حوالي العام 2011، توقع معظم الخبراء أن تكون الجزائر –الغارقة في الفساد، المحسوبية، الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية المتدهورة، الحريات المقيدة، أزمة الإسكان والحكم غير الرشيد– الدولة التالية ضمن محطات ثورات الربيع العربي. ورغم اجتياح أعمال الشغب للبلاد بالفعل، تم احتواؤها سريعًا (دون إراقة الدماء) بواسطة قوة شرطية كبيرة، جيدة التدريب والتسليح، وتتقاضى راتبًا سخيًا.ولكن حتى اليوم، تعد الإضرابات، الاحتجاجات وأعمال الشغب المتفرقة محدودة النطاق أحداثًا روتينية في الجزائر. فأحيانًا ما تحدث بمعدل 500 مرة شهريًا. ولكن بشكل عام، تمكن النظام من مواجهتها عبر دفع الرشاوى في صورة مرتبات أعلى أو قسائم للسكن.بعبارة أخرى، يحافظ النظام على محدودية الاحتجاجات وتمتع التنظيمات المعارضة بالقليل من الدعم الشعبي. علاوة على ذلك، نجحت الحكومة في تحييد الكثير منها، حيث شارك قادة معظم الأحزاب المعارضة بشكل أو بآخر ضمن مقاعد الحكومات المتعاقبة.نجح الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، في تحييد الجمهور والمعارضة، بينما فشلت حكومات أخرى في المنطقة، لأن الجزائريين لا يزالون يتذكرون الصراع الوحشي الذي جرى خلال التسعينيات، عندما واجهت القوات الحكومية العديد من التنظيمات الإسلامية. في حينها، استعدت الجبهة الإسلامية للإنقاذ للفوز بانتخابات عام 1992 التشريعية، التي ألغيت فجأةً، ما أثار أعمال عنف واسعة النطاق. كذلك لا تزال الحكومة متمتعة بالكثير من الأموال من احتياطيات النفط والغاز، التي تستخدمها في شراء الولاء. ولكن يظل السؤال يطرح نفسه، هل ستتمكن مرونة النظام من الصمود في مواجهة التحديات الجديدة؟
من يخلف بوتفليقة؟
الانهيار الاقتصادي
تمثل أرباح المحروقات حوالي 60 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي الجزائري، و97 بالمئة من أرباح التجارة الخارجية. عندما كانت أرباح النفط والغاز مرتفعة، تمكنت الحكومة من شراء السلام الاجتماعي. كما تمكنت من الاستثمار بقوة في مشروعات البنية التحتية. ورغم أن مثل تلك المشروعات قد أسهمت في توفير المساكن الجديدة، الضرورية بشدة، والصور الأخرى من البنية التحتية، إلا أنها نتج عنها أيضًا خلق طبقة أعمال جديدة فاسدة.وبالتالي، أثار هبوط أسعار النفط قلق النظام، وكذلك، الطبقة الاجتماعية الجديدة التي يعتمد بقائها على التعاقدات الحكومية. ولكن حتى الآن، اعتمد النظام على الاحتياطات التي تبلغ 200 مليار دولار التي راكمها بينما كانت الأسعار مرتفعة. واليوم، بعد عامين فقط من الإنفاق، هبط ذلك الرقم إلى النصف، وتبقى فقط ما يكفي لتغطية مصروفات حوالي عامين من الواردات.
حرس الشرف في القصر الرئاسي بالجزائر، 16 أبريل 2012.
في ديسمبر 2015، مررت الحكومة قانون المالية لعام 2016 لمواجهة الأزمة الاقتصادية، الذي طرح بعض الاجراءات التقشفية، وأثار الجدل لأن الحكومة فشلت في معالجة مشكلة دعم المواد الغذائية الأساسية، العناية الطبية، والإسكان. بالتأكيد يخشى المسؤولون أن خطوة رفع الدعم قد تحشد معارضة هادئة. ولكن الوضع قاتم للغاية لدرجة أن الحكومة بالفعل في حاجة إلى أن تأخذ على محمل الجد احتمالية التخلص تدريجيًا من الدعم، مع تقديم الأموال للمُحتاجين من الشعب. وإن استمر ذلك الحال، ستلجأ الجزائر، ولو على مضض، إلى الاقتراض في الأسواق الدولية.باختصار، أدى عدم استعداد النظام طوال تلك السنوات لتحويل اقتصاده الريعي إلى اقتصادٍ إنتاجي إلى عودته ليطارده بذات الطريقة التي توقعها الخبراء. وليس أمام الحكومة خيار آخر سوى تقليص الميزانيات، رفع أسعار بعض السلع، وخفض الواردات. كما يزداد الموقف سوءً بفعل عوامل أخرى، خصوصًا الفساد. حيث يضع مؤشر مدركات الفساد لعام 2015، الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، الجزائر في المركز 88 بين 167 دولة، ويضع تقرير ممارسة أنشطة الأعمال لعام 2016، الصادر عن البنك الدولي، الجزائر في المركز 163 بين 189 دولة.
اختلالات
تتشارك الجزائر الحدود مع ليبيا في الشرق، ومالي في الجنوب. وبينما تغرق الدولتين في الحروب، يتمثل التهديد الأكبر بالنسبة للجزائر في امتداد العنف ليطال استقرارها المستمر. وبالتالي، نشرت الجزائر بالفعل 75,000 جندي على الشريطين الحدوديين. وأثبتت القوات الأمنية الجزائرية هناك براعتها الشديدة في محاربة الإرهاب. ففي ديسمبر 2014، انقضت على خلية جهادية تحمل اسم «جند الخلافة»، متمركزة في شمالي الجزائر، والتي كانت قد أعلنت الولاء لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش). كما صدت تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي عن تهديد النظام.
وحتى مع تملق المسؤولين لفكرة أن الحروب في الشرق الأوسط مؤامرة نظمتها القوى الغربية لزعزعة استقرار المنطقة، استمرت الحكومة في تعميق العلاقات الأمنية الثنائية التي بنتها مع دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة منذ أحداث 11 سبتمبر. على سبيل المثال، قدمت الجزائر دعمًا لوجيستيًا لفرنسا إبان التدخل الفرنسي في شمالي مالي في يناير 2013. كما تتشارك استخبارات مكافحة الإرهاب القيّمة مع نظرائها الغربيين. ورغم أن الجزائر لا تحصل على مساعدات عسكرية من الدول الغربية، سمحت لها أرباحها من المحروقات بتجديد تسليحها العسكري. حيث تشتري ما قيمته مليارات الدولارات من المعدات المتقدمة من روسيا، مزودتها التقليدية بالأسلحة، كذلك من فرنسا، إيطاليا، ألمانيا، والولايات المتحدة.رغم كل ذلك، أثارت الصراعات في ليبيا ومالي الكثير من المخاوف للسلطات في الجزائر؛ في الواقع، يمكن أن تُعزى إعادة الهيكلة الأخيرة لأجهزة الاستخبارات جزئيًا إلى مثل تلك المخاوف. حيث يهدف تحسين التنسيق بين الأفرع المختلفة من الاستخبارات، وكذلك مع الجيش، إلى تعزيز استعدادات قوات الأمن للامتداد المحتمل للصراع في ليبيا. كما يقلق الجزائريين بشدة حول أن التدخل الغربي في ليبيا، الذي يبدو محتملًا على نحو متزايد، سوف يؤدي إلى كارثة بالنسبة لمنطقة شمال أفريقيا مع هروب آلاف اللاجئين من أعمال العنف. صحيح أن السلطات قد أعربت عن معارضتها لمثل ذلك التدخل، إلا أن الصوت الجزائري فقد الكثير من قوته على الساحة الدولية لعدة أسباب، ليس أقلها الشكوك القائمة بسبب شبه الشلل الذي يصيب بوتفليقة، والشكوك حول هوية من يحكم الجزائر بالفعل.
الربيع
بعد خمس سنوات على أحداث الربيع العربي، حافظت أكبر الدول الأفريقية مساحةً، الجزائر، على بعض مظاهر الاستقرار. فلم يؤد غياب بوتفليقة لمدة ثمان أشهر لتلقي العلاج في فرنسا بعد الجلطة التي أصابته في 2013، إلى تهديد نظامه. ويبدو أن بوتفليقة قد عاد لينتقم؛ فرغم شلله الجزئي، فشله في توجيه خطاب لشعبه منذ عام 2012، وظهوره النادر على شاشات التلفاز، نجح في الإطاحة ببعض أقوى معارضيه وتعزيز حكمه الاستبدادي.كما وفرت له أرباح النفط والغاز – والأمطار الوفيرة – الموارد اللازمة للحفاظ على السلام الاجتماعي، ونجح في إشراك الأصدقاء والأعداء عبر إعادة توزيع هدايا الطبيعة. ولكن أسعار النفط تستمر في الهبوط، وبوتفليقة لن يستمر إلى الأبد. بعبارة أخرى، قد تواجه الجزائر قريبًا ربيعها الخاص.