الديسثيميا: هل يمكن التعايش مع الاكتئاب لسنوات؟
لا يستطيع أن يتذكَّر متى كانت آخر مرة كان فيها بأفضل حال. لعلَّ هذا كان قبل بضع سنوات، في بواكير دراسته الجامعية. لا يدري كيف حدث هذا التحول الكبير في شخصيته وحياته، لينقلب من شخصٍ مرح يملأ الأجواء بهجةً ونشاطًا، ويلفت الأنظار بسرعة بديهته في إطلاق النكات وانتزاع الضحكات، إلى شخص شبه انطوائي، لا يسعى إلى لقاء أصحابه ومعارفه إلا لمامًا، ويسارع الجميع باتهامه بأنه شخص كئيب، وعدو للفرحة ! أما هواياته التي درج على حبها منذ طفولته مثل كرة القدم والقراءة والرحلات، فلم يعُد مقبلًا عليها، وفقد الشغف بها بشكل مريب.
حتى الأجواء الرمضانية التي كان ينتظرها من عام لآخر فقدت الكثير من سحرها، ولم تعد قادرةً على إعادة بوصلة مشاعره إلى الاتجاه الذي يريد. بالإضافة إلى ما سبق، فقد زاد وزنه بشكل ملحوظ، حيث أصبح يجد في الوجبات السريعة عالية السعرات سلوانًا عن اعتلال مزاجه، وإن كان لهذا آثار عكسية مريرة؛ إذ فتح عليه جحيمًا من جلد الذات، واتهام النفس بالعجز عن السيطرة، لا سيَّما وأن زيادة الوزن جعلته أكثر كسلًا وأقل نشاطًا وانطلاقًا.
أصبح يستيقظ من نومه المتعكر بالصراع مع الأرق كأنه لم يذق طعم النوم والراحة قط، وأظلمَ الإرهاقُ تقاسيمَ وجهه، وخطوات قدمه، في رابعة النهار. وأصبح الذهاب إلى عمله الروتيني، والحفاظ على الحد الأدنى من واجباته المهنية، مهمة شاقة، تتطلب صراعًا يوميًّا متجددًا مع نفسه.
الاكتئاب المزمن Dysthymia
هل يمكن أنْ يتحمل الإنسان الإصابة بمرض الاكتئاب لعدة أشهر؟ في لحظة كتابة هذه الكلمات، هناك عشرات الملايين من البشر يعانون من الاكتئاب المزمن الذي يستمر لسنوات وليس فقط مجرد أشهر، والذي كان يحمل باللاتينية اسم الـ dysthymia أو الديسثيميا، والذي أصبحت المراجع الطبية النفسية الأحدث تستخدم بدلًا منه اسم (اضطراب الاكتئاب المتطاول) أو (الاكتئاب المزمن).
والاكتئاب المزمن في العموم أقل وطأةً من نوبات الاكتئاب الشديد الحاد، لكنه يستمر لوقت طويل، حيث تطول حالة الاكتئاب المزمن في معظم الأحيان لأكثر من عامين، تتباين خلالها شدة الأعراض صعودًا وهبوطًا، ويمكن أن يتخللها فترات من التعافي لكنها لا تتجاوز الشهرين في غالبية الحالات، وقد يمر المريض بنوبات من الاكتئاب الشديد الحاد، وفي هذه الحالات يسمى بالاكتئاب المزدوج، وهو أشد ما يصل إليه الاكتئاب المزمن.
واحتمالات إصابة السيدات بالاكتئاب المزمن ضعف احتمالات إصابة الرجال، ويمكن أن تبدأ الإصابة في فترة الطفولة المتأخرة أو المراهقة، ويمكن أن تظهر لاحقًا في العمر. وتقدر الإحصائيات في الولايات المتحدة الأمريكية أن نسبة المصابين بالاكتئاب المزمن تبلغ 1.5%، وهو ما يقترب من 5 ملايين أمريكي.
ما أعراض الاكتئاب المزمن؟
في صدر هذا المقال، ذكرنا نموذجًا حياتيًّا واقعيًّا لحالة مصابة بالاكتئاب المزمن. ويظهر من الوصف القصصي أبرز الأعراض وهي:
- فقدان الشغف والاستمتاع بالعادات والهوايات التي درجَ المريض على حبها والاستمتاع بها.
- الميل الدائم إلى الحزن والشجن، وكذلك السقوط بسهولة في فخ الإحباط والقنوط، واليأس من تحسن الحالة في يوم من الأيام.
- تدنِّي تقدير الذات، وجلد مستمر لها، واتهامها المستمر بالتقصير.
- اضطرابات في الشهية، إما بفقدانها، أو بالشراهة. حسب كل مريض وتفرُّد حالته واستجابته.
- اضطرابات في النوم، خصوصًا الأرق، والاستيقاط قبل الأوان. وفي حالات أخرى النوم لفترات أطول كوسيلة لا-واعية لتجنب مواجهة الاكتئاب وتبعاته في الحياة اليومية.
- الميل للانعزالية.
- الميل لردود الأفعال الحادة.
- الإجهاد السريع، وانخفاض الطاقة والعزم للقيام بمختلف أنواع الأنشطة.
- نقص الكفاءة في العمل والمهام اليومية.
اقرأ: متلازمة الإجهاد المزمن .. كيف نتغلب على مرض العصر؟
وبالطبع لا يُشترط أن تتجمع كل تلك الأعراض وبنفس الدرجة في كل مريض، إنما يكون لكل مريض نصيبه منها وفقًا لعوامل فردية، واختلافات في الشخصيات، وتباين في الاستجابة النفسية لحالة الاكتئاب. وتكون الأعراض في الأطفال أكثر خفاءً، حيث يصعب على غالبية الأطفال التعبير عن مشاعرهم بعبارات واضحة، لكن أوضح الأعراض لدى الأطفال تكون اعتلال المزاج والبكاء المتكرر بدون أسباب، والاضطراب وحدة الطباع.
ما أسباب الإصابة بالاكتئاب المزمن؟
حتى الآن لم نصل إلى أدلة علمية قاطعة عن السبب المباشر للإصابة بالاكتئاب عمومًا، وبالاكتئاب المزمن كذلك، وما تزال الأبحاث العلمية تركز على تلك القضية، لأن جهود الوقاية والعلاج الفعَّال لأية ظاهرة مرضية، لا بد أن تنطلق من أرضية الأسباب الحقيقية لحدوثها.
ووفق ما نملكه من أدلة حتى الآن، فالأسباب المحتملة وعوامل الخطر للإصابة بالاكتئاب المزمن هي:
- اختلافات حيوية في بنية المخ وموصِّلاته العصبية، تجعل بعض الأشخاص أكثر عرضةً من غيرهم للإصابة بالاكتئاب.
- عوامل وراثية محتملة، حيث لوحظ أن أفراد العائلات المتمضمنة لأفراد مصابين بالاكتئاب، أكثر عرضة للإصابة هم أيضًا.
- التعرض لصدمات حياتية عنيفة، مثل حادث أليم، أو فقد لأحد الوالدين أو الأحباب، أو التعرض لاعتداء جسدي أو جنسي … إلخ.
- بيئة أسرية غير سوية ومتفككة.
- بعض أنماط التدين التي تعزِّز جلد الذات واحتقارها، والمبالغة في اتهامها باللوم والتقصير.
- الشخصيات التي تميل للتشاؤم والنظرة السلبية للأمور.
هل يمكن علاج الاكتئاب المزمن؟
بالطبع يمكن علاجه، لكن تحتاج رحلة العلاج إلى الكثير من الصبر والدعم النفسي، فما يستغرق حدوثه وتطوره شهورًا وسنين لن يُقضى عليه في أيام أو أسابيع معدودات.
وهناك مساران متكاملان يجب خوضهما في رحلة التعافي من الاكتئاب المزمن، وهما العلاجات الدوائية بمضادات الاكتئاب، وجلسات المعالجة النفسية التي تتضمن أوقاتًا كافية من الحديث مع المريض والاستماع له.
اقرأ: أكتئب فآكل أكثر فأكتئب وآكل مجددًا .. ما حل هذه الدوامة؟
بالنظر إلى العلاجات الدوائية، فتُختار من بين العقارات المنتسبة لأشهر مجموعتين دوائيتين لمضادات الاكتئاب وهما: مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية SSRIs، ومثبطات إعادة امتصاص السيروتونين والنور-أدرينالين الانتقائية SNRIs، وفقًا لتقدير الطبيب النفسي المعالج، تبعًا لظروف كل حالة، وشدة أعراضها، وكذلك تفصيلات المريض فيما يتعلق بالآثار الجانبية التي يمكنه تحملها.
ويجب التأكيد على أن مضادات الاكتئاب هي أدوية طويلة المدى، قد تحتاج إلى أشهر متواصلة من الالتزام، ورفع الجرعات تدريجيًّا بإشراف الطبيب، للوصول إلى التأثير العلاجي المطلوب، وتتباين الاستجابة لها من شخص لآخر وفق شدة وطول المدة الزمنية للإصابة، وتبعًا لاختلافات فردية لا يمكن تفسيرها بشكل قاطع. وفي أحيان كثيرة، يضطر الطبيب إلى استبدال عقار بآخر، للوصول إلى أنسب الأدوية لحالة كل مريض. وهنا نؤكد مرارًا وتكرارًا على أهمية الصبر، والتواصي بالصبر، في رحلة السيطرة أولًا على الاكتئاب والتعايش معه، ثم التعافي التام منه.
أما مدة تعاطي مضادات الاكتئاب، فليس لها قاعدة واحدة، فهناك اختلافات واسعة من حالة لأخرى، وقد يضطر الطبيب إلى وصف مضادات الاكتئاب لبعض المرضى طوال العمر لضمان بقاء الاكتئاب المزمن تحت السيطرة، بينما في مرضى آخرين يحدث تحسن سريع، وتغير إيجابي جذري في طريقة التفكير والتفاعل مع الذات والأفكار والمحيط، وفي نمط الحياة كذلك، فتنتفي الحاجة لمواصلة مضادات الاكتئاب. ومن الضروري ألا يتوقف المريض فجأة عن تعاطي مضاد الاكتئاب، إلا بعد الرجوع للطبيب، تجنبًا للإصابة بانتكاسات حادة في رحلة العلاج.
اقرأ: أشهر 8 خرافات حول الأدوية النفسية.
أما جلسات العلاج النفسي، فهي حجز الزاوية في التخلص من الاكتئاب المزمن، فمن خلالها يتمكَّن المعالج النفسي من استيعاب أفكار المريض بشكل جيد، والتعرف على نقاط الضعف في شخصيته وأنماط تفكيره، وفي تفاعلاته الأسرية والمجتمعية، والتي تنفذ من خلالها الأفكار السلبية التي تعزز الاكتئاب، ويبدأ في توجيهه بشكل علمي وذكي لكيفية التغلب على تلك الأفكار السلبية، وتنمية مهارات تساعد في الاستشفاء من الاكتئاب، وتوجيه النصيحة السديدة فيما يخص أنماط الحياة الصحية، وبناء السلوكيات الإيجابية، وكيفية تجاوز الصدمات الحياتية والإحباطات النفسية والعاطفية.
ومن أشهر برامج العلاج النفسي المفيدة لمرضى الاكتئاب، العلاج المعرفي السلوكي CBT، والعلاج السلوكي الجدلي DBT.
هل يمكن تجنب الإصابة بالاكتئاب المزمن ومضاعفاته؟
لعلَّ هذا هو أصعب الأسئلة في كامل الموضوع، وأكثرها إثارة للجدل. فتعذر الوصول بأدلة علمية قوية لأسباب قاطعة تفسر حدوث الاكتئاب، يجعل جهود الوقاية أكثر ضبابية. لكن رءوس الأقلام التي يمكن التركيز عليها في قضية الوقاية هي:
- زيادة الوعي العام بالأمراض النفسية وأعراضها، والتشخيص المبكر لها، مع طلب الاستشارة النفسية مبكرًا.
- التدين الإيجابي الذي يجعل الإنسان أكثر اتساقًا وتصالحًا مع نفسه، يساهم في تقوية المناعة النفسية ضد الاكتئاب، وفي التغلب على جلد الذات والإحباط والقنوط.
- الحفاظ على حد أدنى من الهوايات والأنشطة المعتادة، ومحاولة تنظيم اليوم بشكل فعال، مع إعطاء مساحات متوازنة وكافية للنوم، وللاسترخاء النفسي والذهني.
- تنظيم الأهداف الحياتية، وترشيد الطموحات بما يتناسب مع إمكانيات المرء وقدراته المتاحة. (لا يُكلِّفُ الله نفسًا إلا وُسعَها).
- وجود دعم أسري وبيئة متفهمة.
- مقاومة دوافع العزلة، ومحاولة التواجد مع صحبة إيجابية لأوقات أطول.