الجيوبوليتيك أو كيف نفهم السياسة الخارجية للدولة؟
تشكل الجغرافيا السياسية واحدة من الموضوعات الشائكة في الدراسات الجغرافية ذلك أنها تعنى بربط وتحليل تفاعلات بشرية سريعة الإيقاع -الاتجاهات السياسية الداخلية والخارجية والعسكرية- مع العوامل الجغرافية الأرضية شبه الثابتة وتكون الدولة هي وحدة الدراسة في الجغرافيا السياسية وهي في حد ذاتها اصطناع بشري موقوت الثبات نتيجة تغيرات سريعة داخلية أو خارجية..
إذا كانت هذه صعوبة الجغرافيا السياسية؛ فالجيوبوليتك أكثر صعوبة لأنها تقوم برسم تصورات سياسية مستقبلية على ضوء تفاعلات البشر والجغرافيا. وبرغم قدم الفكر الجيوبوليتيكي فإنه أصبح أكثر تبلورا ووضوحا في القرن الماضي.
تجيب الجغرافيا السياسية عن سؤال: أين نحن الآن ؟ في حين تجيب الجيوبوليتيك عن سؤال المستقبل وكيفية الوصول إليه..
والحقيقية أن الجيوبوليتيك أكثر متعة من الجغرافيا الصماء حيث أنها تتعامل مع الدولة ككائن حي له طموحه وأهدافه التي يسعى إلى تحقيقها موازنا بينها وبين محيطه الإقليمي والعالمي مستعينا بالجيوبوليتيك من أجل ذلك، وهي بالتالي مفتاح السياسات القومية للدول ولا غنى عنها لأي مخطط استراتيجي أو متخذ قرار أو مهتم بالشأن العام.
الخلاصة إذن أن الجيوبوليتيك لأي مجتمع هي ثقافة سياسية متأثرة بالجغرافيا وهي هندسة لسياسة الدول الخارجية ومفسر لتحركاتها.
نهدف في هذه الدراسة إلى فهم أنماط وأنواع التدافع في المنطقة بما يساعد على استشراف المستقبل.. سنتحدث عن كبرى مشكلات المنطقة في عرض موجز (المياه والطاقة والأقليات العرقية والحروب الأهلية) مستعينين في ذلك بالجغرافيا والتاريخ السياسي.
في عام 1897 صدر كتاب الجغرافيا السياسية للعالم الألماني فريدريك راتزل أستاذ الجغرافيا. ويعد هذا الكتاب أول عمل منهجي في الجغرافيا يتناول موضوعا سياسيا. وقد أشار راتزل في كتابه إلى أن الدولة كائن حي تدفعه الضرورة للنمو عن طريق الحصول على الموارد التي تعوزه ولو دفعه هذا إلى استخدام القوة.
والدولة لها الحق في التوسع عن طريق السكان والحضارة أو القوة. وقد تبنى راتزل المقولة التي تفيد بأن العَلم (الراية) يتبع التوسع التجاري.. فعملية نمو الدولة لاحقة لمختلف مظاهر نمو السكان والحضارة.. وتسعى الدولة في نموها إلى امتصاص الأقاليم ذات القيمة.
وقد كان راتزل في كتابه متأثرا بالجو العلمي المشحون بكل ثقل نظرية التطور في العلوم الطبيعية ولهذا نراه ينظر للجغرافيا السياسية باعتبارها فرعا من فروع العلوم الطبيعية.
تلا نظرية راتزل شد وجذب فيما يتعلق بالجيوبوليتيك حتى تأسست مدرسة ميونيخ..
أسس الضابط الألماني كارل إرنست هاوسهوفر مدرسة جديدة في ميونخ تعنى بدراسة الجغرافيا السياسية ووضعها في خدمة النازية الهتلرية. وقد كان لمدرسة ميونخ هدفان جوهريان من نظرها في العالم:
الهدف الأول السيطرة علي روسيا لتأمين الحكم الألماني من التوسع السلافي والهدف الثاني تدمير القوة البحرية في ذلك الحين (بريطانيا) لتأمين توسع ألمانيا في أوروآسيا.
لكن تحقيق هذين الهدفين لا يشترط بالضرورة الحرب الشاملة فقد كان هاوسهوفر ينظر إلى تحقيق اتحاد أو تحالف ألماني روسي باعتباره حجر الزاوية في تكوين الوحدة الأورآسيوية. وقد سعى هاوسهوفر إلى تحقيق فكرته فلم يأل جهدا في الدعوة إلى صداقة ألمانية سوفيتية. اعتبر هاوسهوفر أن الاتحاد السوفيتي هو بداية آسيا ولذلك رأي أن أوروبا بما فيها دول شرق أوروبا (بولندا – تشيكوسلوفاكيا – البلقان) يجب أن تتحد تحت زعامة ألمانيا وذلك كشرط أساسي لإمكان قيام اتفاقات مع الاتحاد السوفييتي على مصير أورآسيا كي تكون ألمانيا في موقف قوة حال التفاوض مع الاتحاد السوفييتي.
إننا نرى هنا أهمية شرق أوروبا الاستراتيجية في الصراعات بين أوروبا والاتحاد السوفييتي التي ما تزال تظهر تجلياته إلى الآن، حيث يعتبر شرق أوروبا على مر التاريخ هو المدخل الطبيعي لأوروبا أو هو الأداة الأكثر أهمية في فرض الحصار علي روسيا.
نخرج من الجيوبوليتيكا الألمانية إلى الفيلسوف الأكثر تأثيرا وجدلا في الجيولويتيك وهو هالفورد ماكيندر صاحب نظرية قلب الأرض 1904.
يعتبر ماكيندر أول من بلور نسقا تصوريا للتفكير في العالم، وحاول أن يقدم مفاتيح اللعبة السياسية الكبرى. تتلخص نظرية ماكيندر في رؤيته وتقسيمه للأرض كوحدات لها خصائصها ومميزاتها.
ينظر ماكيندر للعالم على أنه جزيرة كبيرة متصلة (آسيا – أوروبا – أفريقيا) تحيط بها جزر على الأطراف (الأمريكتين – أستراليا).. ثم يتساءل ماكيندر: أين كانت أكثر المناطق حصانة علي مدار التاريخ؟! ويصل إلى أنها المنطقة القارية الحصينة الممتد عبر روسيا إلى حدود الصين وأوروبا الشرقية، ويسميها ماكيندر (منطقة الارتكاز الجغرافي في التاريخ = قلب العالم) ويحيط بها هلال داخلي ثم هلال خارجي..
يرى ماكيندر أن هذه المنطقة (قلب العالم) تتمتع بمواصفات خاصة تمكنها من إنشاء إمبراطورية عظمى لا تعتمد على السواحل وتستطيع التماسك مستغنية عن البحر، وقريبة من مصادر القوى في الجزيرة العالمية كما تمتاز بحصانتها الطبيعية ، وكل ما تحتاجه هو نظام نقل بري، مما يجعلها قادرة على الحركة العسكرية والتجارية بكلفة أقل من القوى البحرية وحصينة من الناحية العسكرية..
هنا يقدم ماكيندر نظريته (من يسيطر علي قلب العالم يسيطر علي الجزيرة العالمية؛ ومن يسيطر علي الجزيرة العالمية يسيطر علي العالم).
ومن هنا تولدت ثنائية الصراع بين قوى البر والبحر: قوى البر (قلب العالم) وقوى البحر (الهلال الخارجي). يدور الصراع حول السيطرة على الهلال الداخلي الذي يسميه ماكيندر منطقة الاصطدام (crush zone (. وعلى هذا أصبحت المناطق الحاجزة بين الجرمان والسلاف الممتدة من أستونيا إلى بلغاريا (في رأي ماكيندر) مفتاح السيطرة العالمية. وقد رأينا ديناميكية الصراع في الحرب العالمية الثانية متمثلة في محاولة قوى البر (روسيا) السيطرة على أوروبا الشرقية والتقدم نحو الهلال الداخلي، وأيضا في الحرب العالمية الأولي بتقدم ألمانيا شرقا لمحاولة الوصول إلى قلب العالم. ومن محاسن ماكيندر أنه كان دائم التغيير في حدود قلب العالم ونظرته للعالم ككل وفقا لتغير المعطيات البشرية و الطبيعية.
بينما ترى الأطروحات التي تعرضت لماكيندر بالنقد أن الهارتلاند ليس مؤهلا لحكم العالم تأهيلا تاما.. فإلى جانب مزايا الهارتلاند نجده معرضا دائما لإتلافه من الهوامش عن طريق الأسلحة الجوية الحديثة؛ أي أن توسط الهارتلاند له مزاياه وعيوبه. ولكن إلى جانب هذه النقطة الاعتراضية/ فإننا نجد اعترافا صريحا من واضعي الاستراتيجيات الحديثة في الدول الغربية بأن ماكيندر كان على حق في آرائه. فلم تتمكن ألمانيا من إخضاع المناطق الحاجزة بين الجرمان والسلاف، وأصبحت هذه المناطق في دائرة نفوذ الهارتلاند (روسيا)
اليوم، ينظر الاستراتيجيون إلى العالم نظرة ماكيندر إليه.. فإن الاستراتيجية الغربية بأحلافها الكبيرة (حلف شمال الأطلسي – حلف جنوب شرق آسيا) ما هي الا محاولات لتطويق القوي السوفيتية؛ أو بعبارة أخرى: محاولة لاستخدام الهامش لتطويق الهارتلاند.
بعد ماكيندر لم تأت نظريات كثيرة لتخرج عن تلك التقسيمة التي قسمها ماكيندر للعالم. وإنما جل ما حدث هو تغيير في ميزان القوى بين البر والبحر أو بين الهامش والمركز..
هذه كانت مقدمة موجزة عن علم الجيوبوليتيك.. تلك الأداة الشيقة التي سنستخدمها لاحقا لدراسة منطقة الشرق الأوسط وما يحدث فيها من صراعات مستخدمين أدوات التحليل الجيوبوليتيكي القائم على وصف الوضع الجغرافي وحقائقه وربطها بالقوى السياسية المختلفة الفاعلة في هذه المنطقة والمتأثرة بها.
نناقش في الفصول اللاحقة مشكلة المياه والطاقة والصراعات الأهلية مستعرضين حقائقها وتاريخها وأثرها على المنطقة، ودور الفاعل الدولي والاقليمي في هذه الصراعات.