التليغراف المتكلم: كيف بدأ جراهام بيل ثورة الاتصالات؟
كانت تلك الكلمات المقتضبة هي فحوى أول مكالمة هاتفية في التاريخ، في العاشر من مارس/ آذار عام 1876. ذهل «أليكساندر جراهام بيل – Alexander Graham Bell» من وصول صوته بالفعل إلى مساعده «توماس واتسون» الذي أتى إليه مسرعًا على إثرها. تبادل الرجلان المواقع، وقرأ واتسون بضع فقرات من الكتاب في القطعة المخصصة للكلام من الجهاز الذي لم يكن يشبه الهاتف الحالي إطلاقًا. في هذه الحالة أيضًا تمكن بيل من سماع صوت واتسون من خلال الأسلاك.
إذا كنت تتساءل كيف كان يبدو صوت بيل في هذه الأيام، فجرب الاستماع للفيديو التالي.
لم تكن جودة الصوت الأفضل بالطبع، لكن هذه المكالمة كانت نقطة الإيذان ببدء عصر التواصل الهاتفي، وربما نقطة بداية عصر الاتصالات بأكمله. فالهواتف الذكية بمختلف أنواعها بدأت من هاتف غريب الشكل استغرق سنوات ليحصل على شكله الكلاسيكي المعهود. كان الهاتف حينئذ تليغرافًا ذكيًا، أو كما عرفه الناس اّنذاك «التليغراف المتكلم».
عقل على أهبة الاستعداد
ولد أليكساندر جراهام بيل في كنف عائلة عاشت في أدنبرة في اسكتلندا، وجعلت من الأصوات شغلها الشاغل. كانت أم أليكساندر صمّاء، لكنها موسيقية ماهرة. أما الوالد -أليكساندر ميلفل بيل- فقد كان ضليعًا في علوم النطق، ومختصًا في علاج مشاكل النطق بطرق ذكية للغاية. أتم تراثه فيها بوضع نظام رمزي مفصل في محاولة لتسجيل كل الأصوات «syllables» الموجودة في كل لغات العالم.
عمل الأب والابن كأساتذة في «الفصاحة – Elocution». كرس بيل الأب حياته لمساعدة أصحاب مشاكل السمع في تعلم الحديث، وأثناء تطويره لعدة العمل، تشرب بيل الابن الصنعة منه. انتقلت العائلة إلى كندا بعد وفاة أخوَي أليكساندر جراهام بداء السل، رغبة في التأكد من حياة أليكساندر -الابن المتبقي- في بيئة صحية. من هناك انتقل أليك –كما كان يطلق على أليكساندر في البيت- إلى الولايات المتحدة لتدريس ما تعلمه عن أبيه. هناك أخذ بيل أبحاث والده إلى مرحلة تقنية مختلفة.
في مارس/ آذار من العام 1872، التقى أليك جاردنر جريين هابارد، محامٍ شهير أصيبت ابنته بالصمم بسبب الحمى القرمزية في سن الخامسة. كانت الفتاة ميبل قارئة بارعة للشفاه، ليس للإنجليزية فقط بل للألمانية أيضًا. من هنا سيبدأ بيل الابن مشروعه «مدرسة الفسيولوجيا الصوتية»، التي سيساعد فيها فاقدي حاسة السمع، وأصحاب مشاكل النطق على الحديث بشكلٍ صحيح.
الطبيعة معلمًا
صبت كل هذه المقدمات في مصلحة الميزة التنافسية التي امتلكها أليك عن غيره من الباحثين الأكثر خبرة، والأوسع شهرة الذين طاردوا نفس الحلم. ربما كان فهم أليك لطبيعة الكهرباء لا يرقى إلى مستوى أديسون أو غراي، إلا أنه تفوق عليهما في فهمه لطبيعة الصوت، وميكانيكية إصدار البشر له.
من هذا المنطلق كان تليفون بيل عبارة عن محاكاة لتكوين الأذن[1].
ببساطة، كان تليفون بيل يعمل بطريقة تشبه بث الأصوات عبر طبلة الأذن ولكن صناعيًا. في الأذن يهتز «غشاء الطبلة – eardrum» المثبت على عظام الأذن تبعًا لتردد الموجات الصوتية القادمة إليه. في التليفون يهتز الغشاء الصناعي على قطعة معدن ممغنطة، محولًا الموجات الصوتية لنظير من الإشارات الكهربائية عن طريق ترجمة الانضغاطات والانبساطات في الموجة.
تصل الإشارات الكهربائية عبر الأسلاك إلى الضفة الأخرى، فيهتز الغشاء على الميكروفون هناك أيضًا بالطريقة نفسها لكن في الاتجاه المعاكس، محولًا الإشارات الكهربائية إلى موجات صوتية مرة أخرى. نسمع نحن تلك الموجات كأنها قد خرجت من فم المتحدث للتو، لتستمر العملية ذهابًا وإيابًا طوال المحادثة في زمن لا يذكر.
إلى العمل
بالطبع لم تأتِ هذه الأفكار جملة واحدة، فقد عانى بيل الكثير من الإخفاقات والمشاكل المالية. كان على بيل المرور بعدة مراحل تطورية تبدأ من إيجاد طريقةٍ ما لإرسال عدة رسائل عبر نفس السلك، وتنتهي بترجمة الإشارات بطريقة منضبطة. بعد عامين على اللقاء الأول، وبناء على جلسة بيانو في حفلة شاي في بيت هابارد، سيبدأ التعاون المثمر بين الرجلين لحل المشكلة الأولى.
كان لدى هابارد اهتمام بالغ بالتليغراف وتقنيته. كانت شركة «ويستيرن يونيون – Western union» قد أحكمت قبضتها على إدارة التليغراف في أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية منذ الحرب الأهلية، ولم تفلتها أبدًا، مستغلة هذه الاحتكارية المطلقة.
حتى يتمكن هابارد من مجابهة هذا الغول كان عليه الحصول على ميزة تنافسية حقيقية، خاصة في ميدان الأسعار. كان التليغراف -المعتمد على الكهرباء وإشارات مورس- لا يمكنه إرسال عدة رسائل في سلك واحد. إذا أراد 50 شخصًا إرسال رسالة في الوقت نفسه، يجب أن يتوافر 50 سلكًا منفصلًا. عنى ذلك أسعارًا مرتفعة للخدمة.
هكذا كان من المسلم به أن يهتم هابارد بأفكار بيل. كان بيل يشرح على البيانو في منزل هابارد كيف يمكن صناعة نظام يستطيع إرسال عدة رسائل في سلك واحد، مما يضمن انخفاض التكلفة وانخفاض الأسعار بالتبعية. هكذا ولد التعاون، بيل بالأفكار والتصميم والعلم، وهابارد بالموارد المادية. هذا إلى أن انضم بيل للعائلة رسميًا كزوج للابنة ميبل[1].
استمرت التجارب لأعوام منذرة بالاستسلام، الأمر الذي وصل بهابارد إلى عرضه حقوق استخدام التصميم المبدئي للتليفون على ويستيرن يونيون التي يمقتها مقابل 100 ألف دولار. لحسن حظ بيل وهابارد، رفضت الشركة العرض مفضلة الاستمرار مع أبحاث أديسون ونادمة على قرارها لاحقًا.
ملاحظات بيل على تجربة ناجحة لعمل جهاز التليفون
حرب الاستنزاف
بعد إتمام صناعة التليفون كآلة تعمل بشكل مُرضٍ، لقي بيل الكثير والكثير من الاحتفاء، حيث تمت دعوته للمحاضرة في جامعات كبرى على رأسها أوكسفورد. إضافة إلى ذلك، حضرت الملكة فيكتوريا عرضًا قام به بيل للتليفون وسجلت انبهارها التام به. لكن الأمور لم تسر كلها على ما يرام.
شنت ويستيرن يونيون حملة شعواء على بيل، بعدما أدركت الخطأ الفادح الذي اقترفته برفضها عرض هابارد المبكر. كان أديسون قد استطاع تطوير جهاز الإرسال في التليفون –الجزء الذي يلتقط الإشارات ويقوم ببثها- ليعمل بشكل أفضل. على هذا الأساس قام أديسون ومعه أليشا غراي بالاشتراك مع ويستيرن يونيون، بتدشين حملة تشويه لسمعة بيل واختراعه، واتهامه حتى بأنه لم يقم بالاختراع من الأساس.
وقعت ويستيرن في فخ الملكية الفكرية عندما قامت بتسويق تليفون يمتلك جهاز إرسال أديسون. كان بيل قد أقام مع هابارد وشريك ثالث شركة تليفونات رسمية، وبالتالي قامت شركة «Bell telephone» بمقاضاة ويستيرن يونيون. كان أليشا غراي قد قدم براءة اختراع «مبدئية» لمكتب البراءات. قبلها بساعتين فقط، كانت براءة بيل الكاملة قد وصلت المكتب، وبالتالي كانت له الأحقية[2].
المثير للسخرية هنا أن بيل المهووس بالكمال كان قد تأخر شهورًا في إرسال البراءة، إلى أن أرسل حموه واتسون ليقنعه بضرورة إرسالها فورًا، في الوقت الذي ظهر أنه مناسب تمامًا. أنقذ هابارد وواتسون حق بيل في اختراعه الذي عانى طويلًا من أجله.
هكذا آلت براءة الاختراع –عن استحقاق- إلى أليك بيل، وبدأت حرب استمرت عقدين لإثبات هذا الحق ضد حملة غراي وأديسون وآخرين كثر في أكثر من 800 قضية تم رفعها. في النهاية أصبحت شركة بيل مالكة شرعية لكل حقوقها، واستمرت في النمو حتى أصبحت الآن شركة AT&T إحدى أضخم شركات الاتصالات في العالم.
- Alexander Graham Bell: Making Connections. Chapter 2
- Alexander Graham Bell: Making Connections. Chapter 4