قرية «العراقيب» الفلسطينية: 13 عامًا من الصمود
حين تُبنى البيوت وتتراكم فتكوّن قرية يصبح الزمن هو العدو الأول لها، ثم الكوارث الطبيعية كالزلازل مثلًا، لكن من دون هذين العدوّين فإن البيوت تظل صامدة. إلا في قرية فلسطينية عرفت الهدم قبل أن تعرف البناء، فصار الهدم هو علامة الصمود، وإعادة البناء ليست مجرد إعادة إعمار، بل إعادة بعث للروح الفلسطينية، وإشعال جديدة لجمرة ظنّ المُحتل أنه أخمدها بآلياته وبمراكمته الأحجار فوق بعضها. لم يدرك أن الحجارة الفلسطينية مقاومةٌ بطبعها، وأن الركام الفلسطيني له روح تمنحه القدرة على القيام من جديد.
فعلى مدار 13 عامًا، هدم الاحتلال الإسرائيلي قرية العراقيب ما يصل إلى 205 مرات. القرية تقع في شمال مدينة بئر السبع، في صحراء النقب جنوب فلسطين، ويتمسك الاحتلال بنفس الدافع للهدم كل مرة، أنها قرية غير معترف بها. القرية واحدة ضمن 45 قرية تحيط بها، ويحاول الاحتلال بشكل حثيث إجلاء السكان منهم.
خصوصًا أنهم جميعًا يقعون في صحراء النقب التي تمثل أهمية استراتيجية للاحتلال. وتزداد أهميتها يومًا بعد الآخر. بجانب وجود مفاعل ديمونا النووي في النقب، فإن الاحتلال يسعى لزيادة تواجده العسكري فيها. كما تحاول إسرائيل زيادة نسبة المصانع فيها. كذلك توجد عديد من المزارع الشمسية، والصوب الزراعية. تمضي إسرائيل في ذلك المخطط رغبة منها في جذب الإسرائيلين إلى صحراء النقب، كمحاولة للتغيير الديموجرافي فيها، واستبدال العرب باليهود، والفلسطيني بالإسرائيلي.
فصحراء النقب تمثل 60% من مساحة إسرائيل، لكن يسكن فيها 8% من السكان فقط. الإحصائية أعدّها الصندوق القومي اليهودي. وهو الجهة التي تملك حق شراء مناطق معينة وتحويلها لمستوطنات يهودية. لهذا يهدف الصندوق لتوطين قرابة نصف مليون يهودي في منطقة النقب. وأولى خطوات هذا التوطين هي التخلص من كل القرى التي لا تعترف بها إسرائيل.
حرمان من الحياة
حاول الاحتلال في البداية السيطرة عليها بموجب قانون حيازة الأراضي الصادر عام 1953. وأعلنت أنها تعتبر أن كل أراضي النقب التي كانت مأهولة في الفترة ما بين 1948 وعام صدور القرار هي أراضي مملوكة للاحتلال. وبذلك صادرت ما إجماليه 250 كيلومترًا مربعًا من تلك المنطقة.
لإخراج أهالي تلك المناطق قامت إسرائيل باتباع نهج التهجير القسري، باستخدام أساليب متباينة من التهديد والعنف. والخداع أحيانًا ففي عام 1951 أمرت الحكومة الإسرائيلية السكان بمغادرة منازلهم لمدة 6 أشهر بزعم إجراء تدريبات عسكرية في المنطقة، لكن بعد مرور الشهور الستة لم يُسمح لأي منهم بالعودة وتمت مصادرة أراضيهم.
ولأن الاحتلال لا يعترف بمن صمد من السكان، ولا بقرية العراقيب رغم أن مساحتها تتجاوز 200 كيلو متر مربع. فإنها محرومة من المياه والكهرباء والمواصلات والتعليم، وغيرها من المرافق الآدمية.
نتيجة لذلك الحرمان ظلت القرية محتفظة بالجانب الصحراوي، وما يرافقه من الطبيعة البدوية والاشتغال برعي الأغنام. وتسكن العائلات الفلسطينية في شبه منازل من الصفيح وقطع الأخشاب. كانت الـ22 عائلة المتآلفة من قرابة 1000 فرد، هم سكان القرية، يسكنون في منازل من الطوب سابقًا، لكن مع تكرار هدم الاحتلال للقرية وبيوتها، صار من الصعب إعادة البناء بالطوب والأساسات المُسلحة كل مرة.
ففي 27 يوليو/ تموزعام 2010 وجد أهالي القرية أنفسهم أمام الجرّافات الإسرائيلية وجهًا لوجه. مكبرات الصوت تُخلي البيوت من ساكنيها بحجة البناء دون ترخيص. قبل أن يدرك أهالي القرية ما يحدث، كانت الآليات الإسرائيلية قد فتكت بما يقارب الـ40 منزلًا. بعد تلك الأربعين تتابع إخلاء باقي البيوت من ساكنيها، فأخلت مئات البيوت، في بعض التقديرات وصلت إلى 300 منزل، وكلهم بنفس حجة البناء دون ترخيص.
المطالبة بثمن الهدم
وبعد عملية الهدم بدأت إسرائيل بمطالبة السكان بملايين الدولارات لتغطية تكلفة الآليات التي شاركت في الهدم. وينظم الأهالي مظاهرة أسبوعية كل يوم أحد اعتراضًا على هدم منازلهم. ويتلقون في ذلك دعمًا من جهات أخرى تتكفل بإعادة بناء البيوت في كل مرة يقوم الاحتلال بهدمها، فلقد أصبحت العراقيب رمزًا مهما للنضال الفلسطيني، وللصمود في وجه رغبة المحتل في فرض هويته على فلسطين.
قبل الهدم الأول شهدت القرية إصابة 4 من سكانها واعتقال 15 آخرين، بعد أن تصدّوا للشرطة الإسرائيلية التي كانت ترافق موظفين يهودًا أرادوا دخول القرية وغرس بعض الأشجار في الأراضي كإشعار عن مصادرتها. وبعد الهدم الأول بأسابيع قليلة عادت القوات الإسرائيلية للقضاء على ما تبقى من المباني، وهدم ما أعاد الأهالي إحياؤه من المنازل، واعتقلت 8 أفراد من سكان القرية.
بعد فترة تدخل فلسطينيو أرض 48 وقرروا المساهمة في إعادة بناء القرية بالكامل. رغم تعرضها للهدم 4 مرات متتالية. وبعد شهور أخرى عاد الاحتلال مرة أخرى بآليات عسكرية رفقة آليات الهدم لتشجير المنطقة وهدم ما أمكن من المنازل. وهكذا استمرت الدائرة حتى عام 2020. في يوليو/ تموز أيضًا، لكن عام 2019، كانت مرة جديدة يهدم فيها الاحتلال القرية. وفي 28 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2020 كانت المرة الأخيرة حتى الآن.
وبين كل هدمٍ وهدمٍ فإنه يغض الطرف عن هجمات المستوطنين والمتطرفين على سكان وبيوت أهل القرية. لكن حتى بعد أن أزال الاحتلال البيوت بجرّافاته، فإنه لم يستطع اقتلاع السكان من رمال قريتهم.
لن يخرجوا إلا جثثًا
فالسكان يملكون أوراق ملكية للأراضي صادرة أيام الحكم العثماني، ويقولون أن مقبرة القرية نفسها موجودة منذ بداية القرن التاسع عشر الميلادي. فلا يمكن أن تكون القرية ملكًا لكيان لم يكن وجودًا وقت ميلاد القرية.
كذلك يخوض سكان القرية صراعًا آخر من المحتل، صراع الدعاوى القضائية. يدركون أنه لن يعطيهم حقهم، فالمحاكم إسرائيلية والقانون كذلك، لكنهم رغم ذلك يرفعون الدعاوى المتتابعة لإثبات حقهم في ملكية الأراضي التي تحاول إسرائيل سلبها منهم. وتتعامل إسرائيل مع تلك القضايا بشكل جاد، لا لرد الحقوق لأصحابها، لكن لمحاولة التوصل لحل نهائي يمنع الفلسطينين من المطالبة بتلك الأراضي.
من الحلول التي توصل إليها المُحتل هو إنشاء ثمانية تجمعات كبرى لتجميع كل البدو فيها مقابل خروجهم من قراهم، التي ينص القانون الإسرائيلي بوضوح على أنه لا ملكية للبدو في أراضيهم. وتستهدف إسرائيل بذلك جمع قرابة 100 ألف فلسطيني من البدوي في تلك التجمعّات. لكن رغم صعوبة الحياة في القرى غير المُعترف بها، فإن السكان يرفضون الخروج، ولأنهم يدركون أن الخروج منها يعني السماح لإسرائيل بفرض وجودها على المنطقة من الناحية الديموجرافية والتاريخية.