ألكسندر دوغين والجيوبوليتيك: جولة في «عقل بوتين»
يعد «ألكسندر دوغين» أبرز مُفكر استراتيجي في روسيا، ويُنظر للسياسة الخارجية الروسية على أنها تطبق بشكل أو بآخر أفكار هذا الرجل الذي يوصف بأنه عقل الرئيس فلاديمير بوتين، واتهمت موسكو الأوكرانيين بمحاولة اغتياله العام الماضي بعد غزو بلادهم.
ويقدم كتاب «أسس الجيوبوليتيكا: مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي» لدوغين فرصة ثمينة للاطلاع على العقل الاستراتيجي الروسي، فمؤلفه يصف كتابه بأنه أول مؤلف تعليمي باللغة الروسية في علم الجيوبوليتيك، عُرضت فيه بمنهجية وتفصيل أسس الجيوبوليتيك، نظريته وتاريخه، كما أنه يغطي ميدانًا واسعًا من المدارس والرؤى الجيوبوليتيكية والقضايا العملية، «ولأول مرة تصاغ العقيدة الجيوبوليتيكية لروسيا .. فهذا هو الدليل الذي لا بديل عنه بالنسبة لجميع من يتخذون القرارات في أعظم الميادين أهمية في الحياة السياسية الروسية».
وقد نُشر الكتاب في روسيا عام 1999، وهو العام الذي شهد بداية عهد حكم الرئيس بوتين، وصدرت ترجمته العربية عام 2004 من دار الكتاب الجديد المتحدة ببيروت على يد الدكتور عماد حاتم.
دليل رجل السلطة
يختص الجيوبولييتيك بتحليل التأثيرات الجغرافية على علاقات القوة في العلاقات الدولية، وتتسم الكتابات الجيوبوليتيكية بالتحيز لأن نظرياتها تُصاغ لخدمة مصالح دول متنافسة، بعكس الجغرافيا السياسية التي لا تعدو كونها صورة للدولة يتم رسمها وفق معطيات الواقع، ويبرر دوغين هذا التحيز قائلًا: «من أوتي القدرة على أن يطوف بنظره في وطننا بكل ما فيه من امتداد في التاريخ والجغرافيا يتعذر عليه أن يبقى باردًا بعيدًا عن التحيز .. المعيار الوطني ليس ملاذًا للأوغاد – رغم أنه يمكن في الواقع أن يبيض صفحة من يلوذون به – لكنه يبقى المعيار الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي يعد الحياد عنه مظهرًا قبيحًا وبداية للتطرف الحقيقي الاجتماعي والعدمية والانهيار».
ويجادل دوغين بأن نشر الثقافة الجيوبوليتيكية يعد خط الدفاع الأخير عن روسيا والبديل لذلك هو الانتحار التاريخي، لأن الغرب يستهدف محو روسيا من التاريخ بيد حديدية لبناء نظام دولي جديد، ويعتبر أن منتقديه في ذلك سُذجًا في أحسن أحوالهم.
ويشير دوغين إلى أن الجيوبوليتيك هو علم السلطة والدليل الملخص لرجل السلطة، فمن عكفوا على دراسة هذا العلم هم من شاركوا في حكم الدول أو من يهيئون أنفسهم لأداء هذه المهمات، ويؤكد أن المنهج الجيوبوليتيكي هو النموذج التفسيري الأساسي للنخب المعاصرة، فهو المحرك الحقيقي لهم بعيدًا عن الشعارات والمبادئ والمعتقدات الاقتصادية، فالجيوبوليتيكيون يرون العالم على صورته الحقيقية، لذلك يرون التحولات والتطورات التي تطرأ على العالم مجرد تغيرات ظاهرية قشرية لا تمس الجوهر الذي لا يتبدل، «فالتقدم التقني لا يجلب التقدم الأخلاقي، والطبقات القديمة للروح لا تتلاشى بغض النظر عن كل زلازل الحداثة».
ويعزو قلة الوعي بالجيوبوليتيك وعدم تحوله إلى أيديولوجيا جماهيرية – كالليبرالية والماركسية – إلى أنه رغم أهميته يبدو بعيدًا عن اهتمامات الإنسان الفرد، لأنه يتناول القضايا ذات المدى المكاني الكبير، وتدبُّر السنن الاجتماعية والتاريخية على المستوى الكوني، وفقط بمقدار اقتراب الإنسان من القمة الاجتماعية يبدأ الجيوبوليتيك فيكشف له معناه وجدواه.
الآباء المؤسسون
يتكون الكتاب من ثمانية أبواب غير المقدمة، يخصص البابين الأول والثاني للتعريف بجهود الآباء المؤسسين للعلم ونظرياتهم كفريدريك راتزل، أبي الجيوبوليتيك، الذي نظَّر للدولة ككائن حي ينمو ويتمدد متخليًا عن فكرة حصانة الحدود السياسية بين الدول، فتتوسع الدول على حساب جيرانها الأضعف منها، وكذلك تلميذاه الألماني، فريدريك ناومن، والسويدي، رودلف تشيلين، اللذان سارا على نهجه.
وجاء كارل هاوسهوفر، المفكر الألماني، ليرث هذه الأفكار ويؤثر في سياسة ألمانيا النازية، لكن هتلر تناقض عمليًّا مع أفكار هاوسهوفر بدافع من اهتمامه بالجوانب العرقية والأيديويولوجية، فبدلًا من التحالف مع الروس استجابة لمعطيات الجغرافيا نظر إليهم كعرق بعيد كل البعد عنه، بينما كان الأنجلوساكسون (مثل بريطانيا) أقرب إليه رحمًا، وأيضًا كان بعض منظري الشيوعية يهودًا مما ساهم في زيادة نفور هتلر من الاتحاد السوفيتي.
وتعرض كذلك للمفكر الألماني، كارل شميدت، الذي نظَّر لفكرة التكامل على أساس التعددية الثقافية والعرقية، ليس عن طريق السيطرة العسكرية بل بالاعتماد على صيغة موحدة ثقافية أو دينية أو غير ذلك، أي إن توسع حدود المجال الحيوي مرتبط بالإرادة السياسية وليس حتمية جغرافية.
ويستعرض كذلك مدرسة البريطاني، هيلفورد ماكيندر، الذي شارك لنصف قرن في بناء الاستراتيجية الإنجليزية في الشئون الدولية، وصاغ القانون الأساسي لهذا العلم، فقسم الكرة الأرضية إلى ثلاث مناطق: قلب العالم (روسيا تقريبًا)، والهلال الداخلي (المنطقة المحيطة في آسيا وأوروبا وشمال أفريقيا)، والهلال الخارجي (بقية العالم)، أي إنه اعتبر موقع روسيا رأس الجسر الجغرافي الأكثر ملاءمة للسيطرة على العالم، واعتبر أن المهمة الأولى للأنجلوساكسون هي منع الروس من التوسع وحبسهم داخل النطاق القاري الداخلي وإبعادهم عن سواحل أوراسيا (أي قارتي أوروبا وآسيا) ومنع اتحادهم مع ألمانيا في اتحاد أوراسي ضخم.
ولاحقًا تبنت الولايات المتحدة وحلف الناتو هذا الجيوبوليتيك الأنجلوساكسوني خلال الحرب الباردة في مواجهة الاتحاد السوفيتي، وبهذا لم تكن كراهية الغرب لروسيا أيديولوجية الطابع بل جيوبوليتيكية، وكان الصراع بينهما يتركز في منطقة الهلال الداخلي.
ووفق هذا التصور سارت كتابات الضابط الأمريكي، ألفريد ماهان، الذي كرس جهوده لشرح أهمية القوة البحرية، ومثلت هذه الأفكار الأصل النظري للاستراتيجية العسكرية الأمريكية طوال القرن العشرين.
وعلى يد الأكاديمي الأمريكي، نيكولاس سبيكمان، تمت مراجعة نظريات ماكيندر وماهان ليخلص إلى جعل منطقة الهلال الداخلي مفتاح السيطرة على أوراسيا ومن ثَم السيطرة على العالم، خلافًا لماكيندر الذي اعتبر أن السيطرة على العالم تنبع من السيطرة على أوروبا الشرقية ثم روسيا ثم أوراسيا والجزيرة العالمية، وهو ما يعتبره دوغين خلافًا أشبه باللفظي، وأن سبيكمان لم يأتِ بجديد في هذه الجزئية، لكنه طور أفكار ماكيندر بطريقة جعلته يوصف «بمهندس النصر العالمي للدول الليبرالية الديمقراطية» على أوراسيا، فعلى يديه تطور مفهوم الصراع بين القوى البحرية والبرية ليصل إلى إمكانية حسم هذا الصراع الكوني الذي رآه ماكيندر أبديًّا لا يمكن إلغاؤه.
ويستعرض دوغين مسيرة تأسيس الجيوبوليتيك الفرنسي على يد فيدال دي لابلانش الذي تأثر براتزل لكنه أوسع المدرسة الجيوبوليتيكية الألمانية انتقادات ومجادلات، إذ رأى أنها ضخمت تأثير الجغرافيا وقلصت من دور الإنسان، وأن تأثير الجغرافيا ليس حتميًّا بل يدخل تحت دائرة الاحتمالات.
الجيوبوليتيك الروسي
بعد عرضه الموجز لأبرز المدارس الجيوبوليتيكية الغربية يأتي الدور على روسيا؛ فيبدأ بأفكار بيوتر نيكولايفتش سافيتسكي، «الكاتب الروسي الأول والوحيد الذي يمكن وصفه بالعالم الجيوبوليتيكي بكل ما تحمله الكلمة من معنى»، وتنطلق أفكاره من تفرد روسيا الجغرافي والتاريخي؛ فهي تحتل الموقع المركزي لأوراسيا فهي ليست أوروبية ولا آسيوية، بل تكوين حضاري مستقل، ويعيد تعريف الانتماء العرقي لروسيا فيجعله مزيجًا بين الدم السلافي والتركي في إطار الثقافة الآرية والتقاليد الأرثوذكسية، فروسيا لديه حاملة للروح المغولية وامتداد للمملكة البرية لجنكيز خان وتيمور لنك.
ووفقًا لمفهومه المسمى «بؤرة التطور»، يبدو سافيتسكي متأثرًا بكل رموز المدرسة الألمانية السابقين، وكذلك بالمدرسة الفرنسية حين يقول بامتزاج الوسط الاجتماعي والسياسي مع الأرض فتخرج لنا شخصية جغرافية موحدة، لذا يرى روسيا الأوراسية وحدة متكاملة بجغرافيتها وأجناسها واقتصادها وتاريخها، وتضم كيانات صغيرة متحدة ضمن صيغة تكاملية كالتي بشر بها شميدت.
واهتم سافيتسكي بمفهوم «الإيديوكراتيا»، وهو مصطلح يعني الدوافع الديمقراطية غير الليبرالية للإدارة المعتمدة على أسس غير مادية أو نفعية، ويتعمد سافيتسكي ترك تحديد معنى المصطلح بدقة فيحتمل أن يتمثل في الدولة الدينية أو الملكية الشعبية أوالديكتاتورية الوطنية أو نظام الحزب الواحد على المثال السوفيتي، فهو يرى أن الدولة الأوراسية يجب أن تنطلق من دافع روحي من أعلى لأسفل، وأن يقف القادة الروحيون على رأس هذا النظام، فالدولة الأوراسية تعتمد هيمنة المثل الديني الأعلى، بخلاف الدولة البحرية الأنجلوساكسونية التي يلائمها نموذج الديمقراطية الليبرالية.
ويؤكد دوغين أن سافيتسكي قطع الطريق الذي وصل الجيوبوليتكيين الألمان إلى نصفه فقط، ويضرب المثل بإرنست نيكيش كمثال نادر أدرك الحقيقة الجيوبوليتيكية القائلة بوجوب توحيد شمال أوراسيا من أقصى سواحلها الشرقية وحتى هولندا على شواطئ أوروبا الغربية.
ويتحدث عن ملحوظة مهمة، وهي أن تحليل السياسة السوفيتية الخارجية ـ حتى بداية فترة البيريسترويكا ـ يؤدي إلى الاستنتاج بأنها كانت تسلك دائمًا نهجًا أوراسيًّا دون أن تتحدث علانية عن ذلك، ويبني افتراضات لتفسير ذلك، فإما أن تكون وجدت منظمة مجهولة داخل النظام السوفيتي (يقال إنه قسم سري في المخابرات) تهتدي بآراء سافيتسكي وتغلفها بالمفردات الماركسية، وإما أن الواقع الجغرافي كان يضطر السوفيت للقيام بالخطوات التي ينبغي أن تقوم بها دولة قارية واعية جيوبوليتيكيًّا.
مصائر العلماء مصائر الدول
يؤكد دوغين أن القانون الأساسي للجيوبوليتيك الذي لم تختلف عليه جميع المدارس حول العالم هو تأكيد الثنائية التاريخية التأسيسية بين حضارة البر الأوراسية التي يسميها بعالم «تيلوركراتيا» الإيديوكراتيا، وبين حضارة البحر التجارية، التي يسميها «تالاستوكراتيا»، والتي تمثل العالم الأنجلوساكسوني، وبدون التسليم بهذه الثنائية تفقد كل النتائج معناها.
كما يدافع عن تحيز علماء الجيوبوليتيك انطلاقًا من حتمية استخدامهم السياسي، مستشهدًا بأنه لم يُستبعد واحد فقط منهم من المشاركة والتأثير في الحياة السياسية لدولته رغم أن الاحترام والتقدير كان من نصيب علماء دول الغرب بعكس دول الشرق، لكنه يبرر غياب أسماء مرموقة لعلماء الجيوبوليتيك في كثير من الدول بأن تأثير تلك الدول على مسيرة المواجهة العالمية لا يكاد يذكر.
ويشير إلى أن مصائر العلماء مصائر الدول؛ فالدول التي استجابت أكثر من سواها لعلمائها الجيوبوليتيكيين وأحاطتهم بالإجلال قد حصدت، في نهاية المطاف، نتائج مهولة واقتربت كثيرًا من الوصول بصفة نهائية إلى السيطرة العالمية بمفردها، بينما دفعت ألمانيا سقوطها من التاريخ لمدة نصف قرن ثمنًا لإهمالها أطروحات هاوسهوفر المتعلقة بـ «المعسكر القاري»، وتكبدت هزيمة مدوية ووصلت إلى مرحلة العدم السياسي، أما الاتحاد السوفيتي الذي لم يُعِر اهتمامًا لأعمال الأبطال الوطنيين الروس النافذي البصيرة فقد وجد نفسه – في أواخر عهده – بدون معركة أو مقاومة في وضع يقترب من وضع ألمانيا بعد الحرب، فهبط تأثيره العالمي حتى الصفر، وتقلصت مساحته بشدة وتحول اقتصاده إلى أطلال.
الأطلسية الجديدة وجيوبوليتيك العولمة
يقدم الباب الثاني النظريات التي ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين، ففي الولايات المتحدة وبمعنى أوسع، الخط الأطلسي (التالاسوكراتي) فقد تطور من الناحية العملية دون أي انقطاع عن التقليد المعتمد؛ فمع تطبيق مشاريع الأمريكيين في إقامة «الدولة العالمية»، دقق علماء الجيوبوليتيكا الأطلسيون، في فترة الحرب الباردة، في الآفاق الجزئية لنظريتهم وزادوها تفصيلًا مع تطوير مجالاتها التطبيقية، وتحول نموذج القوة البحرية وأبعادها الجيوبوليتيكية من صياغات علمية لعدد من المدارس العسكرية، والجغرافية المتفرقة ليصبح السياسة الرسمية العالمية للولايات المتحدة.
وبالإضافة إلى ذلك فإن تحول الولايات المتحدة إلى دولة فوق عظمى وخروجها إلى المرحلة النهائية للتالاسوكراتيا جعل علماء الجيوبوليتيك الأمريكيين يتدارسون نموذجًا جيوبوليتيكيًّا بالغ الجدية تشارك فيه قوة واحدة؛ وهو ما عُرف لاحقًا بـ «العولمة».
ويستعرض أفكار تلاميذ نيكولاس سبيكمان، من أمثال مايننج الذي قسم مناطق الهلال الداخلي إلى: مناطق محايدة وأخرى موالية للأوراسية وثالثة موالية للأطلسية، وكيرك الذي قال بأفضلية الحضارات الشاطئية (الهلال الداخلي) وتأثيرها على المناطق القارية الداخلية، وسول كوين صاحب نظرية «الأحزمة المتقطعة» قسَّم فيها الأقاليم الجغرافية إلى أحزمة جزئية، وهي النظرية التي التقطها الاستراتيجيون الأمريكان مثل وزير الخارجية، هنري كيسنجر، حيث تم إيلاء اهتمام خاص بالقطاعات الشاطئية بأوراسيا، سواء المحايدة أو الموالية للجانب الأوراسي، فتم دعم القوميين الأوكرانيين والتقارب مع الصين، ودعم نظام الشاه الإيراني الموالي لواشنطن.
وفي النهاية ربح الأطلسيون الحرب الباردة، وصدقت تنبؤات ماكيندر وماهان التي تم تعديلها بدقة على يد سبيكمان، حيث كانت المواجهة بين السوفيت والناتو الصيغة النقية من صيغ المواجهة بين حضارة البر وحضارة البحر؛ إذ فشل الاتحاد السوفيتي في اختراق طوق الأناكوندا الغربي الملتف حوله، وعجز عن الوصول للمناطق الساحلية فاختنق وانهار.
ويشير دوغين إلى أن الجيوبوليتيك في حالة الغرب مادة علمية تملي الخطوط العامة للاستراتيجية الدولية، أما في حالة المعسكر الشرقي، ومن حيث إنه لم يجرِ الاعتراف بها خلال مرحلة طويلة من الزمن، فقد وجدت ولا تزال موجودة في صيغة «رد فعل» على خطوات عدو مقتدر، وهكذا كانت ولا تزال «جيوبوليتيك سلبية» هدفه الرد على تحدي الأطلسية الاستراتيجي.
ويرى أن انتصار الأطلسيين على الاتحاد السوفيتي (الذي يحتل منطقة قلب الأرض) كان يعني الدخول في عصر جديد ونماذج جوبوليتيكة مبتكرة، وانتهت قراءة الواقع الكوني بعد انتهاء الحرب الباردة إلى رؤيتين لدى علماء الجيوبوليتيك الأطلسيين إحداهما تشاؤمية يطلق عليها «الأطلسية الجديدة» تتوقع تشكل أحلاف أوراسية جديدة أو بروز مناطق جيوبوليتيكية أخرى يمكنها في المستقبل مواجهة الغرب، وأن انهيار المعسكر الاشتراكي لن يؤدي لسيادة القيم الأطلسية بل سيعيد تفعيل الرقائق الأعمق بعد تحررها من القوالب الأيديولوجية السطحية، ومن أبرز أعلام هذا الاتجاه صموئيل هنتنجتون الذي اقتفى أثر ماهان وسبيكمان في تفاصيل نظريته الجيوبوليتيكية.
أما الرؤية المتفائلة فتقوم على مثل هذه اللوحة الجيوبوليتيكية المؤسسة وترى في انتصار الغرب في الحرب الباردة وضعًا نهائيًّا لا رجعة فيه، وعلى هذا تقوم نظرية العولمة ونهاية التاريخ المرتبطة باسم عالم الجيوبوليتيك الأمريكي فرانسيس فوكوياما.
ليتحدث بعد ذلك عن «العولمة ما بعد الكارثية» للبروفيسور سانتورو، وهي وسط بين تفاؤلية فوكوياما وتشاؤمية هنتنجتون؛ إذ تفترض نشوء قوى متصارعة جديدة في أنحاء العالم ما تلبث أن تهدد السلام الكوني فتتداعى الأطراف الدولية لإقرار آلية مشتركة لحفظ أمن الكوكب، وبذلك تكون الفوضى سبيلًا للذهاب نحو فكرة الحكومة العالمية.
ويلفت إلى أن قطاعًا من منظري العولمة في نهاية الحرب الباردة تبنوا «نظرية التقارب» التي تعني إنهاء الحرب الباردة بين القطبين بالتقارب الأيديولوجي والعملي، والتخلص من الثنائية الأيديولوجية والجيوبوليتيكية للحرب الباردة عبر إنشاء نمط ثقافي-أيديولوجي جديد للحضارة يمكن أن يكون وسطًا بين الاشتراكية والرأسمالية، وبين الأطلسية المحضة والقارية المحضة؛ إذ كان ينظر إلى ماركسية السوفيت على أنها عقبة يمكن التخلص منها بالانتقال إلى صيغتها المعتدلة، الاشتراكية الديمقراطية المحرفة، عبر الكف عن أطروحات «دیکتاتورية البروليتاريا»، و«النضال الطبقي» و«تأميم وسائل الإنتاج» و«إلغاء الملكية الخاصة» وغيرها، وكان على الغرب الرأسمالي أن يكبح بدوره من حرية السوق وأن يدخل بصفة جزئية التنظيم الحكومي للاقتصاد وما إلى ذلك.
وكانت نظرية التقارب هذه الأساس الأيديولوجي الذي اعتمده الزعيم السوفيتي ميخائيل جورباتشوف في مرحلة البروسترويكا، فبدأ في إعادة الصياغة البنيوية للمجال السوفياتي في اتجاه الدمقرطة والليبرلة، ولمست ذلك بالدرجة الأولى دول حلف وارسو ثم جمهوريات الاتحاد السوفيتي بعد ذلك، وشرع بتقليص الأسلحة الاستراتيجية والتقارب الأيديولوجي مع الغرب، إلا أنه من الضروري لفت الأنظار في هذه الحالة إلى حقيقة أن سنوات حكم جورباتشوف ترافقت مع مرحلة رئاسة أشد المتطرفين الجمهوريين في الولايات المتحدة، وهما رونالد ريجان وجورج بوش الأب، فكانت التنازلات من طرف واحد فقط، وبينما سار السوفيت في هذا الطريق رفض الصينيون هذا التوجه.
وينتقد دوغين «الجيوبوليتيك التطبيقي» أي المحلي، ويعتبره خارج نطاق هذا العلم لأنه رغم تشابهه معه ظاهريًّا لكنه يختص بدراسة المناطق المحلية ودراسة التوجهات السياسية لسكان المناطق المختلفة، ويفتقر للبعد الكوني الشامل الذي يميز علم الجيوبوليتيك.
وينتقل لدراسة ما يسميه «جيوبوليتيك اليمينيين الجدد»، لافتًا إلى رفض أصحابه هذا التعريف إذ عدوا أنفسهم يمينيين بقدر ما هم يساريون أيضًا، وتتصدر هذه المدرسة أطروحات الفيلسوف الفرنسي آلين دي بنوا، المبنية على أساس فرض «مصير أوروبا القاري»، وهو في هذا يقفو أثر مبادئ مدرسة الجيوبوليتيك الألماني خاصة هاوسهوفر، ومن هنا تصدر المواجهة المميزة لليمينيين الجدد بين «أوروبا» و«الغرب»، فأوروبا بالنسبة لهم كيان قاري، أما الغرب فيرتبط بالعالم المعاصر الذي يرفض التقاليد العرقية والروحية، والتجسد الأكثر اكتمالًا للغرب وحضارته هي الولايات المتحدة الأمريكية.
ومن هنا يتشكل المشروع الملموس «لليمينيين الجدد»، فعلى أوروبا أن تتكامل في «إمبراطورية فيدرالية» تقف في مواجهة الغرب والولايات المتحدة، ومن الضروري تشجيع الميول الإقليمية لأن المناطق الجهوية والأقليات العرقية احتفظت بقدر من الملامح التقليدية على عكس احتفظت المدن الضخمة التي صعقتها «روح الغرب»، وعلى فرنسا، إزاء ذلك أن تقتدي بألمانيا وأوروبا الوسطى. ومن هنا ينطلق اهتمام «اليمينيين الجدد» نحو نهج الرئيس الفرنسي شارل ديجول، وينادي «اليمينيون الجدد» منذ بداية السبعينيات بالحياد الاستراتيجي الصارم لأوروبا، إلى جانب الخروج من الناتو، وتطوير القدرة النووية الأوروبية المكتفية بذاتها، فهم يرفضون العولمة ويشجعون أفكار اتحاد أوروبا مع روسيا.
وقريبًا من ذلك أتت أفكار الجنرال النمساوي يورديس فون لوهاوزن، والكاتب الفرنسي، جان برفوليسكو، رائد الأدب الفني الجيوبوليتيكي، والمفكر البلجيكي جان تيريار، الذي دعا لتوحد قارة أوروبا مع السوفيت في دولة واحدة، وتنبأ بسقوط الاتحاد السوفيتي قبل موعده بخمسة عشر عامًا، وحاول تحذير قادة الاتحاد لكن لم يتم الاستماع إليه.
أما العالم البلجيكي روبير استويكيرس، فقد اتفق مع الإطار العام لسابقيه، لكنه انفرد عنهم بالتأكيد على الأهمية الكبرى للمحيط الهندي، وتحدث عن أهمية تقوية علاقات أوروبا بالعالم العربي.
أما مدرسة كارلو تيراتشانو الإيطالي فقد تفردت بطرح غريب جدًّا للأوروبيين؛ وهو الاعتماد على الدور الحاسم للإسلام في التصدي للنفوذ الأمريكي الأطلسي، وقد أكد كذلك على الدور المركزي لروسيا فكانت المعادلة النهائية التي تلخص نظراته الجيوبوليتيكية هي: روسيا + الإسلام = إنقاذ أوروبا، ويرى أن العالم الإسلامي في أعلى درجات التعبير عن المصالح الجيوبوليتيكية القارية، وينظر إلى الصيغة «الأصولية» للإسلام على أنها إيجابية، ویری في أوروبا جسرًا للحلف الروسي الإسلامي المعادي للنظريات والمدارس الجيوبوليتيكية المعاصرة للعولمة، وترى وجهة نظره أن مثل هذا الطرح الجذري للسؤال يمكن فقط أن يؤدي موضوعيًّا إلى الانبعاث الأوروبي الحق.
ويختتم الباب الثاني بدراسة «الأوراسية الجديدة» للعالم الروسي ليف غاميلوف، أبرز وأهم تلاميذ سافيتسكي، وقد نظر للروس ليس كفرع سلافي شرقي، بل كمزيج من العرقين السلافي والتركي نتاج تحالف تاريخي بين الغابة والسهب، وهذا هو الجوهر التاريخي لروسيا الذي صنع ثقافتها وحضارتها ومصيرها السياسي.
وتحدث غاميلوف عن الدورات الحضارية للدول (أفكار شبيهة بكلام ابن خلدون عن دورة حياة الدول) والقوميات، وتأثير الدفقات العاطفية في إعادة إحياء الدور التاريخي للمجموعات البشرية، واستطاع أن يرسم معالم الحضارة الروسية بعيدًا عن النظرة الغربية التي تقسم العالم إلى جزأين: الغرب والبقية (The west and the rest)، لا يظهر فيها الشرق الأوراسي كبقاع همجية على تخوم الحضارة الغربية، بل كمركز مستقل وديناميكي للحضارة.
لم يتطرق غوميلوف صراحةً إلى المواضيع الجيوبوليتيكية ولم يصغ نتائجه الجيوبوليتيكية في ظل الرقابة الأيديولوجية الصارمة للاتحاد السوفيتي، بل قام بذلك مريدوه عندما ضعفت قبضة هذه الرقابة، وسُمي هذا الاتجاه في عمومه بـ «الأوراسية الجديدة» وهو اتجاه يضع نصب عينيه هدف القضاء على الأحادية القطبية، ويشير دوغين إلى أن الأوراسية الجديدة هي القاعدة النظرية الوحيدة التي يمكن على أساسها بناء مجموعة كاملة من الاستراتيجيات الشمولية الرافضة للهيمنة الأطلسية وقيم السوق والديمقراطية الليبرالية والعلمانية وفلسفة الفردية.
تجميع الإمبراطورية
في الباب الثالث الصغير نسبيًّا يقدم تمهيدًا حول أن روسيا تمثل قلب الأرض، وهو ما يميزها ويضاعف أهميتها، ويتطرق إلى تحدي تحويل مناطق الهلال الداخلي إلى حلفاء لروسيا في صراعها مع أمريكا، أو على الأقل تحييد تلك المناطق، ويحث روسيا على «تجميع الإمبراطورية» واستباق ما تخشاه، سواء من توجه الصين لشرق سيبيريا وكازاخستان، أو تحرك أوروبا الوسطى تجاه أوكرانيا وروسيا البيضاء، أو توجه المعسكر الإسلام للتكامل مع آسيا الوسطي، فإن لم تحاول روسيا توسيع نفوذها فستكون هدفًا للآخرين، وعليه فإن على روسيا أن توسع نفوذها سلميًّا في منطقة الهلال الداخلي الساحلية لتصل إلى البحار الدافئة.
مستقبل روسيا
في الفصل الرابع يتحدث عن مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي عبر ثلاثة محاور؛ أولها محور موسكو-برلين، ويذكر بحرص الدول الغربية الاستعمارية، عبر التاريخ، على غرس الحواجز الوقائية ـ عبر مجموعة دويلات – بين روسيا وألمانيا للحيلولة دون قيام حلف بينهما، بالإضافة إلى غرس الكراهية المتبادلة بينهما، ويرى أن التكامل بين هذين الشعبين ضرورة يفرضها الوضع الذي تبدو ألمانيا فيه عملاقًا اقتصاديًّا لكنه قزم سياسي، بينما تبدو روسيا عملاقًا سياسيًّا لكنه کسیح اقتصادي، ويمكن لكل من الدولتين أن تتكامل مع الأخرى.
ويصل إلى القول بأن على روسيا أن تكون مستعدة لإعادة منطقة كاليننغراد (بروسيا الشرقية سابقاً) إلى ألمانيا في سبيل تدعيم هذا التكامل، وبخاصة أن تلك المنطقة تمثل رمزًا إقليميًّا قد يؤدي إلى حرب يقتتل فيها الطرفان، ويستشهد بقول مأثور لبسمارك: «لا عدو لألمانيا في الشرق»، ويتمنى على الحكام الروس إقرار شعار مقابل وهو «ليس لروسيا في الأقاليم الغربية وفي وسط أوروبا إلا الأصدقاء» .
والمحور الثاني، هو محور موسكو-طوكيو، فالغرب يعتبر أن أكبر خطر تتعرض له الأطلسية هو قيام تحالف الأقاليم الثلاثة: أوروبا، وروسيا، والمحيط الهادي، ومن أجل منع ذلك أثيرت النزاعات الروسية-الألمانية والروسية-اليابانية عبر التاريخ، مثلما زرعت الكراهية والأحقاد المتبادلة التي يجب أن تزال الآن لإرساء محور موسكو-طوكيو، القادر لا على أن يضعف الأطلسية فحسب، بل على أن يقضي عليها.
ويرى أن الأمور ممهدة لتحقيق ذلك، فاليابانيون لن ينسوا الإبادة الذرية التي تعرضوا لها ولا الاحتلال السياسي لبلادهم، ولن تجد روسيا لنفسها حليفًا أفضل من اليابان، ويمكنهما معًا أن يحققا تكاملًا فريدًا يتوفر فيه لليابان الاستقلال السياسي والنظام العسكري الاستراتيجي والمواد الطبيعية التي لا تنتهي، كما تتوفر لروسيا التقنية العالية والإمكانات المالية الضخمة، ويمكنهما معًا تطوير سيبيريا وحل مشاكلها، كما يمكن للعلاقات المغولية-اليابانية القائمة على وحدة الأصل العرقي والروحي أن تلعب دورها في تحقيق هذا التقارب، وحرصًا على ذلك يمكن لروسيا أن تعيد لليابان جزر الكوريل التي تعد تذكيرًا بالمذابح الحمقاء التي اختلقها الأطلسيون .
والمحور الثالث، هو محور موسکو-طهران، ويرى فيه تحالفًا قاريًّا مهمًّا يقوم أيضًا على مبدأ وجود العدو الأطلسي المشترك، فالعالم الإسلامي يعاني من التوزع في عدة اتجاهات: الاتجاه الأصولي الإيراني، والتيار العلماني التركي، والتيار العروبي، والتيار الأصولي السعودي الوهابي، وبينما يسقط دوغين من حسابه التيارين الثاني والرابع، يقف عند تياري «الأصولية الإيرانية» و«العروبية»، ويشير إلى المكسب الثمين الذي تحققه الأوراسية من خلال محور موسكو-طهران وهو: تأمين خروج روسيا إلى البحار الدافئة، والذي ظلت تسعى إليه خلال قرون طويلة ويحال بينها وبين تحقيقه. ويشرح المؤلف حرص روسيا على بلوغ المياه الدافئة وحرص الأطلسيين على منعها من ذلك، سواء عن طريق الشواطئ الجنوبية للقارة عبر المحيط الهندي أو عن طريق مضيقي البوسفور والدردنيل أو حتى جبل طارق، تلك المناطق التي بقيت ردحًا طويلًا من الزمن تحت السيطرة الأطلسية.
أما النقطة الثانية فتتعلق بحل مشاكل آسيا الوسطى، وهو ما لا يمكن أن ينهض به التوجه السعودي حسب رأيه ولا التركي بسبب توجههما الأطلسي، كما لا يمكن أن ينهض به التيار العروبي لأن شعوب آسيا الوسطى تركية، فيتبقى التوجه الموالي لإيران والذي يمكنه استبعاد ما قد يحدث من تناقض بين القبول بروسيا وبين القناعة الدينية الإسلامية ويجعل منهما توجهًا جيوبوليتيكيًّا واحدًا نحو موسكو ونحو إيران في وقت واحد، وبهذا يمكن للمؤازرة الإيرانية أن تساعد روسيا على حل مشاكلها الجيوبوليتيكية مع دول آسيا الوسطى كما يمكنها من أن تقيم ذلك التشكل الإسلامي المتجانس استراتيجيًّا والمتلون من الناحيتين الإثنية والثقافية والمرتبط بالإمبراطورية الأوراسية .
كما أن بمقدور إيران أن تلعب دورها بالنسبة لنقطة أخرى مهمة تتعلق بالمصالح الروسية من خلال علاقتها مع العرقيات المسلمة في آسيا الوسطى، بينما لا تؤخذ مصالح تركيا في الحسبان سواء في القوقاز أو في آسيا الوسطى، بل إن المؤلف يلمح إلى مناصرة قوى انفصالية في تركيا، وفي الوقت نفسه يعرض على الأتراك إمكانية التمدد جنوبًا.
أما الخط العروبي فيشمل جزءًا من آسيا والشمال الأفريقي، وهو تكتل مهم من أجل السيطرة على الشواطئ الجنوبية الغربية لأوروبا الغربية، فقد بسط الأطلسيون سيطرتهم على الشرق الأدنى والشمال الأفريقي بغية فرض ضغطهم السياسي والاقتصادي على أوروبا، أما تطبيق تكاملية المشروع العروبي مع الإمبراطورية الأوراسية فدوغين يرى إسناد تنفيذه إلى القوى الأوروبية، خاصة ألمانيا، كما يرجح أن يعهد إلى القوى الأوروبية بمشاريع ما يسميه «أوروأفريقيا» التي تمثل قارة واحدة لا قارتين، ويوصي بتمدد النفوذ الأوروبي جنوبًا في القارة السمراء حتى تشمل القارة كلها.
وفيما تحت منطقة شمال أفريقيا يقترح وضع مشروع مفصل متعدد الإثنيات يعيد ترتيب أفريقيا السوداء وفقًا للعوامل العرقية والثقافية لا وفقًا للمقياس «ما بعد الاستعماري» المتناقض الذي تجسده الدول الأفريقية المعاصرة.
وبسبب خصوصية الصيغة الشيعية الآرية التي تحول دون تقبل العرب للنموذج الإيراني، يقترح دوغين أن يتطلع المشروع العروبي إلى إقامة تكتله المستقل المعادي للأطلسية، ثم يدعو إلى تكوين تكتل كبير من قوى ذات هويات مختلفة كالصين وأوروبا والتكتل الأفريقي وغيرهم، وتتضامن هذه القوى فيما بينها وفق مبدأ مناوأة النفوذ الأطلسي الأمريكي.
ثم يستعرض الجغرافيا الروسية ويتعرض إلى مناطق الضعف الجيوبوليتيكي في روسيا، فبسبب الاتساع الهائل تظل المناطق الطرفية عُرضة للانفصال عند ضعف المركز، ويتحدث عن المقومات الاقتصادية والعسكرية لروسيا.
الجيوبوليتيك الروسي وأوكرانيا
في الباب الخامس يتحدث عن الجنوب لا في حجمه الروسي بل الأوراسي الواسع، وبهذا يمتد من البلقان حتى منشوريا، وفي الحديث عنه تتداخل أمام أعيننا أعداد من المشاكل كمسألة أوكرانيا والبحر الأسود وبحر قزوين وآسيا الوسطى.
وتحت عنوان «مشكلة أوكرانيا ذات السيادة» يشرح دوغين النظرة الجيوبوليتيكية الروسية للمسألة الأوكرانية قائلًا بصراحة إن سيادة أوكرانيا تمثل بالنسبة للسياسة الروسية ظاهرة تبلغ سلبيتها درجة أنها يمكن من الناحية المبدئية أن تثير نزاعًا مسلحًا، وباستثناء شاطئ البحر الأسود من إسماعيل وحتى كيرتش تستقبل روسيا شريطًا ساحليًّا لا يعرف من صاحب السيادة الحقيقية فوقه، ويبلغ درجة من الطول تجعل وجوده نفسه في صورة دولة طبيعية ومستقلة أمرًا يبعث على الشك، وفق تعبير دوغين.
ويضيف أن البحر الأسود ليس تعويضًا عن الخروج إلى «البحار الدافئة» وتسقط أهميته الجيوبوليتيكية سقوطًا حادًّا بسبب السيادة الأطلسية الوطيدة على البوسفور والدردنيل، إلا أنه يمكِّن من حماية المناطق الوسطى على الأقل من توسع النفوذ التركي، إذ إنه حدود مريحة إلى أبعد الدرجات، ومأمونة وزهيدة التكاليف، لذا كان ظهور حالة جيوبوليتيكية جديدة على هذه الأراضي (وهي الدولة الأوكرانية المستقلة التي تسعى أيضًا إلى دخول حلف الناتو) يعد شذوذًا مطلقًا لا يمكن أن تؤدي إليه إلا خطوات غير مسئولة على الإطلاق من وجهة النظر الجيوبوليتيكية.
ويعتبر دوغين أن أوكرانيا كدولة مستقلة ذات مطامح ترابية معينة تمثل خطرًا داهمًا على الأوراسيا كلها، وبدون حل المشكلة الأوكرانية يغدو الحديث عن الجيوبوليتيكا القارية أمرًا عبثيًّا، ويستدرك قائلًا إن هذا لا يعني أنه ينبغي الحد من استقلال أوكرانيا الذاتي أو الثقافي-اللغوي أو الاقتصادي، وأنه يجب أن تصبح مجرد قطاع إداري للدولة المركزية الروسية (مثلما كان الأمر عليه إلى حد ما في الإمبراطورية القيصرية أو الاتحاد السوفيتي)، أي إنه يجب تحييد الخطر الأوكراني بأي سبيل، مثل أن تدخل في تحالف مع موسكو.
ويؤكد بالقول إن الثابت الأساسي المطلق للسياسة الروسية على سواحل البحر الأسود هو السيطرة الشاملة لموسكو على مجموع امتداد ذلك الشاطئ من الأراضي الأوكرانية وحتى الأراضي الأبخازية، مع الأخذ بالاعتبار الاستقلال العرقي والمذهبي لسكان القرم، والتتر والكازاخ والأبخازيين والجورجيين، على أن يتم ذلك كله بموازاة السيطرة المطلقة لروسيا على الوضع العسكري والسياسي، وهذه القطاعات يجب أن تبعد بصفة جذرية عن النفوذ الأطلسي من الغرب أو من تركيا واليونان، وأن يكون الشاطئ الشمالي للبحر الأسود أوراسيًّا ويخضع لموسكو.
وينتقل للحديث عن مجالات أبعد نحو الشرق مبينًا أن عودة روسيا إلى أفغانستان أمر ضروري لا مفر منه.
وإذا كان المؤلف قد تحدث عن الجانب الشرقي تحت عنوان «تحدي الشرق»، فقد تحدث عن الغرب تحت عنوان «تهديد الغرب»، وهو يفصل بين جهتين تمثلان الغرب؛ إحداهما أوروبا والآخر الغرب الأطلسي، ويدعو لبث الفوضى الجيوبوليتيكية في الولايات المتحدة عن طريق تشجيع الحركات والفئات المتطرفة التي تزعزع الاستقرار السياسي الداخلي في الولايات المتحدة، أما أوروبا، فعلى العكس من ذلك، يطالب بتشجيع توحيدها وإقامة تحالف باريس-برلين، لتخليص أوروبا من نفوذ الولايات المتحدة.
الجيوبوليتيك الأرثوذكسي
في الباب السادس يشرح ما يسميه «الجيوبوليتيك الأرثوذكسي»، ومن خلال ما يكاد يتحول إلى دراسة في المذاهب الدينية، يظهر تاريخ دول أوروبا الشرقية كبلغاريا ورومانيا ومولدافيا واليونان ودول يوغوسلافيا السابقة وبولندا، ويركز على الدور الكبير للدين كعامل تاريخي فاعل، ويستعرض صفحات من تاريخ هذه الدول الحديث، والأسس التي تبني عليها أحلامها التوسعية، كما في الحديث عن «بلغاريا الكبرى» و«رومانيا الكبرى» و«صربيا الكبرى» قبل أن يعصف المد الاستعماري الحديث بهذه الأحلام.
وتحت عنوان «المشاكل الجيوبوليتيكية في الخارج القريب» يناقش مسألة «النطاق الصحي»، فيحلل طبيعة هذه الدول وتموضعها في العادة بين «تشكيلين جيوبوليتيكيين كبيرين يمكن لاتحادهما أن يشكل منافسة خطيرة على الدولة المعنية»، ويتحدث عن أن الدول الغربية المستقلة عن الاتحاد السوفيتي ستختار وفق أقرب الاحتمالات، وبطريقة واعية دور «النطاق الصحي» لخدمة واشنطن، ويحذر من أن قبول نموذج العولمة يعني التدمير الكامل والنهائي لذاتيتهم، وهويتهم، ونهاية تاريخهم القومي.
يشير المؤلف إلى حدة الوضع المعاصر، فإما القبول بالنظام الكوني العالمي الجديد بقيادة الولايات المتحدة، وإما التكوين الفوري للتكتل الجيوبوليتيكي المناوئ للأطلسية، بغض النظر عن صيغة ذلك التكتل الأوراسي الجديد، لكن المهم أن يكون مضادًا للعولمة، فإذا استطاعت روسيا أن تنهض بتلك المهمة كان خيرًا فإذا لم تفلح في ذلك فلتقم بتنفيذها كتلة أوروبا الوسطى تحت الراية الألمانية أو كتلة آسيا الوسطى تحت راية الثورة الإسلامية، أو العالم العربي أو أمريكا اللاتينية على الرغم من أن هذين العالمين غير مزودين، من الناحية العسكرية، بما يؤهلهما لمواجهة دولة فوق عظمى كالولايات المتحدة.
كما يبحث «جيوبوليتيك النزاع اليوغوسلافي» في التسعينيات، ويتطرق للتكوينات العرقية والدينية المسيطرة على الساحة اليوغوسلافية وحقيقة التوازنات الإقليمية والتدخلات الأجنبية.
أما أبرز نتيجة يستخلصها المؤلف فيعبر عنها بقوله: «صربيا هي روسيا»، لأن سيناريو حرب قارية كبرى محتملة في روسيا يحدث في البلقان نتيجة تشابه الأوضاع بين روسيا ويوغوسلافيا، فالكروات والسلوفينيون الذين يطمحون إلى الدخول في أوروبا لهم نظائرهم الجيوبوليتيكيون من الأوكرانيين، والنزاع الصربي مع المسلمين شبيه بالمواجهة الروسية الإسلامية في آسيا الوسطى والقوقاز كما حدث في أزمة الشيشان، ويتساءل عن كيفية منع تكرار أزمات ومجازر يوغوسلافيا في روسيا.
مناقشة النظريات الجيوبوليتيكية الكلاسيكية
في الباب السابع يقدم قراءات تاريخية لكثير من المواضيع، ويتوقف عند الأفكار الجيوبوليتيكية للكاتب والاقتصادي الروسي، بيوتر نيكولايفتش سافيتسكي، التي تركز على التوجه الأوراسي؛ أي تدعيم علاقات روسيا بالشعوب والدول المحيطة بها، ويستعرض أفكار المفكر البلجيكي، جان تيريار، المتعلقة بتوحيد المنطقة من أقصى شرق آسيا إلى أقصى غرب أوروبا في دولة واحدة، وتقريره أنه لا يوجد أي وزن دولي لأمة يقل عدد سكانها عن 200 أو 300 مليون نسمة، ويناقش أسباب اختلاف بريطانيا عن بقية القوى الأوروبية ودورها المتضخم.
استمرار ثنائية البر والبحر
وفي الباب الأخير يعود لإلقاء الضوء على أفكار كارل شميدت، فيؤكد على ثنائية البر والبحر، وأن الملاحة الجوية وغزو الفضاء والتطور التكنولوجي لم ينتج عنها تبدلات شاملة في مسيرة التاريخ الإنساني كالتي جاء بها اكتشاف المحيط العالمي، وبذلك تبقى المنافسة محصورة بشكل رئيسي بين حضارتي البر والبحر، ولا يُنظر إلى تطور القوة الجوية والفضائية إلا بوصفهما مجرد تطور طبيعي للاستراتيجية البحرية، وليس بداية لمراحل ثورية جديدة في تاريخ الحضارة الإنسانية، وبالرغم من امتلاك الاتحاد السوفيتي أساطيل بحرية وجوية وفضائية فإن ذلك لم يغير من حقيقة كونه قوة برية قارية.
ويخوض في جدالات فلسفية حول طبيعة النار واليابسة والماء، ثم يخصص الصفحات الأخيرة لشرح معاني المصطلحات والمفاهيم الجيوبوليتيكية.
فيلسوف الحرب
اكتسبت آراء دوغين وكتاباته شهرة مضاعفة خلال الأزمة الأوكرانية، فاستيلاء موسكو على القرم عام 2014، والغزو الروسي لكييف العام الماضي واستماتة بوتين في الحرب حتى اليوم، كلها أمور يمكن تفسيرها بالرجوع إلى كتابات الرجل الذي يرى أنه لا يوجد سوى حل واحد لأزمة أوكرانيا وهو تقسيمها إلى قسمين، وبالفعل هذا هو الهدف الذي حققته الجيوش الروسية حتى الآن، والذي تحملت موسكو العقوبات الدولية وضحى عشرات الآلاف بأرواحهم في سبيل تحقيقه مصداقًا لنظريات دوغين.