إسكندرية ليه؟: شاهين بين نبوءة الثورة ونبوءة الهجرة
هاجر أهل الفتى الفقير «يوسف» من لبنان إلى مصر، كان يعاني من ارتباك وتوتر دائمين، ورغبات في تحقيق الذات وإثبات نفسه والحصول على قبول المجتمع من حوله، ذات مرة لم يستطع الذهاب إلى حفلة لأنه لم يملك الزي المناسب، شعر بالحزن الشديد، لكنه في صباح اليوم التالي ذهب إلى المدرسة وألقى مونولوج شكسبيري أمام التلاميذ وأنهاه بعيون دامعة ونفس متأثرة واستقبلوه بتصفيق حاد.
ذاق يوسف وعرف القدرة السحرية للفن في التأثير على الناس، قرر أن يستغل لحظة هزيمته ويهجر حلم عائلته بأن يصبح موظفًا ويعيش حياة روتينية لكنها آمنة، وقرر أن يغامر ويحاول أن يصبح ممثلاً، ساعدته العائلة بكل قوته بعد رفضها في البداية، سافر إلى «باسادينا» وعاد إلى بلاده ليصبح مخرجًا وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وبعد قرابة الخمسين عامًا صعد «يوسف شاهين» إلى المسرح، بروح طفل صغير طالما عشق التغيير والمغامرة، ليتم تكريمه بشكل خاص في مهرجان «كان»، كواحد من أهم صانعي الأفلام على الإطلاق.
في مسيرته الطويلة والمتنوعة، كان «يوسف شاهين» من كبار الراغبين في التغيير ومراجعة الماضي كل فترة من الزمن، وفي آخر أيامه تمنى «شاهين» أن تندلع ثورة لتتوج كل الحراك السياسي الذي حدث في مصر خلال السنوات الأخيرة، كان آخر أفلامه بعنوان «نهاية النظام» الذي شاركه التلميذ «خالد يوسف» في إخراجه، كان فيلمًا مليئًا بالمشاكل والسذاجة في الطرح، أكثر حتّى من أفلام «شاهين» الأخيرة التي انتقدها الجميع، كان الفيلم أقرب إلى خطبة مدرسية، لم يعد فيها الفنان القلق، ولم تظهر بصمة «شاهين» في الفيلم إلا في مشاهد قليلة، حتى أن الاسم تغير إلى «هي فوضى».
لكن هناك في المشهد الأخير كانت النبوءة … كان الشعب يتحرك، يرفض أن ينسحق ويبتلع هزيمته، يثور ويحاصر قسم الشرطة ثم يحدث الاقتحام الذي قهر السنوات الطويلة من الظلم والظلام، هذا المشهد كان النقطة المضيئة الوحيدة في الفيلم، حلم تعلق به «شاهين»، كان يجب أن يكون هذا المشهد هو ختام لأعماله كلها ولمسيرة واحد من أهم صناع السينما في العالم العربي، حلم تحقق بعد وفاته حين قامت ثورة يناير، مصادفة أن يكون يوم ميلاد «يوسف شاهين» نفس يوم ميلاد الثورة، لكنها مصادفة تحوّل الأمنية إلى توقع، وتجعل النبوءة ذات معنى.
كيف بدأت الحكاية؟
في أوائل السبعينيات، وأثناء إخراجه لفيلم العصفور، سقط «شاهين» مصابًا بأزمة قلبية ونقلوه إلى لندن وأجريت له عملية قلب مفتوح، بعدها أعاد «شاهين» النظر في رؤيته السينمائية، قرر ألا يحكي حكايات فقط، قرر أن يصنع أفلامًا عن ذاته وطفولته وأحلامه، أن ينفخ الروح في ذكرياته التي مرّ عليها أكثر من خمسين عامًا، ويحكي الحقيقة الكاملة عن نفسه قبل أن يحكي حكايات عن الآخرين. تضيق دائرة جمهوره، يخدش استقرارهم ويدعوهم للتفكير ويخلق قناة اتصال أكبر بينه وبينهم.
في حوار أجراه «سمير فريد» مع «يوسف شاهين» عام 1979، قال شاهين:
بين الماضي والحاضر
في ثلاثية النكسة، حاول «شاهين» أن يبحث في الهزيمة وفي أسبابها، قدم -بشكل جماهيري- المشاكل العامة من خلال هموم خاصة بأبطاله، في «الاختيار» عرض «شاهين» الكيفية التي أصبح بها المثقف خائنًا يقف فقط في صف السلطة، وفي العصفور تتبع كيف وصلت السلطة إلى أقصى حدود الفساد، وفي «عودة الابن الضال» حاول شاهين أن يسأل «ماذا بعد؟» ويذهب بعيدًا إلى النقطة التي تغير عندها كل شيء.
بينما في إسكندرية ليه؟ يعيد تشكيل مرحلة طفولته، ويزاوج شاهين بين ذاته وبين مدينته التي أحبها ونشأ فيها، ويتجه من هذه المزاوجة إلى عرض التغيرات السياسية التي أصابت العالم في هذه الفترة من التاريخ، هذه الصياغة الفريدة كانت المفتاح الأهم في فهم مسيرة شاهين، الذي حاول فهم ما يحدث في الحاضر عن طريق استيعاب الماضي الشخصي له والمرتبط بالأحداث التاريخية والواقع السياسي والاجتماعي حينذاك.
يستعرض الفيلم قصة الفتى الإسكندراني «يحيى» الذي قام بدوره محسن محيي الدين الذي يعارض رغبات والده ويطمح في أن يدرس السينما في عاصمة السينما العالمية «هوليوود»، وذلك في نطاق فترة تاريخية مهمة شهدت نضالاً شعبيًا وتحولات اجتماعية وسياسية، وفي أرض الإسكندرية في الأربعينيات التي جمعت كل الطوائف والطبقات في سلاسة مدهشة ،«يحيى» يعبر عن «شاهين» نفسه الذي ينتمي إلى أسرة متوسطة تطمح في الصعود الاجتماعي وفي نفس الوقت تتمسك بالتقاليد التي تميزت بها تلك الطبقة في ذلك الوقت، تستغرق الأسرة في لعب الورق وإعداد الطعام واستقبال الضيوف، وتتمسك هذه الأسرة بالقيم الوطنية، تريد الأسرة من «يحيى» أن يجتهد ليصبح موظفًا لكن حلم الفن يسيطر عليه.
في جوهر النص -الذي كتبه شاهين رفقة «محسن زايد»- يتناول العديد من الشخصيات المنتمية إلى عوالم مختلفة وطبقات اجتماعية مختلفة، لكن الظروف تضطرها لتكون قريبة من بعضها، فتاة يهودية «نجلاء فتحي» ابنة المثقف السياسي الأرستقراطي والمعادي لإسرائيل «يوسف وهبي»، تقع في علاقة حب بشاب مسلم «أحمد زكي» يصبح ضحية للمنتفعين والحرب، محام مسيحي وطني -محمود المليجي الذى يجسد دور والد المخرج يوسف شاهين- وهو آخر من تبقى من الطبقة الوسطى، المحامي الشريف والفاشل في نظر الآخرين لأنه يرفض الفساد.
شخصيات أخرى تظهر بين ثنيات الفيلم، علاقة مثلية بين جندي نيوزيلندي وأرستقراطي مصري يرى في قتله للجنود الإنجليز وطنية كبيرة، مرتزق من الكفاح الوطني، وضباط جيش سذج مقتنعون أن بإمكانهم قتل «تشرشل» ووضع حد للحرب العالمية الثانية. ومع كل لحظات الشد والجذب وأخبار الحرب والحفلات الراقصة وتأثيرها العميق على الشخصيات، لا يسقط الإيقاع العام للفيلم لحظة واحدة.
«شاهين» يوظف في خدمة هذا السيناريو لقطات متوسطة وطويلة بالكاميرا المتحركة أو الثابتة مع قطعات مونتاجية للقطات وثائقية، وهو بهذا الأسلوب يسيطر على المكان ويحافظ على الأجواء المشحونة ويعطي قيمة للزمن، ويمنح الميزانسين قيمته العالية على الرغم من المسرحية والتجريد من الشاعرية.
لحظة إدراك
إسكندرية ليه فيلم «شاهيني» بامتياز، لا يستطيع المرء مراوغة حسه المرهف بين ثنايا الفيلم، طموحه في الخلاص وتأكيده على أهمية الفرد في التكوين الاجتماعي ورصده للواقع وكسره في نفس الوقت، يراقب نفسه من الداخل ويبحث عن أزماته النفسية.
أول أفلام رباعية «لحظة الإدراك»، وهو الفيلم الوحيد لشاهين الذي يحتوي على تساؤل في عنوانه، إسكندرية ليه؟ ربّما لأنها مهد الحكاية، وربما كان «شاهين» يسخر من حظه ونشأته في الإسكندرية؟ أم أنه كان يشعر بالامتنان والاعتراف بفضل هذه المدينة عليه خصوصًا أنها جعلته أكثر إنسانية وانفتاحًا على مستوى الفكر؟ شاهين كان مأزومًا بالاختيار، وفي ظل ما يحدث في العالم، يبقى مثل هذا السؤال دومًا بلا إجابة.
رؤية مستقبلية
وكما تنبأ «شاهين» بلحظة التمرد وانتفاضة الشعب في آخر أفلامه «هي فوضى» فإن «إسكندرية ليه» يمكن اعتباره نبوءة أو رؤية مستقبلية هو الآخر رغم أنه مستوحى من حياة مخرجه، «يحيى» الشاب الذي يقرر السفر للخارج لتحقيق ذاته ودراسة ما يحب رغم معارضة أهله، وهذا الأمر ما يواجه معظم الشباب في الآونة الأخيرة، أولئك الراغبون في تحقيق أحلامهم بالهجرة من البلاد، يختتم «شاهين» فيلمه بلقطة لتمثال الحرية في النهاية يتحول إلى امرأة عجوز تتساقط أسنانها وتضحك كالشياطين، كأنما تسخر من «يحيى» وتصرح له أن العالم في الخارج ليس ورديًا، وتعلن قبولها التحدي والرغبة في هزيمته، وتجعل الطريق ضبابيًا أمام الراغبين في تكرار التجربة، هل ينجح أحد، أم أن الأمر سيصبح مُجرد «تنفيسة»؟