الجزائر تبحث عن رئيس بعد «بوتفليقة»
الزمان: يوم الخميس الثامن من شهر سبتمبر/أيلول 2016م، المكان: نادي الصنوبر غرب العاصمة الجزائرية، الحدث:الرئيس الجزائري «عبد العزيز بوتفليقة» يشهد افتتاح مركز المؤتمرات بالنادي. يبدو حدثا عاديا بكل المقاييس، لكن الحقيقة أنه لم يكن عاديًا على الإطلاق، سواء بالنسبة للشعب أو الساسة في الجزائر.
كانت استثنائية الحدث نابعة من أنها المرة الأولى التي يظهر فيها الرئيس بوتفليقة -المتربع على عرش الحكم في الجزائر منذ سبعة عشر عامًا- بشكل علني منذ عامين، حين أدلى يومها بصوته وهو يجلس على كرسي متحرك في انتخابات فاز فيها بولاية رابعة مدتها 5 أعوام، وقال محللون إن الهدف من ظهور بوتفليقة تهدئة المطالب بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، تلك المطالب التي تعالت بها أصوات المعارضين بسبب سوء الحالة الصحية للرئيس.
في السطور التالية، سنعمل على قراءة تجربة «بوتفليقة» في السلطة، كيف كان طريقه إلى كرسي الرئاسة؟ وما أهم العقبات التي واجهته خلال سنوات حكمه؟ كما سنحاول التعرف على السيناريوهات التي يمكن أن تسلكها البلاد من بعده.
المـــــــــــُنـقِذ: «المصالحة الوطنية» ورقة بوتفليقة الرابحة
لعل عبد العزيز بوتفليقة وهو ينهي مهام عمله كوزير لخارجية الجزائر بعد نحو 15 عامًا في المنصب، ويتأهب ليغادر البلاد بعد وفاة صديقه الرئيس هواري بومدين عام 1978م، لعله لم يكن يدري أن دائرة الضوء التي يخرج منها اليوم ستستقبله بعد نحو عقدين من الزمان في منصب أعلى شأنًا من الوزارة، بل هو الأعلى على الإطلاق في البلاد التي كانت تشهد فترة مفصلية حرجة من تاريخها. كان بوتفليقة وجهًا بارزًا من وجوه المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي، تدرج في الوظائف التنفيذية بعد التحرير حتى صار رأسًا للدبلوماسية الجزائرية، وغادر الجزائر بعد وفاة صديقه بومدين كما ذكرنا، ولم يعد إليها إلا مع العام 1987م، حيث كانت الجزائر تتأهب لكتابة صفحة أخرى في تاريخها الحديث، بأحبار الدم الجزائري الخالص هذه المرة.شهدت الجزائر مطلع التسعينيات بدايات تجربة ديمقراطية سرعان ما وُئدت في مهدها. حقق الإسلاميون نجاحًا ساحقًا في الانتخابات البلدية والجولة الأولى من الانتخابات التشريعية، سرعان ما تدخل الجيش معلنًا «استحالة استمرار المسار الانتخابي»، تحدثت دوائر السلطة عن خطوات لمنع «أفغانستان جديدة» قد تعيد البلاد إلى العصر الظلامي، وشُنّت حملات أمنية شرسة ضد قيادات الجبهة الإسلامية للإنقاذ، واتسعت لتشمل الأعضاء، فالمناصرين، فالمتعاطفين، ثم شملت أناسًا لا هم من هؤلاء ولا من أولئك. اتجه آلاف الشباب إلى التطرف، ودارت مواجهات مسلحة ومجازر دامية، دامت تلك الأحداث قرابة عقد من الزمان، وعرفت باسم «العشرية السوداء»[1] .قُتل خلال العشرية السوداء أكثر من مائة ألف شخص [2]، وبلغ عدد المفقودين نحو عشرين ألفًا، ونزح نحو مليون جزائري داخل البلاد، كما خسرت الجزائر نحو 20 مليار دولار جراء الأضرار المادية المباشرة الناتجة عن الحرب. أنهك الاقتتال الأهلي البلاد والعباد والجيش كما الإسلاميين، كانت البلاد بحاجة فقط إلى من يقوم بإخراج مشهد النهاية لفيلم الرعب هذا، وقد قرر بوتفليقة أن يتصدى لهذه المهمة. انتُخب بوتفليقة رئيسًا في أبريل/نيسان 1999م، تعهد الرجل أن يتبنى برنامجًا للمصالحة الوطنية، توجه بقانون «الوئام المدني» الذي فتح الباب أمام العفو عن المسلحين الإسلاميين، أقر القانون باستفتاء شعبي في أيلول/سبتمبر 1999م، وافق عليه 98.6% من الجزائريين الذين رغبوا في إنهاء كل هذا الجنون، تم تتويج تلك الجهود بإصدار «ميثاق السلم والمصالحة الوطنية» عام 2005م، الذي قدم تعويضات لضحايا الحرب، وأعطى في المقابل حصانة لرجال الأمن والجيش والدرك المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان.
الرئيس الجزائري «عبد العزيز بوتفليقة»
نجحت جهود بوتفليقة في إنهاء عزلة بلاده الدبلوماسية خلال سنوات الحرب، وأعاد إحياء علاقات الجزائر الخارجية، اضطلعت الجزائر في عهد الرجل بدور قوي ومتميز أفريقيًا وأنشأت وموّلت منظمات تابعة للاتحاد الأفريقي، ولعبت دور الوساطة في أزمات تونس ومالي والنيجر، كما أصبحت أحد أهم الشركاء الإقليميين لواشنطن والناتو في مجال مكافحة «الإرهاب».
صحيح أنه قد شابت مبادرات بوتفليقة للمصالحة الكثير من العيوب، كما أنها لم تتعرض للأسباب الهيكلية التي أنتجت حالة العنف الدموي في زمن الحرب، فإنها مع ذلك قد مثلت إنجازًا كبيرًا، نجح الرجل إلى حد كبير في طي صفحة السلاح والدم، وأعاد الاستقرار والأمان إلى البلاد، وهو ما أكسبه شعبية بين الجزائريين؛ ما قوّى مركزه في السلطة شيئًا فشيئًا، تلك القوة التي ستمكنه بعد ذلك من «تعديل توازنات السلطة» كما سنذكر لاحقًا.
«لا أريد أن أكون ثلاثة أرباع رئيس»
بوتفليقة -وهو أكثر رؤساء الجزائر جهرًا بما يريد-قال تلك العبارة فور انتخابه رئيسًا للجزائر، قصد الرجل الإشارة إلى تعدد مراكز النفوذ في الدولة، تعددية أقطاب الحكم، ولعل تلك العبارة خير ما يوصّف الصراع المكتوم الذي شهدته أروقة السلطة في الجزائر طول سبعة عشر عامًا هي مدة حكم بوتفليقة، حيث كانت البلاد تُحكم بمزيج هجين من رجال السياسة والأحزاب، ورجال الأمن والجيش والاستخبارات. كان وزير الطاقة الجزائري السابق «شكيب خليل» زميلًا لبوتفليقة في ثانوية تلمسان، تولى يومًا رئاسة منظمة الدول المصدرة للنفط – أوبك – التي تعتبر الجزائر أحد أعضائها، واعتُبر دومًا «وزيرًا فوق العادة» و«رجل النظام القوي» بالنظر إلى قربه من الرئيس، فجأة انقلبت الطاولة على الرجل، في يناير/كانون الثاني 2010م لطخت فضيحة فساد شركة «سوناطراك» الوطنية للنفط والغاز، وحملت الوزير على الاستقالة من منصبه، وفي فبراير/شباط 2013م أعيد فتح الفساد في الشركة، فاضطر شكيب خليل إلى السفر ومغادرة البلاد.
لكن تلك المذكرة صدرت خلال فترة علاج بوتفليقة، وعند عودته قرر وقف العمل بها وحل مديرية الشرطة القضائية التابعة للمخابرات التي تولت عملية التحقيق، كما أنهى مهام كل الضباط الذين كانت لهم صلة بالتحقيق.
من حرك القضايا ضد حليف الرئيس إذن؟ قيل وقتها إنه رئيس الاستخبارات الفريق «محمد مدين» المعروف بالجنرال توفيق، الجنرال الغامض الذي لُقب بـ «صانع الرؤساء» في إشارة إلى الدور القوي الذي لعبه في السياسة الجزائرية، والذي كان أحد أسباب مجيء بوتفليقة إلى الحكم، وربما هو أحد من أشار إليهم بوتفليقة حين عبر عن تخوفه من أن يصير «ثلاثة أرباع رئيس»، فيما نظر إليه على أنه حلقة في سلسة من الصراع المكتوم بين مراكز القوى في البلاد: الرئاسة ممثلة في شخص بوتفليقة، وجهاز الاستخبارات القوي المتضخم ذي الأذرع الضاربة في السياسة والإعلام وفي دوائر الأمن والعسكر، سيخرج هذا الصراع الخفي إلى العلن بعد شهور قليلة، وسيحسمه بوتفليقة لصالحه كما سنذكر.تكرر مشهد الصراع المكتوم مع ترشح بوتفليقة لولاية رئاسية رابعة في العام 2014م، تواترت التسريبات أن الجنرال توفيق قد عمل على عرقلة ترشح الرجل لولاية رابعة مستغلاً وضعه الصحي المتردي، وعبر محاولة تلطيخ سمعة المحيطين بالرئيس. ربح بوتفليقة الجولة وفاز بالرئاسة مجددًا، أجرى بوتفليقة تغييرات عدة في قيادات الجيش والاستخبارات، حُلت بعض مديريات الاستخبارات وتم تحويل بعض مصالحها إلى رئاسة أركان الجيش بقيادة الفريق «قايد صالح»، أحد أبرز حلفاء بوتفليقه، والذي يدين في مسيرة صعوده المهني للرئيس. نجح بوتفليقة في كسب الجيش لصالحه وتمكن تدريجيًا من تخفيف النفوذ السياسي للاستخبارات.وكان هذا الصرع قد خرج إلى العلن حين خرج الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني -وهو حزب بوتفليقة- «عمار سعيداني» في لقاء غير مسبوق متهمًا الجنرال توفيق باللعب ضد الرئيس، ونسب إليه عدة إخفاقات أمنية، ودعاه إلى الرحيل، كما دعا الجهاز إلى رفع يده عن الأحزاب والبلديات والقضاء ووسائل الإعلام. أشارت تلك التصريحات غير المسبوقة إلى المدى الذي وصل إليه الصراع على مساحات النفوذ، صراع حسمه الرئيس لصالحه حين أقال توفيق في سبتمبر/أيلول 2015م، أعقب ذلك بقرارات لإعادة هيكلة جهاز الاستخبارات الذي أسندت مهمة إدارته الجديدة إلى الجنرال «عثمان طرطاق» الذي كان يعمل مستشارًا لبوتفليقة. يقول أنصار بوتفليقة إن تلك التغييرات طبيعية في إطار خطة الإصلاحات التي تعهد بها الرجل منذ العام 2011م، ومهمة في إطار مدنية الدولة، فيما يتهمه أنصار الجنرال توفيق بمحاولة توريث الحكم لشقيقه. وعلي أي حال، فقد حقق بوتفليقة حلمه أخيرًا بأن يصبح رئيسًا كاملاً، لا ثلاثة أرباع رئيس، وإن كانت صحته قد تدهورت بما يكفي لئلا بتمتع بذلك طويلًا.
السؤال الحائر في الجزائر: ماذا بعد بوتفليقة؟
يبدو سؤال الحكم في الجزئر بعد رحيل بوتفليقة -وهي اللحظة التي لا تبدو بعيدة بالنظر إلى تدهور صحته وغيابه عن الأضواء طوال السنوات السابقة- معلقًا، ومفتوحًا على احتمالات عدة، فهناك من يتهم «السعيد بوتفليقة» وهو شقيق الرئيس بالسعي لخلافة أخيه في قصر الحكم، وإن كان البعض يرى حدوث ذلك السيناريو أمرًا بعيد المنال.ثمة اسم آخر يبدو مرشحًا بقوة للمنصب هو شكيب خليل، تذكُر هذا الرجل الذي ذكرنا في السطور السابقة كيف غادر البلاد متهمًا بقضايا فساد قيل إن تحريكها ضده جاء على خلفية خلافات بين أركان الحكم؟ عادَ الرجل قبل شهور قليلة إلى البلاد، بعد سنوات قضاها في المنفى، وبعد أن تمكن جناح بوتفليقة من حسم الخلاف لصالحه كما ذكرنا، واستُقبل استقبالًا حافلًا، ومما زاد الشكوك حول نوايا الرجل أنه قام بزيارة عدة زوايا في أنحاء متفرقة من البلاد، فيما اعتبره البعض «بيعة» استباقية لرئيس قادم للجمهورية الجزائرية.ثمة أسماء أخرى تبدو مطروحة على الطاولة، منها «عبد الملك سلال» الوزير الأول، و«أحمد أويحيى» رئيس الحكومة السابق، وأيضًا «علي بنفليس» المحسوب على المعارضة الجزائرية، فيما يُستبعد ترشح أشخاص يخرجون من رحم المؤسسة الأمنية أو العسكرية؛ إذ قد يُعدّ ذلك ترسيخًا لحكم عسكري يصعب تسويقه داخليًا أو خارجيًا، كما يروج الحديث عن أن هناك تيارًا داخل المؤسسة العسكرية يعمل على تكريس الخيار الشعبي في اختيار الرئيس الذي سيكون خليفة للرئيس الحالي، من خلال انتخابات ديمقراطية نزيهة، غير مهندسة مسبقًا.
[1] يطلق البعض على تلك الفترة «العشرية الحمراء» نظرًا لما اصطبغت به من لون الدم.[2] تتراوح التقديرات بين مائة ومائتين وخمسين ألفًا، كما تتراوح التقديرات حول أعداد المفقودين بين سبعة آلاف وعشرين ألفًا.