد السادس، وذلك لخلافات سياسية تسبَّب فيها هذان الملكان.
انقلب أبو الوليد إسماعيل على السلطان نصر بن محمد الذي ساء ذكره بين الناس بسبب استبداده فخلعه، ثم قُتل في النهاية على يد ابن عمه محمد بن إسماعيل صاحب الجزيرة الخضراء، وهي إحدى مدن الأندلس المهمة في الجنوب، بعدما حقد عليه لأنه انتزع منه جارية رائعة الحسن ظفر بها في معركة مرتش، وهي إحدى المعارك التي حدثت بين مملكة غرناطة وبين مملكة قشتالة على مدينة تقع بينهما تسمَّى مرتش، وبعث بها إلى حريمه في القصر، ولما عاتبه محمد ردَّه بجفاء، وأنذره بمغادرة البلاط، فتربَّص به وطعنه بخنجره وهو بين وزرائه وحشمه.
أما سبب عدم وجود أبي عبد الله محمد السادس فلأنه ابن السلطان أبي الوليد إسماعيل، وهو ما يدلُّ على أن الغضب الرسمي كان على هذا النسل برمته.
لوحة الحب والقتال
تُصَوِّر تلك اللوحة الواقعة على القبو الآخر من قاعة الملوك مشهدًا مختلفًا، فلقد رُسمت في نفس الفترة الزمنية التي نُقشت فيها باقي اللوحات الثلاث، وهي فترة الأمير محمد السابع (1370 – 1408) أو يوسف الثالث (1376 – 1417) تقريبًا.
لكن اللوحة هنا تمثل فنًّا مختلفًا عن اللوحة السابقة، فهي تعبر بشكل أساسي عن ثقافة غربية إسبانية، حيث تظهر شخصيتا تريستان وإيزولت Tristan and Iseult، وهما بطلا قصة حب شهيرة أعيد نسجها في العديد من الروايات في القرن الثاني عشر ولكن في الغرب.
تدور القصة حول فارس وأميرة إيرلندية، وكانت مهمة الفارس أن يجلب تلك الأميرة من إيرلندا للزواج من عمه الملك مارك، لكن في رحلة العودة إلى المنزل قامت بينهما علاقة حب، يعبر المشهد هنا عن العلاقة بينهما ويصورهما بأنهما يلعبان الشطرنج معًا، وينظران بعضهما إلى بعض من خلال برجين.
سبب رسم تلك القصة الدخيلة على الثقافة الأندلسية في هذا الموضع هو أن راسم تلك اللوحة على الأغلب قشتالي، فعبَّر بشكل بديهي عن ثقافته الحاضرة.
إلا أن ابن زمرك الشاعر الأندلسي الشهير التي تزيِّن قصائده حوائط القصر المنيف يفسِّر سبب وجودها بأنها رسالة إلى زوَّار القصر من السفراء الأوروبيين أن سلاطين المسلمين في غرناطة لديهم معرفة واسعة بالثقافة والأدب الغربي، خاصة أن ملوك بني الأحمر كانوا يستقبلون السفراء والملوك في تلك القاعة، فكانت بمثابة الواجهة لهم.
لم تكن «قصة الحرب الغربية» هي الوحيدة التي جرى تجسيدها على اللوحة، وإنما هناك مشاهد أخرى تُصوِّر مبارزة وقتالًا بين الفرسان المسلمين والمسيحيين، بينما تقف نساء في أبراج القصور يتابعن القتال.
وأيضًا هذه المرة تتكرَّر الاستعانة بـ «روح الغرب» عبر رسم الأبراج والعمائر بنمط مختلف لنمط عمارة قصر الحمراء.
لوحة الحياة اليومية
اللوحة الثالثة والأخيرة من لوحات قاعة الملوك تصوِّر بعض أشكال الحياة اليومية للناس، وخاصة تلك التي يمارس فيها الفرسان عاداتهم في صيد الحيوانات المفترسة من فوق صهوات أحصنتهم.
اللوحة رُسِمَت عبر منظر عام أشبه بالغابة، حيث رُسِمَت الأشجار والطيور حولها بشكل أنيق، في منتصف الصورة يوجد برج يشبه الأبراج الحربية لكنه أيضًا ليس على النمط المعماري الغرناطي.
لوحة قصر البرطل
في سنة 1908 ميلاديًّا اكتشف المهندس المعماري Modesto Cendoya موديستو ثيندويا الذي كان يعمل في قصر الحمراء نقشًا مهمًّا في أحد المنازل التي كان يقطنها العامة في قصر البرطل، أحد أجزاء قصر الحمراء.
في تلك الفترة، إبان القرن الثامن عشر والتاسع عشر، كان أجزاء من قصر الحمراء تُستَأجر لسكنى العامة، وبعض الشخصيات الخاصة أيضًا، من بيت تلك الأجزاء قصر البرطل، وهو أحد القصور المكونة لمجموعة قصور الحمراء، بُنِي في عهد الأمير محمد الثالث أحد ملوك بني نصر على غرناطة، يعتبر قصر البرطل أحد أقدم القصور الباقية في الحمراء اليوم، وتقع تلك الغرفة التي اكتُشِفت فيها الرسومات في الجهة الغربية منه.
عندما اكتُشِف هذا النقش كان مغطًى بطبقة من الملاط، فأُزيلت فظهر هذا النقش الفريد، لكنه لم يكن على حالة جيدة، لحسن الحظ وُثِّق ورُسِمَ مرة أخرى سنة 1912 على يد الرسام Manuel López Vázquez مانويل لوبيز فاسكيز، فظهر بصورة منمقة.
رُسِمت تلك الرسوم والتي تسمى fresco على أربعة شرائط، تُظهِر وتبرز نمط الحياة السائد في غرناطة في فترة أبي عبد الله محمد الثالث حاكم غرناطة في أوائل القرن الرابع عشر.
تكمن أهمية تلك النقوش في كونها تبرز حياة الأمراء في العديد من المظاهر، تمثل مشاهد البلاط والمراسم بين الحاشية والأمير، كما تبرز الاحتفالات بطريقة عفوية وانسيابية.
تلك اللوحات كانت مثيرة للاهتمام بشكل كبير، خاصة أنها تختلف عن الأخريات، كونها تعبر عن الحياة الحقيقية في غرناطة، بعيدًا عن النمط الذي تصدره السلطة في اللوحات الأخرى.
في منتصف اللوحة على الجانب الأيسر يوجد ست خيام، يُصَوَّر فيها الأمير في أربعة مشاهد، جالسًا في المنتصف يلتف من حوله الأمراء ممسكًا بسيفه المزخرف، وعمامته الأنيقة على رأسه، وتظهر من خلف الخيام أعلام مملكة غرناطة.
يبدو أن تلك الصورة كانت من بعض المعارك التي كان يخطط فيها الأمير لغزو ما، بالتأكيد لا تمدنا المصادر بالكثير من المعلومات عن تلك الرسومات، كونها نادرة قليلة، إلا أنها تصور أشكال الحياة التي كان المؤرخون دائمي الحديث عنها.
تُصوِّر أيضًا تلك النقوش مناظر الصيد التي كان يقوم بها الأمير وحاشيته، فيظهر في أحد المشاهد صراعه مع أسد يبرز فيه قوته، ثم مبارزة فوق الخيل مع أمير آخر، كذلك فإن بعض المشاهد الأخرى تعرض الخيول وسروجها، بالتأكيد تلك اللوحة الفنية البديعة تعرض وتعكس لنا صورة حية غير نمطية عن الحياة في غرناطة.