حلب تحت الحكم العثماني: هكذا كانت المدينة
يُمثل الحديث عن تاريخ مدينة «حلب» رحلة طويلة في أعماق التاريخ السحيق، فهذه المدينة الهامة التي تعود جذور نشأتها إلى الألف الثالث قبل الميلاد تحوي فائضًا من التاريخ ما زال قائمًا إلى الآن عبر الشواهد الحضارية التي ترجع إلى الأحقاب والدول المختلفة التي مرت عليها.
استطاع المسلمون فتح المدينة عام 16 من الهجرة في عهد الخليفة عُمر بن الخطاب [رضي الله عنه]، ومن حينها تعاقب عليها مجموعة من الدول الإسلامية بدءًا من الحُكم الأموي والعباسي مرورًا بالحمدانيين الذين جعلوا منها إمارة مستقلة ومزدهرة، ثم العُبيدين فالسلاجقة وصولًا إلى المماليك الذين انتهى حُكمهم للمدينة مع دخول العُثمانيين إليها عام 1516 لتبدأ المدينة حقبة جديدة من عُمرها شهدت في معظمها ازدهارًا اقتصاديا وعمرانيًا واسعًا حتى سقوطها على يد قوات «الشريف حسين» بمساعدة الحلفاء في الحرب العالمية الأولى عام 1918.
ويهدف المقال إلى تسليط الأضواء على التطور العمراني الكبير للمدينة تحت الحُكم العثماني، مع توضيح موقعها الهام المميز بداخل خريطة الدولة والذي أثر بدوره على ازدهار المدينة.
مكانة «حلب» تحت الحكم العُثماني
استطاع العُثمانيون السيطرة على «حلب» عام 1516 بعد معركة «مرج دابق» بقيادة السلطان «سليم الأول»، ضد القوات المملوكية بقيادة السلطان «قانصوه الغوري» دون مقاومة من أهل المدينة، بل ساند أهل المدينة الجيش العثماني عند دخوله ووقفوا في صفه ضد القوات المملوكية. وعلى عكس ما هو مشهور عن الدول العربية أنها لاقت تدهورا و إهمالًا تحت الحكم العثماني افقدها رونقها، فقد مثَّلت «حلب» إحدى أكبر الأمثلة على التطور الاقتصادي والعمراني لمدينة عربية كانت تُعد واحدة من أهم مدن الدولة بإطلاق، ولا يقترب منها في المكانة إلا العاصمة إسطنبول والقاهرة.
عدة عوامل هامة لعبت مكانة كبيرة في تحول «حلب» لمدينة بارزة وكبيرة في العهد العثماني، أهمها يتمثل في تحول المدينة من مدينة حدودية في العهد المملوكي إلى مدينة في قلب دولة كبرى؛ مما يعني توفر سوق داخلية واسعة (العراق في الشرق، الأناضول في الشمال، بلاد الشام في الجنوب)، نجد كذلك الموقع الاستراتيجي الهام للمدينة كمربط لطرق التجارة الدولية بين الشرق (الهند وبلاد فارس)، والشمال (الأناضول)، والغرب (أوروپا)، والجنوب (فلسطين ومصر والحجاز) مع بروز أفضلية الطرق البرية مع الهند مقارنة مع الطرق البحرية التي أصبحت تعج بالقراصنة خلال القرن السادس عشر مما جعل المدينة مركز مهم في الطريق البري الممتد من الهند إلى شرق المتوسط.
تطور عمران المدينة عثمانيًا
شهدت المدينة تطورات وتحولات كبيرة خلال القرون الثلاثة التي تلت انضواءها تحت الراية العثمانية، توازت فيها التطورات الاقتصادية بجانب التطورات العمرانية بشكل جعلها مركزًا من مراكز الثقل الاقتصادي العثماني في ذروته، بجانب إسطنبول والقاهرة. وإذا تقدمنا للحديث أولًا بشكل شديد الإيجاز عن التطورات الاقتصادية للمدينة في القرن الــ 16، أعظم قرون الدولة العثمانية، فنجد أنها قامت على المصادر الرئيسية للدخل المُتمثلة في حجم النشاط الكبير لدور ضرب النقود من ذهب وفضة ونحاس، بالإضافة إلى تجارة الأغنام والحرير والعبيد، وفاقت ضريبة الحرير كل مصادر الدخل في الولاية في القرن السادس عشر فترة حكم السلطان «سليم الثاني»، فقد كانت «حلب» بجانب إسطنبول وبورصة واحدة من المراكز الأساسية للحرير الإيراني، وأكثر المراكز في الدولة المصدرة لأوروپا. برزت المدينة أيضًا في نفس القرن كسوق ضخمة للسلع «الهندية» مثل الأنسجة والتوابل والأصبغة.
وبناء على الأهمية الاقتصادية والسياسية للكبيرة للمدينة قامت البندقية بنقل قنصليتها في عام 1545 من «دمشق» إلى «طرابلس الشام» ومن ثم إلى «حلب» عام 1548م، كما تواجد هنالك تمثيل قنصلي فرنسي عام 1562م، وتمثيل إنجليزي عام 1583م، وتمثيل هولندي عام 1613م بالإضافة إلى مكاتب تجارية لهذه البلدان الثلاثة.
أما التطور العمراني، فقد تمثَّل إجمالًا في مساحة رقعة العمران للمدينة؛ فقد زادت هذه المساحة عن الضعف من حجمها الأصلي وقت الدخول العثماني، فمساحتها وقت الدخول عام 1516م، كانت تُقدر بحوالي 238 هكتارًا(*) تقريبًا، ومع الازدياد في التوسع وصلت هذه المساحة إلى 367 هكتارًا مطلع القرن التاسع عشر الأمر الذي يأخذنا إلى الحديث بشكل أكثر تفصيلًا عن العمائر الكثيرة التي أدت إلى هذا التوسع العمراني الكبير، فقد تضاعفت مساحة مركز ولاية «حلب» الذي كان يعرف لدى السكان باسم «المدينة» في أقل من نصف قرن باتجاه الغرب بفضل أربعة مجمعات وقفية لولاة «حلب»، فبنى الوالي «خسرو پاشا» عام 1544 والوالي «محمد پاشا دو كاجيني» عام 1555 والوالي «محمد پاشا» عام 1574 والوالي «بهرام پاشا» عام 1583 مئات من المحلات التجارية والخانات والقيساريات التي مازال بعضها قائمًا وشهيرًا إلى الآن، مثل خان الشونة، خان الجمرك، خان الوزير [في القرن السابع عشر] فازدادت مساحة مركز الولاية من خمسة هكتارات مطلع القرن السادس عشر إلى أكثر من عشر هكتارات قبل أن يمر نصف قرن على حركة التعمير الكبيرة هذه، وأصبحت الأسواق المغطاة في المدينة من أكبر الأسواق في الدولة بكاملها.
وبالإضافة إلى البيوت الجميلة والقصور الفخمة التي تدل على غنى المدينة، نجد انتشارًا للعمائر الدينية المتمثلة في الجوامع والمساجد التي زينت سماء «حلب» أكثر مما في دمشق والقاهرة بالمآذن العثمانية الجميلة التي تنتهي برأس مُدبب كالقلم الرصاص إلى جانب قباب نصف دائرية راسخة، هذه المميزات العمرانية العثمانية الواضحة اتسمت بها المدينة عن غيرها من المدن العربية بسبب القرب النسبي لها من عاصمة الدولة، بالإضافة إلى اﻷهمية السياسية للولاية بشكل عام داخل إطار الدولة، فكان أول المجمعات الكبيرة التي خططها المعمار الشهير «سنان»، هو جامع ومدرسة وتكية «الخسروية» عام 1546 [نسبة إلى خسرو پاشا حاكم الولاية] بالإضافة إلى الكثير من الجوامع والمدارس الأخرى مثل جامع بهرام پاشا، والمدرسة الأحمدية، والمدرسة الشعبانية، ومدرسة عثمان پاشا. وقد اجتمعت هذه العمائر بأشكالها الجميلة بالإضافة إلى اتساع المدينة ونظافتها لتشكل سببًا من أسباب إعجاب الرحالة الأورپيين بالمدينة، ومقارنتها بمدنهم الكبرى مثل لندن وباريس.
جامع الخسروية الذي بناه المهندس العثماني الكبير سنان عام 1546 قبل أن يُدمر في أحداث الثورة السورية عام 2014م (المصدر: CC BY-SA 3.0- Preacher lad)
«حلب» بأعين الرحّالة والمستشرقين
أما إذا قمنا بالاعتماد على مذكرات ورحلات الرحالة والمستشرقين الأجانب ،فسنجد فيها وصفا يَمُدنا بمعلومات عن المدينة وعدد سكانها وعدد عمائرها في هذه الفترة، وسيكون من الجيد أن نقتبس من عباراتهم ما يفيدنا في مقام توضيح شكل المدينة، ونبدأ بالحديث مع الرحالة الفرنسي «جان باتيست تاڤرنييه» الذي زار حلب عام 1638 فيذكر في رحلته وصف عام للمدينة بأنها «واحدة من أشهر المدن التركية، سواء لاتساعها وبهائها، أو لطيب هوائها المصحوب بالوفرة في كل ما يخطر بالبال، وكذلك نظرًا للحركة التجارية العظيمة التي تتداولها جميع شعوب الأرض التي تؤمَّها» أما شكل المباني والعمائر والبيوت فيقول بأن المباني «سواء العمومية منها أو الخصوصية، فليست تتسم بالرّونق إلا في داخلها، ففي الداخل تجد الجدران المكسوة بالرخام الملون، والتلبيسات الخشبية المزوّقة بتعريقات نباتية وبخطوط منقوشة بالذهب. وفي المدينة بما في ذلك باطنها وظاهرها قرابة مائة وعشرين مسجدًا، من بينها ستة أو سبعة تتميز بقدر واف من البهاء ولها قباب حسنة، ومن بينها ثلاث قباب مكسوّة بالرصاص». أما حديثه عن الخانات والحمامات وعدد السكان فيقول: «دروب المدينة مرصوفة جميعها .. وفي المدينة وأرباضها مجتمعة قرابة الأربعين خانًا، وخمسين حمامًا للرجال والنساء .. وضواحي المدينة كبيرة ومأهولة بالسكان وجميع مسيحي البلد تقريبًا يعيشون في هذه الضواحي ولهم فيها كنائس وبيوت … ويبلغ المجموع العام لسكان «حلب» بما في ذلك المدينة والأرباض قرابة مئتين وخمسين ألف نسمة».
وبالتعريج على شهادة أخرى من الشهادات الهامة في وصف المدينة، فإننا ننتقل إلى حديث تجاوز القرن من شهادة الرحالة السابق «جان باتيست تاڤرنييه»، وهي شهادة الرحالة والمستشرق والسياسي الفرنسي «ڤولني» الذي يصف المدينة في زيارته لها عام 1785م، بأنها «إحدى أجمل مدن سوريا، بل ربما تكون أنظف مدينة في الإمبراطورية كلها وأكثرها تشييدًا. إننا حين نصل إليها من أي اتجاه نجد حشدًا من المآذن والقباب البيضاء التي تمتع العين المرهقة من السهل الداكن والممل».
«حلب» في القرن التاسع عشر
وإذا استكملنا الحديث عن تعمير حلب في القرن التاسع عشر، نذكر أن المدينة تعرضت عام 1822م، إلى زلزال ضخم دمّر جزءًا كبيرًا من مبانيها، أتبعه بعد عدة سنوات في عام 1832م دخول حملة «إبراهيم پاشا» ابن «محمد علي پاشا» والي «مصر» إلى «الشام» وسيطرته على المدينة حتى استطاعت الدولة العثمانية استرداد المدينة مرة أخرى منه عام 1840م من ضمن ما استردته من أملاكها في الشام، وقد ضمت هذه الفترة إصلاحات واسعة في الولاية تضمنت التجنيد في الجيش الجديد ونظام ضريبي جديد وإعطاء المزيد من الحرية لغير المسلمين.
وبإعلان فرمان التنظيمات عام 1839م، انتقلت الدولة العثمانية إلى مرحلة جديدة من تاريخها تَغيرت فيها سياسات الدولة من نواحٍ كثيرة، منها تدخلها بشكل مباشر في تنظيم التعليم والصحة ومشاركة الوزراء ورجال الدولة للسلطان في رسم سياسات الحُكم بصورة أكبر، الأمر الذي انعكس على توسعة حركة العُمران وتشييد المباني ذات الأغراض المختلفة بولايات ومدن الدولة ومنها حلب. وقد مارست الإدارة العثمانية عملية تطوير وتحديث للولاية بشكل كبير خاصة بعد انتهاء السيطرة المصرية عليها، فظهرت أحياء جديدة في المدينة وأُتبعت ببناء شبكة من الشوارع المستقيمة والمتعامدة مثل «شارع الخندق» كذلك وشارع «باب الفرج» وأحياء مثل «حي العزيزية» و«حي الجميلية» كما زُرعت الأشجار على أطراف الشوارع الأكثر أهمية والأكثر عَرضًا.
أما بالنسبة إلى العمائر الجديدة التي ظهرت في المدينة فقد بنى اليسوعيون مجمعًا واسعًأ بين العامين 1879 و 1880 ضم كنيسة ودير ومدرسة في حي يسكنه خليط من المسيحين والمسلمين في الضاحية الشمالية، تم كذلك في عام 1897 الانتهاء من بناء مستشفى الغُرباء الحميدي [نسبة إلى السلطان عبد الحميد الثاني]. تم كذلك تشييد مبنى المكتب الإعدادي [ثانوية المأمون الحالية] عام 1892، وبناء «برج الساعة» بباب الفرج بتبرعات مشتركة من الأهالي وصندوق البلدة عام 1899 وهو من علامات المدينة المميزة، كذلك وصول خط «سكة حديد بغداد» إلى المدينة لربط إسطنبول ببغداد فكان يمر بالمدينة.
أما بالنسبة للطرق فتم تحديث طريق الربط بين الإسكندرونة و«حلب» عام 1880، كذلك الطرق بين «حلب» وبغداد و«حلب» وأورفة والموصل، كما تم في عام 1905 الانتهاء من الخط الحديدي الذي يربط «حلب» ببيروت.
خرجت المدينة من تحت السيطرة العثمانية لتدخلها قوات «الشريف حسين» بمساعدة الحلفاء في الحرب العالمية الأولى عام 1918، تبعه في عام 1920 الاحتلال الفرنسي للمدينة لتُطوى حقبة مزدهرة من أحقاب المدينة دامت لمدة أربعة قرون.
(*)100 هكتار يعادل ما مساحته 1 كيلو متر مربع.
- التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للدولة العثمانية (المجلد الأول [1300-1600])، تحرير خليل إينالجيك بالتعاون مع دونالد كواترت، ترجمة عبد اللطيف الحارس، دار المدار الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 2007.
- الوقف في العالم الإسلامي ما بين الماضي والحاضر، محمد م. الأرناؤوط، جداول للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 2011.
- رحلات في بر الشام في القرن السابع عشر الميلادي، نصوص مُنتقاة لمجموعة من الرحالين الأوروپيين، ترجمة وتعليق أحمد إيبش، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، أبو ظبي، الطبعة الأولى، 2012.
- «حلب» مدينة التاريخ، جان كلود دافيد و محمود حريتاني، شعاع للنشر والعلوم، «حلب»، الطبعة الأولى، 2011.
- المدن العربية الكبرى في العصر العثماني، أندريه ريمون، ترجمة لطيف فرج، القاهرة، الطبعة الأولى، 1991.