«ألبرت حوراني»: جولة في ظلال الفكر العربي
يمكننا أن نعتبر هذه الجملة براعة استهلال من نوع خاص، فكتاب يدعي كاتبه أنه محاولة للتأريخ للأفكار الأساسية التي حكمت العقل العربي الجمعي في فترة محددة، حرى به أن يبدأ أول فصوله عن العرب الأوائل بهذه العبارة. فاللغة فى المخيال العربي الأول ليست بالشيء الذي يستدل على أهميته أصلاً، فهي علمهم الضروري ومعجزتهم الأكبر وثروتهم النفيسة.
ولما كان الإسلام مؤيدًا لهذه النزعة، انبثقت من العربية كافة علومه، ودارت حولها، فالقول بأن العربية كلسان ولغة وممارسة وطريقة تفكير قد أسست دولة وأقامت حكماً وشكلت قومية، قول سديد في محله تماماً، ينم عن فهم دقيق للمجتمع العربي – والإسلامي بعد ذلك – ذلك الفهم الذي هو مستعص على كثير من أبناء هذه الثقافة الآن.
فى كتابه «الفكر العربي في عصر النهضة»، يحاول «ألبرت حوراني» وهو الباحث والمستشرق الإنجليزي من أصل لبناني، نسج نوع مختلف من التأريخ، وهو التأريخ للأفكار، ومتابعة تطور الأفكار الحاكمة للمجتمع العربي والإسلامي وكيف تشكلت وتقاربت ثم افترقت.
والوصول إلى فكرة مركزية حاكمة والدوران حولها في تأريخ كهذا كانت مهمة عسيرة، خاصة مع التأرجح العنيف الذي شهدته المنطقة العربية في أفكارها ومعتقداتها يوم تلقحت بأفكار عصر النهضة والحداثة الغربية وأنجبت جسدا فكريا جديدا على المنطقة.
لذا فهذه القراءة في الكتاب إنما هي محاولة للوقوف على أفكاره الرئيسة، دون المرور على كافة محطاته، إذ إنه يحوي من الأفكار المهمة ما يحتاج كل منها لدراسة منفصلة.
الخلافة.. من الوجوب العقدي للمصلحة
إن المسافة التي قطعتها الأمة بين مقولة «وجوب نصب الإمام وجوباً عقدياً» ومقولة «ابن خلدون» «فالدولة المهتدية بالشريعة المنزلة هي لا شك على أرفع المراتب. لكن الخلافة ليست من عقائد الإيمان، إنما هي على الحد الأقصى شأن من شؤون المصلحة العامة والتنظيم الاجتماعي»، تمثل التاريخ الإسلامي بكل ما شمله من نقاط صعود وهبوط حتى القرن الثامن الهجري، وبالقلب من حركة هذا التاريخ سؤال الحكم والخلافة.
فقد شهدت العصور الإسلامية المختلفة محاولات شتى للجواب على سؤال الحكم، كل محاولة منها كانت بنت عصرها وظروفه التاريخية الفريدة. فالنقطة التي اعتبرت عندها الخلافة مسألة عقائدية هي ذاتها النقطة التي بدأ فيها افتراق الأمة على فرق لم تتحد لليوم، وبالقلب من أسباب هذه الفرقة كان سؤال الخلافة.
حاول الماوردي، يوم كانت السلطة في دور الانتقال، أن يرد على هذا السؤال بالقول إنه للخليفة أن يفوض سلطته فى إقليم بعيد من أقاليم الإمبراطورية إلى قائد عسكري «أمير» وفي وسطها إلى «وزير تفويض» وإن هذا التفويض قد يتم اختياراً كما قد يتم اضطراراً في حالة الفتح أو ظروف أخرى وبهذا يصان الأساس الشرعي والخلقي للحكم، فيخرج من الفساد للصحة ومن الحظر إلى الإباحة.
لكن كان على الأمير مقابل ذلك أن يعترف بوجوب الخلافة ويظهر الطاعة والورع ويحافظ على الشريعة ويطبق أصولها المالية، وفضلاً عن ذلك، فقد كان عليه ألا يحكم إلا نيابة عن الخليفة الذي يبقى محتفظاً بوظائفه السياسية والإدارية حتى ولو لم يمارسها .
هكذا يصف «حوراني» محاولة الماوردي إيجاد أساس شرعي للحكم في عصره بعدما ساد هذا النمط من الحكم الأمة، ويرى أن السؤال في هذه المرحلة قد انتقل من السؤال عن مصدر السلطة» إلى السؤال عن «كيفية ممارستها». لهذا كان من المنطقي أن يصل «ابن خلدون» لعبارته، أن الخلافة ليست من أصول الدين، بل هي من مقتضيات تحقيق المصلحة، ليكون التطور الأكثر منطقية بعد ذلك هو الوصول إلى عدم الحاجة للخليفة أصلاً.
الخلافة العثمانية: محاولات إحياء «العجوز المريض»
صحيح أن الدول العثمانية ورثت ذلك الزخم الحضاري للدول الإسلامية عبر العصور، إلا أن إدعاء أنها ورثت الخلافة الإسلامية لم يكن قائماً وإن كان هذا لم يعنِ بشكل من الأشكال شق عصا الطاعة للحكم العثماني، فشرعيته مكتسبة من كونها الدولة الإمبراطورية التي تشمل تطبيق الشريعة كأساس للحكم .
على هذا كان النمط الذي قامت عليه الدولة العثمانية مؤذنا بانهيارها بعد حين، فالتمييز الحاد للعسكر على حساب الرعية، واتساع سلطة العسكر الإنكشارية وحيازتهم إقطاعات وثروات هائلة قلب السحر على الساحر.
وبمرور زمن السلاطين العظماء بات الإنكشارية شوكة فى حلق الدولة، فلا هم يحمونها ولا يمكنها أن تقيم جيشًا آخر في وجودهم، وأطراف الدولة العثمانية آخذة فى الانهيار والتفتت، إما بشكل ظاهري بشيوع نظم الحكم المستقل، أو حقيقي بخروج مناطق من تحت الحكم العثماني، كما حدث في ثورة «اليونان »وهزيمة الجيش العثماني هناك.
وهنا تحديداً تمكن السلطان محمود من انتهاز الفرصة فحل جيش «الإنكشارية» وجمد اقطاعاتهم عام 1826م، تلى ذلك محاولة السلطان عبد الحميد الإصلاحية، عبر إصدار القرار الإصلاحي الأول المعروف بـ«جلهانة».
يلحظ من هذا القرار تطورات أساسية في الإجابة عن سؤال تطبيق الحكم، هي في لغة الخطاب التي شملت الحديث عن الرعايا المسيحيين باعتبارهم مواطنين في الإمبراطورية متساوين مع غيرهم في الحقوق، ثم الحديث عن نظام قانوني موحد للضرائب وعن تجنيد قانوني.
بموجب هذا القرار و«تنظيمات» السلطان عبد الحميد التي تبعته تحولت السلطنة العثمانية من دولة إسلامية إلى سلطنة جميع الرعايا فيها على قدم المساواة، وصولاً بهذه الإصلاحات إلى إصدار تونس «القانون الأساسي» كأول دستور تقره دولة إسلامية.
الجيل الأول.. ما بعد الصدمة
كانت بعثات «محمد علي» لأوروبا مصدرا رئيسا لنقل الحضارة الأوروبية الحديثة للشرق، فأفرزت لنا فكرا جديدا في طور جديد من أطوار محاولة الخروج من أزمة الأمة الإسلامية والدخول في عالم الحداثة. من أهم هؤلاء المتصدرين للفكر من خلفية صدمة البعثات العلمية كان «رفاعة الطهطاوي»، كان سؤال الطهطاوي الأساسي هو «كيف يدخل الشرق الأدنى عصر الحداثة والتقدم دون التخلي عن الدين؟».
فتبنى مقولة أساسية، وهي عدم وجود تناقض بين الفكر الأوروبي والإسلام، وإن كان الإسلام هو الأساس فهو يحوي بداخله مبادئ الحداثة الأوروبية، طبعاً مع وجود العديد من التحفظات على مظاهر الحياة الأوروبية الحديثة التي كانت يجب أن تخرج من شيخ أزهري بالأصالة.
أما في تركيا وتونس من قبلهما، كان «خير الدين باشا» الذي كرس إجابته عن هذا السؤال، بالتمحور حول سؤال الحكم، فكانت ملخص نظرته للسبيل الذى تخرج به الأمة مما هي فيه، هو تقييد الحاكم، أما عن العلاقة بين العالم الإسلامي وأوروبا الحديثة فهو يرى أن المؤسسات الأوروبية السياسية الحديثة هي من المطالب الشرعية كوجود برلمان ووزارات وقوانين واضحة.
لكن حركة خير الدين باشا كانت لا بد أن تنطوي على بعد قومي إسلامي، فالرجل الذي كانت بداية حياته العامة في تونس، ثم وصل إلى أن تولى منصب «الصدر الأعلى » في الدولة العثمانية، لا يسعه إلا أن ينظر للأمة الإسلامية باعتبارها جسدا واحدا .
وبداخل هذا الجسد، كان يعيش عدد ليس بقليل من المسيحيين، بدأ يتشكل لهم وعي ذاتي خاصة في بلاد كسوريا ومصر، وتشكلت لهم رؤية إصلاحية خاصة يحددون بها موقعهم في الشرق الذي يخوض مخاض التحديث، من بين هؤلاء «بطرس البستاني» في سوريا .
يشابه البستاني الطهطاوي في اتخاذهما التربية كركن أساس في مشروعيهما، والبستاني بموجب ديانته المسيحية لن يبنى نظرته للوطن والقومية بمعزل عن جسد الأمة الإسلامية، فهو يرى انتماء مسيحيي الشرق لجسد أمة واحدة، لكن يجب أن يتساوى فيها أصحاب الديانات المختلفة.
وكغالبية مثقفي سوريا تكون اللغة العربية بالقلب من برنامجهم الإصلاحي، فبالرغم من أن البستاني ركز دعوته على فهم العلوم الغربية التجريبية بل وتبنى ما وراءها من عقلانية ومنطقية، إلا أنه يرى أن العربية لا يجب أن تنحسر كلغة فن وأدب بل يجب تطويرها لتصلح للتعبير عن هذه العلوم، ولهذا المشروع بالذات كرس البستاني آخر أيامه، حيث بدأ تدشين موسوعة لترجمة العلوم التجريبية والفلسفية للغة العربية، وأكمل هذه الموسوعة أولاده من بعده.
لكن هذا الطور من الفكر العربي ما لبث أن صادمته بوارج الاستعمار الأوروبي للشرق، فوجد نفسه أمام تحديات وأسئلة جديدة أفرزت نمطا جديدا من الفكر.
الأفغاني: الشهاب الثائر
بدأ «جمال الدين الأفغاني» تجواله في العالم الإسلامي وهو يرضخ تحت نير الاستعمار الإنجليزي والفرنسي، فكان سؤال رحلته الأصيل «كيف يمكن للعالم الإسلامي مواجهة الاحتلال الأوروبي،والعودة إلى سابق عهده؟» كانت طبيعة الأفغاني الثائرة تحتم عليه الحدة في العديد من الأفكار، كانت مقاومة الاحتلال فريضة فلا يقبل صلته ولا مهادنته، ويعلن أن الأمة الإسلامية الموحدة هي الأساس وهذا لا يمنع وجود قوميات طبيعية لكنها محتواة داخل جسد الأمة ولا تطغى عليها.
هذه الوحدة الإسلامية التى تبناها الأفغاني كانت تطلب التعالي على أي مشكلات وخلافات بين المسلمين، فبرغم كون الأفغاني شديد الحسم في أمور العقيدة، ووقوفه العنيف أمام الفرق المبتدعة في عهده كالبهائية والنيتشرية، إلا أنه كان يتبنى القول بأهمية الوحدة بين السنة والشيعة وكافة الأطياف الإسلامية، والتعالي على خلافاتهم المذهبية.
أما عن موقفه من منظومة الأفكار الحديثة التي كانت تغزو العالم الإسلامي، فقد كان يرى أنها وإن حملت أفكارا صالحة وعلوما حسنة إلا أنها غير صالحة ليتبناها المسلمون، إذ إن كل علم يحمل فى طياته أفكاره وفلسفته، وهذه الأفكار لا تتناسب مع الإسلام، والإسلام وحده كفيل للإجابة عن كافة الأسئلة.
لكن «أي إسلام؟»،هنا تظهر دعوة الأفغاني متفردة، فهو يتبنى إعادة النظر للموروث الديني والبحث عن الإسلام الحقيقي، فموقفه الظاهر أن الإسلام هو السعي لحياة دنيوية وأخروية سعيدة، وأن السعي لابد منتج منفعته المرجوة، ويرفض كافة الأفكار القدرية.
لكن دعوة الأفغانى لإعادة البحث عن الإسلام الحقيقي ستنتقل بشكل أكثر حدة لتلميذه «محمد عبده» الذي ستنهال عليه الانتقادات فيما يخص طرحه عن الإسلام الحقيقي.
«محمد عبده» الذي سينظر للمعتمد البريطاني باعتباره «مستبدا عادلا»، سيخدم الأمة أيما خدمة، وللإسلام باعتباره قابلا للنظر والتفسير طبقاً للعقلانية الأوروبية. سينبني منهج محمد عبده على محورين : الإسلام الحقيقي، وحركة المدنية الحديثة، وسيدعي أنه لا تعارض بينهما. لكن الحقيقة أن تلامذته من بعده سيجدون التعارض واضحا وإن لم يصرحوا بذلك، ليجنح كل واحد منهم لأحد المحورين ويتبناه.
جيل المدنية الحديثة
كان «قاسم أمين» أحد تلامذة «محمد عبده»، الذي سيحرجه مأزق الجمع بين المحورين، فيخرج كتابه الأول «تحرير المرأة» معبراً عن هذا التناقض بشكل غير محسوس، عندما سيتقيد تقيدا شديدا وبحساسية مفرطة في الحديث عن حدود حرية المرأة في الإسلام، ثم يصرح بأنه ما عدا ذلك فعلينا الحكم بما تمليه علينا قواعد العقلانية الحديثة.
لكن كتابه الثاني «المرأة الجديدة» سيكون أشد توضيحاً وعنفاً في الفصل بين المحورين، وسيصرح فيه بأن قواعد المدنية الحديثة وما يمليه العلم التجريبي هما المعيار لمذهبه التربوي.
كانت هذه النزعة أقل حدة عند «لطفي السيد» فيما يخص طرحه التربوي، لكن أطروحته السياسية ستتبنى فكرة «الأمة المصرية» واستحالة وجود «أمة إسلامية» من جديد. لكن «لطفي السيد» لن يعلن هذا الفصام صريحاً، بل سيتجنب الإتيان عليه، إلى أن يأتي «علي عبد الرازق» في كتابه «الإسلام وأصول الحكم» ليتبنى هذا الفصل بوضوح.
فهو يقدم أطروحة تهدم أصلا من أصول الفكر الإسلامي السياسي، هي أن الخلافة ليست بواجبة ولا من أمور الاعتقاد، بل إن الإسلام لم يقم دولة، والنبي، صلى الله عليه وسلم، لم يكن له عمل سياسي، بل هو عمل شرعي وروحي فقط، فلا يوجد دليل على وجود تنظيمات سياسية في العصر النبوي.
نظر للتاريخ الإسلامي والخلافة بنظارة العقلانية الأوروبية الحديثة، ضارباً بالتراث الإسلامي عرض الحائط، وفسر كافة التنظيمات الإدارية التي عرفها التاريخ الإسلامي بمنطق التنظيمات الأوروبية الحديثة وحاكمها إليها.
إن عبد الرزاق ليس أكثر من ظل لعصره، فقد شهد سقوط الخلافة في تركيا، وكان من الطبيعي أن يقف المفكرون المعاصرون أمام موقفين، إما الدفاع عن الخلافة ومحاولة استعادتها، وإما نكرانها واعتبارها من مخلفات العصر البائد. وعبد الرزاق تخير طريقه، وسيأتي من بعده جيل من أنصار العلمانية الشرسة أمثال شبل شميل وفرح أنطوان.
مهمة حوراني الصعبة
يمضي «حوراني» في هذا الكتاب مهمته بالتأريخ لمحطات أساسية مر بها الفكر العربي في عصر النهضة بين عامي 1798و 1939، موضحاً الأسئلة الرئيسة التي تبناها المفكرون في مراحلهم المختلفة والظروف التي عاشوا بها.
فيشير إلى أن القومية الإقليمية التي سيتبناها غالبية مفكرو العالم العربي في مرحلة ما ستكون منفكة عن الدفاع عن الحقوق الشعبية، وسيرتكز فكر الليبرالية العربية على التحرر من المحتل بصورة لا تفصل البلاد العربية عنه تماماً بل تكون منه متعلما وله تبعا، بانسحاب القوات العسكرية فقط كمظهر للاستقلال، وإن ذلك كان ظلا طبيعيا للعصر الذي شهدته الدول العربية آن ذاك.
بيد أنه يسأل عن ظهور مفكرين معاصرين له، يعيدون طرح الفكرة الإسلامية وتبنيها وتفنيدها من مداخل مختلفة في كتاباتهم أمثال «مالك بن نبي»، فهل يملك هؤلاء وضع نسق فكري مواز، أم هو مجرد حنين للماضي؟
إن ما قام به «حوراني» في هذا الكتاب ليس بالأمر اليسير، فالتأريخ للفكر ربما يكون من أصعب أنواع التأريخ، ونستعير هاهنا عبارته هو نفسه «أن الأفكار السياسية لا توجد غالباً على النقاوة، بل تكون ممتزجة بغيرها، لا بل بأضدادها».