الجزائر: محاربة الفساد كأداة لضمان استمراره
في رواية الفهد لــ «جوزيبي دي لامبيدوزا»، يقول إنّه إذا ما أردنا أن نُبقي الأمور على حالها فعلينا أن نعمل على تغيير تلك الأمور. إذا ما أخذنا المقولة لنطبقها على واقع شعبٍ ما، سنجد أن الحركة ضرورة تاريخية فلا يمكن لأي نظام أن يُجبر شعبه على البقاء في نقطة زمنية وتاريخية واجتماعية واحدة، هذا الشعب لا بد سيثور يومًا ليطالب بالتغيير. تلك الحقيقة يبدو أن النظام الجزائري قد وعاها منذ لحظات ميلاده الأولى بعد استقلاله عن فرنسا عام 1962، فاستطاع النظام الجزائري أن يوفر هجينًا من الديموقراطية والسلطوية عبر تقديم مظاهر شكلية للتغيير من أجل احتواء الغضب الشعبي.
من الآليات التي اعتمدها النظام الجزائري طوال عقود في تثبيت أركانه هي محاربة الفساد، لكن قبل المحاربة اعتمد النظام على الفساد نفسه. حسين مالطي، النائب السابق لشركة سوناطراك الحكومية النفطية، يقول إن ما يٌفارب 6 مليارات دولار تذهب سنويًا إلى جيوب أفراد من النخبة. النخبة المقصودة ليست دائمًا الموالية للنظام، بل يتم الدفع للمعارضين والمغضوب عليهم كذلك. الدفع للموالين لضمان ولائهم، فلماذا يُدفع للمعارضين؟
الغرض هو زيادة اعتماد المعارضين على مراكز السلطة التي يعارضونها، ما يعني أن النخبة الحاكمة يمكنها ترويض النخبة المعارضة. كذلك فإن الأموال المتدفقة لجيوب المعارضين تشكل عازلًا بينهم وبين الطبقة الشعبية التي يتحدثون باسمها نظريًا، وفي حالة خرج معارض عن الخط المرسوم له يتم فضح تاريخه فورًا. إذن، فالفساد في الجزائر لا يمكن اعتباره حدثًا عارضًا أو أثرًا جانبيًا لفساد حاكم معين، بل هو إستراتيجة من إستراتيجيات الحكم يتم بها كسب ولاء المُقربين، ومساومة المنافسين، وتشويه المعارضين.
الفساد ليس جديدًا
بالبحث وراء أرقام محاكمات الفساد، نجد أنّ عام 2017 شهد محاكمة 1700 مسئول محلي، جميعهم وصلوا لمناصبهم بالانتخاب، بتهم الاختلاس واستغلال النفوذ وإهدار المال العام. تم الحكم بالإدانة على 500 منهم حتى الآن، ومن بين الـ 1700 نجد 250 رئيس بلدية. هذا التغلغل بجانب أنه يوطد أركان النظام، فإنه كذلك يجعل تحديها أمرًا شديد الخطورة. بالنظر لملفات الرئيس الحالي للجزائر، عبد المجيد تبون، حين كان رئيسًا للوزراء في عهد بوتفليقة نجد أن إقالته تمت بعد 3 أشهر فقط من تعيينه.
في مايو/ آيار 2017 حين تولى منصبه، أعلن أنه يهدف لإجراء عدة تحقيقات لفصل المال عن السلطة. بدأ تلك الإجراءات بتحقيقات في كل العقود الحكومية التي وُقعت في عهد سلفه، وتوصّل إلى أن تلك العقود وُقعت على أساس الصداقة والعلاقات الشخصية. لكن من الجليّ أن نهج تبون أزعج أعمدة الفساد الجزائري فتمت إقالته ليتولى مكانه أحمد أويحيى، أحد أبرز الأسماء في قضايا الفساد الراهنة.
أويحيى حُكم عليه بالسجن في ديسمبر/ كانون الأول 2019 لمدة 15 عامًا، وأويحيى ليس مثالًا نادرًا على فساد الوزراء والمسئولين في الجزائر. ففي عام 1999، صُعق الجزائريون بإعلان البنك الدولي أن مسئولين جزائريين يمتلكون أرصدة بقيمة 35 مليار دولار في بنوك أجنبية متفرقة، هذا الرقم كان يعادل ديون الجزائر الخارجية آنذاك.
ولا تزال تلك عادة غالبية المسئولين الجزائريين، ففي نفس القضية التي حُوكم فيها أويحيى حُكم على سلفه عبد المالك سلال بالسجن لمدة 12 عامًا. إضافةً للاثنين، جُكم غيابيًا على عبد السلام بوشوارب، وزير الصناعة الأسبق، بالسجن لمدة 20 عامًا، وأصدرت المحكمة أمرًا قضائيًا دوليًا بالقبض عليه. كما حُكم بالسجن لمدة على وزيري صناعة سابقين هما يوسف يوسفي ومحجوب بدة، كذلك صدر حكم بسجن وزيرة السياحة السابقة نورية يمينة لمدة 5 سنوات.
القضية تدور إجمالًا حول تقديم رجال أعمال وأصحاب مصانع تركيب سيارات لرشاوى للمسئولين السالف ذكرهم من أجل الحصول على امتيازات وتسهيلات غير مستحقة. رجال الأعمال الثلاثة المقصودون صدرت ضدهم أحكام بالسجن مجموعها 16 عامًا، لكن مجموع الخسائر التي تكبدتها الجزائر بسبب تلك التسهيلات بلغ 128 مليار و983 مليون دينار، أي ما يعادل 975 مليار يورو.
دائرة لا بداية لها
وإذا تغاضينا عن قضايا الفساد الفردية والصغيرة، وخضنا رحلةً في الذاكرة الجميعة للشعب الجزائري سنجد عدة قضايا خالدة في ذاكرتهم.
الخليفة: إمبراطورية الوهم
أبرزهم القضية المعروفة بـ«قضية الخليفة»، أو المعروفة إعلاميًا في أوساط جزائرية باحتيال القرن، إذ زلزلت الاقتصاد الجزائري عام 2003. عبد المؤمن خليفة، صيدلي لم يبلغ الخمسين من عمره تمكن في ثلاث سنوات فقط من تكوين إمبراطورية شملت بنك الخليفة، وطيران الخليفة، وتلفزيون الخليفة. تحت مسمى هذه الاستثمارات، استطاع أن يجمع ثروة قدرها مليار و300 مليون دولار من مال الدولة والشعب. دون الخوض في تفاصيل قانونية واقتصادية، انتهى المطاف بالإمبراطورية لقفص الاتهام، ليكتشف الجزائريون تورط 104 مسئول من الوزراء وقيادات البنك المركزي الجزائري، لكنهم جميعًا دُعيوا للمحكمة كشهود لا متهمين. لم تنتهِ القضية إلا عام 2015 بالحكم 18 عامًا على خليفة بعد أن سلمته السلطات الإيطالية.
سوناطراك: إهدار النفط
كذلك من أكبر قضايا الفساد في الجزائر هي قضية سوناطراك، الاختصار الفرنسي لاسم شركة النفط الجزائرية. سوناطراك تحمل لقب العملاقة الأفريقية لاعتبارها من أنشط الشركات الأفريقية في مجال النفط، وتضم تحت لوائها 8 شركات كبرى أخرى. القضية تفجرت بعد نشر موقع ويكليكس وثائق تفيد بتلقي مسئولين جزائريين رشاوى ضخمة في مقابل تسهيل صفقات مجحفة مع شركات عالمية. طالت القضية حينها وزير الطاقة شكيب خليل والمدير العام السابق للشركة محمد مزيان، ومديرها العام وقت صدور الوثائق فريد بجاوي، ابن وزير الخارجية الأسبق محمد بجاوي.
طريق بـ 16 مليار دولار
في يونيو/ حزيران 2019، قررت المحكمة العليا إعادة فتح التحقيق في قضية معروفة إعلاميًا باسم قضية الطريق السيّار. القضية فُجرت لأول مرة عام 2008، واُتهم فيها 23 مسئولًا جزائريًا بتلقي الرشاوى واستغلال النفوذ وغسيل أموال، ما جعل إنشاء طريق يستهلك رسميًا 16 مليار دولار بينما يقدّر الخبراء أنه احتاج 9 مليارات فحسب لإنشائه. القضية حُكم فيها عام 2015 بسجن مستشار الشركة الصينية المسئولة عن التنفيذ 10 سنوات، وتم الحكم أيضًا على مدير التخطيط بوزارة الأشغال والمدير المسئول عن الطريق، لكن تمت تبرئة وزير الأشغال ذاته. لهذا أُعيد فتح القضية عام 2019 بالتماس مباشر من رئيس الأركان السابق أحمد قايد صالح لاصطياد الحوت الكبير، عمار غول، والأسماك المهمة بدلًا من الاكتفاء باصطياد الأسماك الصغيرة سابقًا.
700 كيلو كوكاكيين
في مايو/ آيار 2018، أُحبطت محاولة إدخال 700 كيلو كوكاكيين إلى الجزائر عبر تخبئتها في شحنة لحوم مستوردة من البرازيل. بمجرد بدء سلسلة التحقيق، سقطت أسماء كبرى من مناصبها بتهم التورط في تلك القضية، أبرزهم المدير العام للأمن الوطني، بجانب قضاة ووكلاء لرئيس الجمهورية، بجانب أسماء أخرى مدنية وعسكرية تداولتها وسائل الإعلام بتهم التورط في القضية. وزاد الأمر اشتعالًا تعريض قايد صالح بها في أحد حواراته مشيرًا إلى أن تلك الأسماء سوف تختلف بعد رحيل بوتفليقة، ما أثار تكهنّات عن وجود أشخاص آخرين شديدي القرب من دائرة الحكم.
دائرة لا تنتهي
لم يسعف الوقت قايد صالح ليُفصح عن الذين يقصدهم تحديدًا، لكن قائمة المطلوبين للمحاكمة تزداد يومًا بعد الآخر. شهود الإثبات على قضية يصبحون في اليوم التالي متهمين في ذات القضية أو في قضايا أخرى. والمُلفت في الجزائر أن السياسي أو المسئول الفاسد إذا سقط فلا يدخل السجن وحده، دائمًا معه صديق أو ابن أو زوجة. السقوط المتتابع للفاسدين يعتبر مؤشرًا جيدًا على رغبة الإصلاح، لكنّه في الجهة الأخرى يعني تجميد أرصدة العديد من الشركات.
ذلك التجميد خلّف حتى الآن أكثر من نصف مليون عامل بدون وظائف، كما خلق مظاهرات أخرى بجانب المظاهرات المطالبة بمحاكمة الفاسدين، مظاهرات يطالب فيها العاملون الحكومة بصرف مستحقاتهم من أرصدة الشركات التي جُمدت.
فقد أدرك الجزائريون أن أصواتهم هي التي ستُحرك القوى السياسية والحاكمة، فرغم وجود أطر دستورية وقانونية حاسمة لمكافحة الفساد، إلا أن واقع الجزائر أكد أن الأطر النظرية لا تكفي بغير شعبٍ واعٍ يراقب وقوى حاكمة تريد محاربة الفساد حقًا.