حراك الجزائر: نصف ربيع آخر
بعد أن نجحت الجزائر في إزاحة جثة بوتفليقة من فوق كرسي الحكم وإسقاط الولاية الخامسة قبل أن تبدأ، يأتي السؤال الأصعب حول ما هو قادم، فلطالما كان الطموح الثوري يتغذى على النجاح ويحلق أعلى وأعلى بعد كل خطوة، تلك الآمال الكبيرة التي قد يتبعها انكسارات وخيابات أكبر، وعلى الرغم مما يراه البعض من وعي التجربة الجزائرية بأخطاء وخطايا الموجة الأولى من الربيع العربي عام 2011، فإن الشواهد الحالية تُشير إلى عكس ذلك، فاتباع طريق آخر لا يعني بالضرورة الوصول إلى نهاية مختلفة، فما بالنا إذا كان الطريق هو نفسه.
لقد بدا واضحًا أن المؤسسة العسكرية بقيادة قايد صالح بدأت في إخراج خصومتها وعدائها مع الجناح الاستخباراتي القديم بقيادة الجنرال توفيق إلى العلن، مستخدمًا الحراك في تقوية جبهتها مع استغلال عامل الزمن في استنزاف الحراك نفسه، فبعد تلبية مطلب الحراك في التخلي عن بوتفليقة وإجباره على التنحي والتخلي عن الولاية الخامسة، جاء تحقيق الجزء الأول من المطلب الثاني (الباءات الثلاث) باستقالة الطيب بلعيز رئيس المجلس الدستوري بعد قرابة أسبوعين، وفي الغالب سيُزَاح الباء الثانية قبيل موعد الانتخابات المقرر عقدها في 4 يوليو/ تموز القادم، بإقالة رئيس الحكومة نور الدين بدوي واستبدال شخص آخر به، على أن تبقى الباء الثالثة (الرئيس المؤقت عبد القادر بن صالح) حتى تسليم السلطة.
وخلال الشهرين ونصف الباقين من الفترة الانتقالية ستعمل الجبهة الأقوى في صراع السلطة المتمثلة في قايد صالح على إضعاف – إن لم يكن تصفية – الجبهة الأخرى التي يقودها الجنرال توفيق – محمد مدين رئيس جهاز المخابرات الجزائرية لربع قرن والملقب بصانع الرؤساء – مع التماهي شكليًّا لبعض مطالب الحراك الشعبي للتدليل على أن ما يقوم به هو استجابة للحراك في مواجهة الدولة القديمة، وهو ما يُعد إكمالًا للصراع بين الجبهتين منذ الإطاحة بتوفيق عام 2015، للوصول إلى الانتخابات بأكبر قدر من القوة لجبهة صالح وأقل قدر من صراع الأجنحة، سيُصَدر للمتظاهرين ويُسَوق على أنه من إنجازات الثورة وتلبية لمطالب الحراك، لكن أين هو الحراك نفسه في هذا الصراع.
يأخُذ الكثيرون على التجربة المصرية إخلاء الميادين بعد الإطاحة بمبارك في 11 فبراير/ شباط 2011 دون استكمال باقي مطالب الثورة، لكن دحض هذا الاتهام يأتينا من التجربة الجزائرية، فاستمرار التظاهر والاعتصام يؤدي تدريجيًّا إلى ضعف الحشد في الشوارع وتقلص الحاضنة الشعبية للحراك مع تزايد القمع الأمني له واللعب على نغمة الاستقرار والإنتاج والأمن – وهو ما ظهر جليًّا مؤخرًا في حدة المواجهة الأمنية للمظاهرات والإعلان عن توقيف خلايا إرهابية دون تفاصيل – حتى يُستنَزف الحراك مع دخول إجراءات العملية الانتخابية.
وعلى الرغم من التشديد الجماهيري لمطلب تغيير النظام كاملًا قبل الدخول في الانتقال الديمقراطي – الذي يبدأ من وجهة نظرهم بإقالة رئيس الحكومة والرئيس المؤقت – فعلى الجانب الآخر سيُعد أي تأجيل للانتخابات بمثابة التفاف على مطالب الثورة ورغبة المؤسسة الحاكمة في إطالة أمد الفترة الانتقالية لتعزيز قواها وإعادة السيطرة على مقاليد الحكم وهو ما سيرفضه الثوار أنفسهم أيضًا.
هذا الاستنزاف للحراك مع استمراره بشكل يومي يُقابله تآكل فيما تبقى من عمر الفترة الانتقالية، حتى يأتي يوم الرابع من يوليو/ تموز في مواجهة الحراك والمتظاهرين دون تجميع باقي الأجزاء المفقودة من شفرة نجاح الحراك التي تركتها الموجة الأولى من الربيع العربي، وهي التنظيم في مواجهة التنظيم.
فأهم الدروس المُستخلصة من موجة 2011 هي أن الأنظمة الحاكمة الفاسدة قد تسقط بالاحتجاج والتظاهر، ولكنها تظل موجودة وراسخة ومتشعبة في أركان الدولة، واستبدالها لن يأتي بين يوم وليلة ولا بإسقاط الأوجه المكشوفة منها، لأن المُلثم أكثر وأكبر وأقوى، فهي عملية تحتاج إلى نفس طويل وصراع دائم لن يُقْدَر عليه ولن يبدأ بالأساس إلى عبر تنظيمات قوية تمتلك الرؤية لخوض هذا الصراع.
ففي الحالة المصرية نجح التنظيم الأقوى في الوصول إلى سدة الحكم، لكنه سرعان ما انهار أمام الدولة القديمة؛ لأنه دخل الصراع دون استعداد ولا جاهزية ولا خطة ولا مشروع، بينما انفرطت باقي التجارب الثورية التي لم تكن تمتلك تنظيمات بالأساس، وعليه فإن أخطر ما يواجه التجربة الثورية الجزائرية اليوم هي ضعف التنظيمات السياسية وعدم تنظيم القوى الثورية التي غالبًا ما ستكون جميعها أوراقًا تتلاعب بها الدولة القديمة وأجهزتها الأمنية والمخابراتية التي هي تروس النظام ومفاصله ومحركه، والتي لا صلاح إلا بإخضاعها لمعايير الدولة الديمقراطية الحرة بصراع طويل كما أشرنا.
ربما يكون الحل الوحيد في تلك الحالة هو التفكير السريع في البدائل المتاحة، والتي لا يُرجى منها – حاليًّا – أكثر من وجود مساحة لبناء تنظيمات سياسية تعمل على خلق بديل ديمقراطي حقيقي على مدى زمني غير متعجل، حيث إن معركة الثورة الحقيقية ستبدأ فعليًّا عقب الانتخابات الرئاسية القادمة، وهي معركة بناء الديمقراطية من خارج مؤسسات الدولة، وإنما في شوارع وأحياء وقرى ومُدن الجزائر، وهي مهمة تحتاج لذوي رؤية بعيدة ونفَس طويل.